كتب و روايات عن لا شئ تقريباً

كتب و روايات عن لا شئ تقريباً

المحتويات [إظهار]


في كتابه انحسار فن الرواية، قال جوزيف بوتوم كلمات طالما شعر بها كل قارئ روايات أن: الرواية تموت، إن لم تكن ميتة ؛ ولم يعد الخيال وسيلة مفيدة للتعامل مع الواقع.

و يستهل قائلا: " طوال 300 سنة تقريبا، كانت الرواية شكلاً فنياً رئيسياً، للعالم الحديث -الأداة التي بواسطتها... حاولنا أن نشرح أنفسنا لأنفسنا".  مثَّلت الرواية نضجاً لفن حكاية القصص: بلوغ الخيال لأقصاه، عن طريق أخذ القارئ إلي خفايا النفس الإنسانية. و الآن، هذا الشكل الفني على فراش الموت. والقراء الدائمون يبحثون فيها عن شيء آخر -التسلية والترفيه -أكثر مما كان يسعى إليه قراء جين أوستن أو شارلوت برونت أو ديكنز أو كافكا في الماضي.

تخيل بوتوم أولاً تحليله النفسي للرواية كدراسة حالة حول الأهمية للبروتستانتية فى إضعاف الثقافة في الحياة الأميركية والأوروبية.  كونه كاثوليكياً، يشرح بأن الرواية بدأت وتكفلت بنفسها لمدة 300 عام بمهمة كشف "النفس السميكة في كون رقيق". « و كان الاصلاح البروتستانتي قوياً في بداياته حتى للذين لم يكونوا من الپروتستانت.

يقول بوتوم بأن « أول رواية معروفة بشكلها الحديث»، دون كيخوته لسيرفانتس، هي « كاثوليكية »، و يقترح بوتوم أن الشكل ظهر في النهاية كشكل فني للغرب البروتستانتي الحديث. « الرواية الحديثة... ظهرت إلى الوجود لتقديم القصة البروتستانتية للنفس الفردية وهي تجاهد لفهم خلاصها وتحقيق تقديسها، كما يتضح من الرحلة المتوازية للشخصيات ذات الطراز الجديد، بما لديهم من تصميم لدواخل النفس متقن، و هم يتجولون خلال مغامرتهم في العالم الخارجي ».

كان الدافع وراء نمو الرواية هو الاعتقاد بأن المجتمعات كانت تندفع إلى الأمام بثقة، ويساندها عبادة التقدم التي كان من المعتقد أنها تنقل البشرية إلى منزلة أخري بدلاً من الضياع.

الأهم من ذلك كله، فإن الرواية نمت إلى شكل فني عظيم لأنها وعدت بشيء أكثر من القصص التفصيلية عن النفس الحديثة … وكانوا يصفون، بإلحاح متزايد، ما يبدو وكأنه أزمة تلك النفس الحديثة. وعلى أعلى المستويات وأخطرها، كانوا يعرضون حلولاً للأزمة.... الرواية كشكل فني يهدف إلى إعادة السحر فقد جوععت إلى أن تجد أو تخلق بقصصها نوعاً من الوهج الذي يضيء أجساد العالم، و ثقل للمعني الجوهري للحقائق التي تحولت إلى مجرد وجود ضئيل بسبب تحول العالم الحديث إلى العلوم التكنولوجية، والحكم البيروقراطي، والاقتصاد التجاري.

إذ تصور الحداثة العالم الطبيعي باعتباره عالماً فارغاً من المعني، و بذلك يصبح البحث عن أهمية الطبيعة -بحكم تعريفه- خارقاً للطبيعة. إذ كان الحضور المادي محدَّدا بوجوده العلمي المحض... و بذلك يصبح البحث عن معنى في الوجود المادي شيئاً ميتافيزيقي. وإذا فهمنا العالم العلماني باعتباره مجرد ترتيبات اجتماعية تعسفية يفرضها الأقوياء، فإن محاولة الكشف عن القيمة الاجتماعية لابد أن تثبت أنها دينية.

و لذلك فإن الروايات لم تعد تشعر وكأنها أدوات عملية للتعامل مع عصر فقدت فيه الميتافيزيقيا زخمها. "إن إنحطاط مكانة الرواية يعكس ويؤكد … أزمة جديدة نشأت نتيجة لفشل الثقافة المتزايد في العصبية الفكرية والشكوك القاطعة بشأن تقدمها. « مع تقدم الحداثة »، صار عالم الداخلى السميك للذات يبدو بشكل متزايد غير متطابق مع العالم الخارجي الفقير، و مجرداً من كل السحر القديم الذي جعل الاشياء الخارجية تبدو ذات مغزى وأهمية.... وهذا ما نعنيه بأزمة الذات: لماذا كل شيء مهم، وما الذي يمكن أن يكون مهماً، إذا كان المعنى مختلقاً، نابعاً من الذات عوضاً عن إلى الذات؟ "

متتبعاً بداية التفسخ إلى العقد الأخير من القرن العشرين، عندما بدأت البروتستانتية تنهار في مختلف أنحاء الغرب. يكتب: "من بين المؤلفين الذين نشروا روايات منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين،" أصبح لا أحد ملزم بالقراءة ".

بروباجندا! حقاً، شعرت في الآونة الأخيرة أن عدداً كبيراً من الكتاب الذين ما زلت أقرأ عنهم محملين بمواهب هائلة من التوصيف والحوار و الشاعرية والتخطيط ..إلخ، ولكنهم يفتقرون إلى القدرة الأكثر حيوية المطلوبة من الروائي: القدرة على صياغة معنى يتجاوز صفحات الكتاب. تبدأ كتبهم بشكل جيد، ثم تندفع نحو السياج الأول، وتقدم وعداً كبيراً حتى بعد منتصف الطريق ــ ولكن بعد ذلك يبدو أنها تبدأ في البحث حول نفسها عن طريق العودة إلى المنزل، وتقدم عادة ما يعادل أدبياً لمشاهد إطلاق النار أو مطاردة السيارات لإخراج كتبهم من ورطة ما بعد الحداثة. وكأنما هؤلاء الكتّاب يستطيعون أن يكتبوا أي شيء ما عدا شيء يعد بشيء يستحق الوعد به. ويبدو أنهم يخشون أن يكتبوا أي شيء قد يطعن في المعنى الميتافيزيقي، مفضلين الإبقاء على جبهتهم معتمة بقماش أسود عاتم، إذا انتشرت بين أقرانهم كلمة تقول إن مثل هذه الكلمة أصبحت "دينية بعض الشيء".

والروائي المجري لازلو كرازناهوركاي هو من بين الأصوات القليلة المثيرة للإهتمام التي لا تزال تقدم عمل روائئي مكتمل كما عرفناه، أولئك الذين خاضوا في بالوعة ما بعد الحداثة وغرقوا أنفسهم في رائحتها النتنة واللامنطقية على أمل اختراق ما هو على الجانب الآخر بشكل عرضي. وأود أن أذكر أيضا جورج ساندرز الأمريكي والفرنسي ميشال هويليبك -أنصار ما بعد الحداثة، حيث أنهما يسعيان إلى التفكير في طريقهما إلى نهاية المراوغة لما بعد الحداثة، ربما بهدف بناء مدينة جديدة على الجانب الآخر.

في روايته التي نشرت في عام 1989 بعنوان "سوداوية المقاومة"، ; كما لو كان عازماً على التعبيرعن التكرار المطلق للشكل، أنهى لازلو قصته عن نهاية العالم و إنكار وجود الإله بوصف مطول للتحلل الكيميائي لجسم الإنسان. يحدد بوتوم ما قد يكون متلازمة ات صلة في الكاتب الأميركي الراحل توم وولف (الذي كان معجباً به)، وهي نقطة ميتافيزيقية ناشئة عن غياب إطار أخلاقي يمكن من خلاله قياس المسافة بين الأحداث والأمور وبين المثل الأعلى. يقول وولف: "نحتاج إلى ثقل أكبر مما يبدو عليه العالم". فهو "يحتاج إلى" البروتستانتية"، أو المعنى المتمثل في نموذج أساسي من الأخلاق، حيث يستطيع الكاتب أن يضع على أساسه شخصياته وتجاربها، وعلى أساسه نستطيع نحن القراء أن نقيس ما يقوله لنا. لكنه غير موجود يكتب بوتوم: « بدلا من ذلك، يكتشف أن الثقافة العصرية تفشل في العصب، وتفسد محاولة الذهاب الى حيث نريد». " و لذلك فإن نهاية رواية توم وولف عادة ما تكون كارثة، أو على الأقل سقوط بسيط، لأن المصادر اللازمة لاستنتاج قصة تبرير وتقديس لا وجود لها بالنسبة له".

ومع ذلك، قبيل وفاة وولف في عام 2018، وصفه بوتوم بأنه "أعظم روائي حي في أميركا." أود أن أقول إنه، ولأسباب مختلفة تماما، فإن لازلو وهوليبيك هما أعظم وأهم الروائيين في العالم الآن. نوعاً ما ويبدو أن كلاً منهما يفهم ضمناً المشكلة التي طرحها بوتوم بوضوح، وكل منهما يسعى بطريقته الخاصة إلى حل المعضلة من خلال فرض ميتافيزيقيا من الخيال لملء الفراغ. ويبني هوليبيك عوالم يحتقر فيها التفوق ويستولي عليها رغم ذلك ؛ والواقع أن لازلو كراشناهوركاي يستبعد المشكلة، ولكن في قيامه بذلك يخلق نصباً تذكارياً في الكتابة إلى حالة الحداثة على نحو لم يسبق له مثيل كمثل أي روائي آخر صادفته من قبل.

ففي حين تُرِك فن الرواية في الأغلب الأعم ليتم إفساده لصالح مصطلحات الأنا، والعدمية، والجماليات الزائفة، فإن استخدامات الرواية سُرِقَت بواسطة منصات أقل ثقافة  وغير قادرة على تلبية الإحتياجات الأساسية لفن الرواية: كالسيرة الذاتية الشعبية، والصحافة الجديدة، وروايات الكوميكس، وروايات الخيال العلمي. وكل منهما كان يلمح إلى نفسه باعتباره وريث فن الرواية، ولكنه سرعان ما كشف عن نفسه باعتباره فاجراً آخر من أبناء الشامان، وقريب دم بلا هبة. ولا تزال الروايات تُنشَر -رغم انها تثير احيانا الاهتمام، او تنجح، او حتى تثير الجدل -ولكنها لا تحرك العالم كما فعل ديكنز أو أوستن. هذا الفشل, يكتب بوتوم, "يشير … نهاية الثقة حول قيم الماضي وأهداف المستقبل لما كان يعتبر نفسه ثقافة غربية." كأنه يتم توصيل الرواية في العناية المركزة بأجهزة التنفس الصناعي واستدعيت الأسرة (الجميع تقريبا) إلى جانب السرير.
 
ولهذه الأسباب ولأسباب أخرى، فإن روايات اليوم هي في معظمها كتب عن لا شئ، كتبها مقلدون مهووسون مبالغون بقدرتهم الروائية بدلا من إهتمامهم الفعلي بفن الكتابة، مجردون من الطموح الفني ويعيشون على أبخرة أمجاد الماضي. ولكن بوتوم لا يزعم أن انحطاط الرواية يعني بالضرورة أن كتبة الماضي أظهروا قدراً أعظم من العبقرة مقارنة بكتبة الحاضر. وهو يذكر على سبيل المثال الكتاب الذين نستطيع أن نعتبرهم خلفاء عظماء لكتبة الماي: نايبول، فارغاس لوسا، بايات، بنشون، روث، ديللو، كويتسي، روبنسون، أميس، رشدي، مكارثي، موراكامي، يوجينيدس. فهو يقول إنهم رغم موهبتهم يمثلون في عصرنا شيئاً مختلفاً عما أشار إليه ديفو، أو ديكنز، أو أوستن، أو فوكنر، أو همنجواي، أو ستاينبيك، أو مان.

"أعتقد أن كل هذا يمثل شهادة على المشكلة الراهنة المتمثلة في عدم إيمان الثقافة في حد ذاتها، و المستمدة من تلاشي الأفق الزمني … بدون حس بالأهداف القديمة والأسباب … ولم يتبق سوى الجرائم التي ارتكبتها الثقافة في الماضي لتصل إلى ما هي عليه الآن. إن هذه الخطايا التي لم يخففها الإنجاز، والتي لا يفسرها الغرض، لابد وأن تبدو ساحقة: تعريف الثقافة ذاته. « اذًا، إلى اين نذهب؟ « فلمَ ينبغي أن نكتب أو حتى نقرأ رواية خيالية عن الفهم العميق لإتجاهات الحضارة والذات؟ ».

قبل ثلاثة عقود من الزمان، ربما كنت لتفكر ثلاث مرات قبل أن تجلس في حفلة عشاء مع مثقفين دون أن تقرأ آخر ما كتبه توم وولف أو ديفيد فوستر والاس، ولكن لا توجد مثل هذه المجازفة في عمل أي كاتب روائي اليوم. ولا أحد يشعر بالسوء حيال ذلك، فإن ترسيخ الأدب لم يعد شرطاً أساسياً للحصول على تعليم مقبول.

المشكلة تكمن في القراء أولاً، وبالتالي في الكُتّاب. في الوقت الحاضر، يقول بوتوم، كلنا نمشي ورؤوسنا منخفضة.

بالطبع أنا أعرف، كما تعرفون، عدد من قراء الروايات المتفانين اليوم. لكنني لا أعرف، وأظن أنك لا تعرف الكثير ممن لا زالوا يقرأون الروايات بالمعنى القديم: فقراءة الروايات باعتبارها جزءاً ضرورياً من المشاركة في الحياة العامة، أقرب (وأكثر أهمية من ذلك) إلى الأخبار . أو القراءة الروائية باعتبارها بحثاً عظيماً عن نظرة ثاقبة في حالة الإنسان، أشبه بالتحليل الفكري الجاد للأخلاقيات، والنظرية السياسية، وعلم النفس (أو على الأقل توفير المادة الخام). أو قراءة الروايات باعتبارها فرصة لمشاهدة المؤلفين يؤدون أعمالاً بطولية في مجال النظافة الثقافية.

والواقع أن انحسار فن الرواية ينطوي على بعض العيوب البنائية، يتصل أغلبها بحقيقة أنها مبنية حول عدد من المقالات الموجودة من قبل والتي لم يتم استيعابها بشكل كافٍ في الكتاب. من السهل أن نعترض على فرضية واسعة النطاق، ولكنها تكشف قدراً عظيماً من الحقيقة.

قد يجادل البعض بالقول أن العديد من أسباب تدهور الرواية هي أكثر وضوحاً و إتصالاً بتكنولوجيا المعلومات. من المؤكد أن وسائل الاتصال الجماهيري حولت الناس بالفعل إلى طرق أكثر سطحية لفهم الواقع، الذي فقد الكثير من إحساسه السابق بتعقيده الذي لا حدود له. فتقلص الفهم على الأقطاب البشرية دمر الغموض الذي كان في يوم من الأيام قوة الخيال العظيم. ومن المستغرب ألا يشير بوتوم إلى الفرويدية وأثرها على الخيال العام الغربي. فالتحليل النفسي يقدم أداة مفيدة في كل شيء يتعلق بالإنسان، مما قلل من الإحتمالات المتعلقة بالعمل البشري في علم الأمراض المفهومة والعمليات الميكانيكية المشفرة. في هذا المجال، تم تخفيض قيمة الروائي الذي كَانَ مُبجّلَ يوماً ما إلى هواة متلعثمين.

وينبغي لنا أيضاً أن نتذكر أن الرواية كانت تنبت أنيابها لمضغ المعاني في أوقات كانت لولا ذلك تخلو من أشكال التواصل العام والتبادل الثقافي. منذ البداية كانت هناك مشكلة ولم يتطلب الأمر إلا في وقت لاحق مدلولاً جمالياً وثقافياً، وحساً من الدهاء -وبحلول ذلك الوقت كانت قد بدأت تتحول إلى قطعة أثرية من فضول متناقص بشأن ما بدا غامضاً لدى الإنسان.

إن فن الكتابة أيضا قد مر بتحولات فقد أصبح في المقام الأول نشاطاً يسعى للتعامل مع الواقع إلي فن يتم التعامل معه للحصول على وضع إجتماعي فقط. إن فكرة "العمل ككاتب" في أيامنا هذه تبدو أكثر أهمية من تعلم حرفة، أو إتقان موهبة، أو صقل النظرة إلى العالم. والآن يقدم الكاتب المتمني نفسه للمهندسين الإيديولوجيين لوسائل الإعلام والأكاديميات، حيث يقدم الدعم لتدخلات حتمية في الخطاب الذي يدور حول إعادة تشكيل العالم بدلاً من التحقيق فيه.

ومن ناحية أخرى، يتخذ الواقع، كما يعرض من خلال وسائل الإعلام، جودة متجاوزة للخيال على نحو متزايد، حيث يتفوق يومياً علي أكثر الجهود بعيداً حتى عن أكثر الفنانين إبداعاً. ويبدو أن الرواية التقليدية بدت بطيئة ومضللة، ويبدو أن أدب من نوعية مثل الجريمة، والرعب، والخيال العلمي قادرة على دعم الاهتمام المتزايد الذي يوليه الجمهور المطالع لهذا التصاعد.

بإختصار، عندما ألغى الروائي فكرة الله، أخفي عنصر الغموض، بما في ذلك سر ذاته. فأصبح مقتنعا بذكائه المتزايد، حتى تقلصت مخيلته وجفت. فتوقفت قصته التي لم تكن قادرة على تحقيق نهاية واضحة.

مقال لجون ووترز كاتب ومعلق ايرلندي، ومؤلف عشرة كتب، وكاتب مسرحي.

قد تُعجبك هذه المشاركات