فلسفة الحرب : القومية و الفلسفة التحليلية

فلسفة الحرب : القومية و الفلسفة التحليلية

المحتويات [إظهار]
فلسفة الحرب : القومية و الفلسفة التحليلية


هل ينبغي للفلسفة أن تعبر عن النزعة القومية للشعب؟ كانت فلسفة برتراند راسل ‹ العلمية › حصناً ضد القومية

في تشرين الثاني/نوفمبر 1914، ألقى برنارد بوسانكيه الخطاب الافتتاحي للدورة السادسة والثلاثين لجمعية أرسطو. و سمّى بوسانكيه -وهو شخصية بارزة في فلسفة المثالية البريطانية- حديثه بـ "العلم والفلسفة". كان هذا إسم أحد فصول كتاب برتراند راسل الأسطوري "معرفتنا بالعالم الخارجي" (1914) الذي سعى فيه راسل إلى وضع نموذج لطريقة "علمية" جديدة لتطبيق الفلسفة جعلت التحليل المنطقي للإفتراضات أمراً أساسياً. وسيعرِّف هذا الاسلوب المنطقي ما نعرفه اليوم باسم الفلسفة التحليلية.

ومن المدهش أن شكوى بوسانكيه فى كلمته الافتتاحية بشأن منهجية راسل كانت سياسية بحتة. حيث جادل بقوله أن المنهجية "العلمية" ستجعل حتما الفلسفة "عالمية الطابع وخالية من النزعة القومية الخاصة". وبما أن المنطق والعلم بشكل عام لا يحترمان حدوداً سياسية أو ثقافية، لا يمكن أبداً ان تكون فلسفة راسل تعبيرا مميَّزا لشخصية شعب من الشعوب. و هذه كانت مشكلة بوسانكيه، فقد رأى أن "الفلسفة، لكونها مثل اللغة والفنون والشعر نتاجاً للإنسان كله، ستفقد بعضاً من جوهرها إذا ما فقدت شخصيتها الوطنية". كالمثالية البريطانية للبريطانيين، والمثالية الألمانية للألمان.

إن الكوسموبوليتية (العالمية) التي تصور بوسانكيه أنها جزء لا يتجزأ من منهجية راسل الفلسفية لم تكن وهماً. فقبل أسبوعين من هجوم بوسانكيه فى الجمعية، ألقى راسل محاضرة في أوكسفورد ستنشر تحت عنوان 'عن الطريقة العلمية في الفلسفة'. تُذكر اليوم بأنها نداء للتسلح من أجل  عدم التهاون في التحليل المنطقي، وقد أعادت صياغة بشكل كبير نظرتنا المنهجية نحو معرفتنا. مقالة (راسل) ليست سياسية بشكل علني. ولكن على انفراد، قد أخبر راسل أحد زملائه أن هذا الخطاب كان ‹ مستوحى جزئيا من اشمئزازي من الإستنفار العالمي ‹ للورع و الإستقامة› في كل الامم منذ بداية الحرب. ولكن يبدو أن جوهر تلك الفضيلة هو الاضطهاد، وقد جعلني ذلك أشمئز من جميع المفاهيم الأخلاقية، والتي من الواضح أنها مفيدة بشكل رئيسي كذريعة للقتل. "  وصف المحاضرة بأنها "مستوحاة من تعطش للدماء من أساتذة الجامعات هنا وفي ألمانيا. ألقيت المحاضرة في اوكسفورد، وأحدثت كل الاشمئزاز الذي تمنيته عالمياً."

قد يبدو غريباً أن نجد راسل يتحدث عن الحرب والقتل في سياق محاضرة عن ــ كل الأشياء ــ المنهجية الفلسفية. ولكن بوسع المرء أن يرى نشوء هذه المخاوف بشكل مباشر في مقطع واحد على الأقل من المحاضرة ذاتها. وكان راسل قد عقد تناقضاً بين منهجيته العلمية ومنهجية أولئك الذين دمجوا عنصراً أخلاقياً قوياً في فلسفتهم، فشبهوا هذه الفلسفة بغراند الكبير - وهي شخصية من رواية عزاها إلى الفيلسوف الصيني تشوانغ تزو-. كان غراند الكبير يقدم حججاً من الواضح أنها تخدم مصالحه الذاتية لذبح بعض الخنازير: هذه الحيوانات يجب أن تكون ممتنة لذبحها لأن 'الموت على درع حرب' هو دائما 'شرف'. ويتلخص اقتراح راسل في أن الفلسفة الأخلاقية لا تقدم أكثر من حجة تخدم مصالحها الذاتية لتبرير العنف القومي. والأكثر من ذلك أن راسل اعتبر بوسانكيه نفسه مثالاً لذلك النوع من الأخلاق الميتافيزيقية التي أراد أن ينبذها. وفي الدوائر المغلقة، أشار راسل إليه بمقال سماه "فلاسفة وخنازير"، لعلك تعرف الآن من المقصود بالخنازير.

والواقع أن مخاوفه السياسية تصبح منطقية عندما نضع في اعتبارنا توقيت كل هذا. لقد تم الهجوم على (بوسانكيه) وسط الأحداث المزلزلة التي كانت مع بداية بريطانيا دخول الحرب العالمية الأولي. هذا الزلزال لم يهز مشاعر الجنود في ساحة المعركة فحسب لكنه عمل على زعزعة مشاعر المثقفين، ومن شأنها أن تغير بشكل دائم اتجاه المساعي المجردة التي قد تبدو بعيدة للغاية عن شواغل الحرب، مثل النظرية المعرفية والميتافيزيقية. ففي نظر راسل، كانت القومية هي الشرارة الحاسمة للعنف، وكان يعتبر الفلسفة العلمية أداة لمعارضتها.

وفي الوقت الذي ألقى بوسانكيه فيه خطابة بجمعية أرسطو، نُشرت مؤخرا نظريته الفلسفية للدولة (1899) في طبعتها الثانية. وكثيراً ما يُنظَر إلى هذا العمل باعتباره عمل شديد الإنحياز للفلسفة السياسية المثالية. فبالنسبة لبوسانكيه، كانت "الدولة القومية" هي "المجتمع الأمثل" والمصدر النهائي للسلطة. فقد زعم أن "العلاقات الأخلاقية تفترض مسبقاً حياة منظمة"، ولكن الحياة المنظمة غير ممكنة إلا في المجتمع القومي الوطنى. وأثناء الحرب العالمية الأولى بشكل خاص، سوف يُنتَقَد هذا النهج لأنه يبدو وكأنه يجعل من العلاقات الدولية -عند التعامل على أساس قومي- مسألة فوضوية، وكان من المعتقد أن الدعوة المثالية لإقامة دولة قوية تقدم دعماً ضمنياً للنزعة المثالية الألمانية القتالية أثناء الحرب ولدخول بريطانيا إليها.

فقد انضمت بريطانيا إلى الحرب قبل أربعة أشهر من هجوم بوسانكيه على راسل، لذلك لم يكن من الممكن تجنب السياسة في مؤتمر جمعية أرسطو. وكان رئيس الجمعية في ذلك العام آرثر بلفور، رئيس الوزراء المحافظ السابق، وأحد المساهمين المنتظمين في المجلات الفلسفية مثل مجلة مايند. وسرعان ما أصبح بلفور وزيراً لخارجية بريطانيا، وهو المنصب الذي شغله طيلة الفترة المتبقية من الحرب. و على الصعيد الآخر، كان راسل معروفاً بدعوته العلنية المتحمسة نحو الحياد البريطاني. فبعد عودته من جامعة هارفارد في صيف عام 1914، شرع في جمع توقيعات أكثر من ستين  أستاذ في جامعة كامبريدج في رسالة حث فيها بريطانيا على عدم الخروج إلى الحرب. وتشكل هذه الرسالة، التي نشرت في 3 آب/أغسطس، النداء الوحيد المعروف من جانب الأكاديميين.

دخلت المملكة المتحدة الحرب في اليوم التالي. وبحلول نهاية الأسبوع، أقر مجلس العموم قانون الدفاع عن المملكة (DORA)، الذي أعطى الحكومة سلطات واسعة في زمن الحرب -بما في ذلك رقابة المواطنين. وفي عام 1916، كان راسل سيُفصل من منصبه في كلية ترينيتي، كامبريدج، بعد إدانته في قانون DORA ، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى حملة في الجامعة قادها  فيلسوف المثالية البريطانية (جون مكتاغرت) قضى بسببها راسل ستة اشهر في السجن بسبب مساندته الصريحة لمبدأ الحياد.

انتقد المؤرخون الجدد الفلسفة التحليلية لابتعادها عن الشؤون العامة خلال القرن العشرين الطويل. فقد اتُّهِم بعض كبار مؤيديها، مثل ويلارد فان كواين، بوضع أنفسهم في شرنقة بمنهجية كانوا فخورين بكونها غير سياسية، وخاصة أثناء الفترات التي كان الأكاديميون يتعرضون فيها للهجوم بسبب تعاطف يساري مزعوم، كما حدث أثناء عهد جوزيف مكارثي. حتى أن أحد المنتقدين البارزين (الفيلسوف جون مكومبر) قال أن المشاعر المعادية لألمانيا في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى قد شابهت إلى حد كبير المشاعر المناهضة للشيوعية أثناء سنوات مكارثي في الولايات المتحدة في النقد اللاعقلاني، لكن دعنا لا ننكر أيضاً أن تأسيس الفلسفة التحليلية ذاتها ــ بما في ذلك  ما بدأت به بين أيدي راسل ــ كان أيضاً ملوثة بشوائب سياسية تخدم مصالحها الذاتية.

لكن في الحقيقة، هذا يجعل الأمور معكوسة تماماً. كان احتجاج راسل ضد الحرب واسع النطاق إلى الحد الذي دفعه إلى تكبد تكاليف فقد وظيفته، فضلاً عن حريته الشخصية لبعض الوقت. وكان دوائه الذي قدمه نظرياً لداء الانتقادات الطائفية اللاعقلانية بين الدول الأوروبية يتلخص في محاولة إظهار الكيفية التي قد يعمل بها المنطق كلغة دولية يمكن استخدامها بنزاهة للفصل في النزاعات. وكان هذا الترياق النظري هو الفلسفة التحليلية.

إن الإختلاف مع بوسانكيه كان مفيداً. وفي مقطع من النظرية الفلسفية للدولة التي كانت ستنبئ بهجومه اللاحق على راسل، شجب بوسانكيه "فكرة اللغة العالمية" التي، بوصفها "بديلاً للغات الوطنية" … ستعني وجود مستوى من الذكاء لا يتناسب مع كل عقل قومي حقيقي، وإتلاف الأدب والشعر. ' راسل لم يكن في نيته أن يكون المنطقية العالمية تصبح لغة الأدب والشعر، ناهيك  عن سعيه لتدمير تلك الممارسات. غير أنه كان ينوي إلى حد كبير أن تقضي منهجيته "العلمية" على مفهوم للفلسفة باعتبارها تجسيداً "للعقل الوطني".

والواقع أن الارتباط بين معاداة راسل للدولة وبين ميله إلى الميتافيلسوفي يبرز بوضوح في كتاباته السياسية للعصر. في أبريل/نيسان 1915، كان يشجب مرة أخرى الدور الذي كان يلعبه الفلاسفة في الترويج للقومية:

يتحدث غوتفريد ليبينز، وهو يكتب إلى مراسل فرنسي في وقت كانت فيه فرنسا وهانوفر في حالة حرب، عن "هذه الحرب التي لا تكون فيها للفلسفة أهمية". لقد قطعنا  مسافة بعيدة عن ذلك الفكر في تلك الأيام. في العصور الحديثة، يتعهد الفلاسفة والأساتذة والمفكرون عموماً بإرادتهم بتزويد حكوماتهم بتلك التشوهات البارعة والأكاذيب الماكرة التي يظهر بها أن كل الخير من جهة وكل الشر من جهة أخرى … لا يسعنى إلا أن أقول أن رجال العلم هؤلاء من خلال السماح لأنفسهم بالتحيز لتلوين أفكارهم و كلماتهم أنه قد فاتتهم فرصة تقديم خدمة للبشر كان ينبغي أن يناسب ما تعلموا و تدربوا عليه تقديمها. فالحقيقة، مهما كانت، هي ذاتها سواء في انكلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا أو النمسا. ولن تتكيف مع الاحتياجات الوطنية: فهو في جوهرها محايدة.

واليوم، مع عودة القومية إلى الظهور من جديد، أصبحنا في موقف جيد يسمح لنا بإدراك حقيقة مفادها أن إصرار راسل على حياد الحقيقة لم يكن مجرد ترهات مبتذلة. ربما لم يكن المثاليون في عصره قد ذهبوا إلى حد إنكار حياد الحقيقة بشكل صريح، ولكنهم رأوا بكل تأكيد أن التميز الفلسفي الشامل يرتبط ارتباطاً واضحاً بالصفة القومية. ففي نظر بوسانكيه و مؤيديه، لم تكن المثالية البريطانية تحاول الوصول إلى الحقيقة فحسب. لكنها كانت تهدف أيضاً إلى التعبير عن الشخصية الوطنية للشعب البريطاني.

كثيراً ما ينظر إلى راسل على أنه شخص يريد أن يتخلص من فلسفة"الأخلاق". ولكنه دعا إلى حظر "الأخلاق" تحت وصف محدد وضيق لهذا المشروع، وهو الوصف الذي لاقى بوضوح صدى سياسات معاداة القوميات. قارنوا الاقتباس أعلاه من العدالة في زمن الحرب (1916) مع هذا المقطع من فلسفته الأكثر وضوحاً في 'الأسلوب العلمي في الفلسفة' (1914):

إن الأخلاق هي في الأساس نتاج الغريزة الاجتماعية، أي الغريزة المتمثلة في التعاون مع أولئك الذين يشكلون مجموعتنا ضد أولئك الذين ينتمون إلى جماعات أخرى. فأولئك الذين ينتمون إلى مجموعتنا الخاصة أصدقاء جيدون؛ أما الذين ينتمون إلى جماعات معادية هم أعداء أشرار. والغايات التي تسعى إليها مجموعتنا هي غايات مرغوب فيها، والغايات التي تسعى إليها الجماعات المعادية شائنة و مكروهة. والذاتية (الأنانية) التي ينطوي عليها هذا الوضع ليست واضحة للحيوان الاجتماعي الذي يشعر بأن مبادئ العدل العامة متمثلة في قوانين قطيعه. و عندما يصل الحيوان إلى منزلة الميتافيزيقي، يخترع الأخلاق كتجسيد لإيمانه بعدالة قطيعه.

قام راسل في الواقع بوضع نظرياته الأخلاقية الخاصة ؛ وكان أكثر ما رفضه هو ذلك النوع المحدد من النهج المجتمعي في التعامل مع القيمة التي دعا إليها الهيجليون الجدد مثل بوسانكيه، وهو النهج الذي رآه راسل باعتباره يدعم المشاعر القومية التي انفجرت للتو في حرب عالمية.

لم تكن المثالية الشكل الوحيد من أشكال الميتافيزيقية التي رأى راسل أنها تؤدي إلى النزعة القومية المتطرفة. لكنه سعى أيضاً إلى ملاحقة الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، بالإضافة إلي البراجماتيين العمليين في الولايات المتحدة ــ وكلاهما هدفان متشابهان بالنسبة له. كان راسل قد هاجم بيرغسون في سلسلة من الخطابات في ربيع سنة ١٩١٣، التي جُمعت مع عدة أجوبة في شكل كتاب صغير يتزامن تقريباً مع كتابه الآخر معرفتنا بالعالم الخارجي. وفي حين كان راسل مهتماً في المقام الأول بتفاصيل نظام بيرجسون الميتافيزيقي، فقد أوضح في البداية مخاوفه السياسية الأساسية. وقد وصف بيرغسون بأنه يرى أن "العمل" الناجح وليس "الفهم النظري" هو الهدف النهائي للفلسفة، وأن هذا التأكيد على العمل الناجح يؤدي حتما إلى "الإمبريالية".

وكان بيرجسون ليصبح واحداً من أهم المفكرين الفرنسيين الذين ينادون بالمشاركة العسكرية أثناء الحرب العظمى. والواقع أنه بعد مرور أسبوعين على إدانة بوسانكيه لكوسموبوليتية راسل، ألقى برجسون الخطاب الرئاسي لأكاديمية العلوم الأخلاقية و السياسية الفرنسية و الذي تُرجم ونشر بالانكليزية سريعاً تحت عنوان معنى الحرب (1915). وتتجلى نزعته العدوانية ــ على النقيض من دعوة راسل للحياد البريطاني ــ بوضوح في هذه السطور من الفقرات الافتتاحية والختامية للكتاب على التوالي:
هناك أشكال للغضب التي -من خلال الفهم الشامل لأغراضه- تستمد القوة للحفاظ على نشاطها وتجديده. و غضبنا من هذا النوع. وما علينا إلا أن نفصل المعنى الداخلي لهذه الحرب، وسيزداد للذين قاموا بها رعباً منّا. وعلاوة على ذلك، لا شيء أسهل. القليل من التاريخ والفلسفة سيكفي.


وبالنسبة للقوة التي لا تتغذى إلا علي وحشيتها فنحن نعارض ذلك الذي يسعى خارج مبدأ الحياة والتجديد. فبينما ينفق الواحد نفسه تدريجيا، فإن الآخر يعيد صنع نفسه باستمرار. الواحد يَترنحُ، الآخر يَلتزمُ بدون اهتزاز. لا تخافوا قواتنا ستذبح قواتهم.

كثيراً ما زعم المدافعون عن بوسانكيه أن الإيحاء بأن عمله النظري يبرر في واقع الأمر النزعة القومية يُعَد خطأً في القراءة، وأنا لا أعرف أي دليل على ترويجه النشط للنزعة العسكرية. ولكن بيرغسون كان صاخباً للغاية في تقديم نصائحه العاطفية والفلسفية دعماً للعمل العسكري الذي قام به الحلفاء أثناء الحرب العظمى، وعلى نحو يساعد في فهم وصف راسل لبعض أساتذة الفلسفة بأنهم "متعطشون للدماء". حتى أن الحكومة الفرنسية أرسلت بيرجسون في فبراير/شباط 1917 إلى ممارسة الضغوط الشخصية على الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لحمل الأميركيين على الانضمام إلى معسكرهم الحربي.

أنا لا أريد أن أقترح أن راسل كان كل الحق في جانبه، و بيرغسون هو الشخص الشرير. فيتعين علينا أن نتذكر أن فرنسا واجهت مجموعة من المخاوف المختلفة تماماً عن بريطانيا حين دخلت الحرب. فهي تشترك مع المانيا في حدود يبلغ طولها نحو ٤٥٠ كلم (٢٨٠ ميلا). لكن لا شك أن الجزر البريطانية معزولة -ولا تزال معزولة- عن طريق المياه عن مثل هذا الصراع القاري، وبالنسبة للعديد من الداعين إلى الحياد فإن البلاد لن تكسب إلا القليل من إرسال الجنود للحرب.

ولكن في ٣ آب (اغسطس) ١٩١٤، اليوم الذي نُشر فيه خطاب راسل الذي اشترك في توقيعه منادياً بالحياد، صارت الحسابات البريطانية فجأة أكثر تعقيداً. أعلن الألمان الحرب على فرنسا وأعلنوا عن نيتهم الهجوم عبر بلجيكا، التي ضمنت بريطانيا حيادها منذ معاهدة لندن لعام 1839. وفي اليوم التالي، زحف الألمان إلى بلجيكا، ودخل البريطانيون الحرب في غضون ساعات من ذلك، سعياً إلى احترام المعاهدة وحماية الموانئ البلجيكية التي تمر مباشرة عبر القنال الإنجليزي. لذا فإن القرار البريطاني بالانضمام إلى الحرب لم يكن غير عقلاني ولا غير مبرر ؛ ولكن الحسابات كانت مختلفة جوهرياً عما واجهته فرنسا.

ومع ذلك، فإن استمرار مناصرة راسل للحياد يسلط الضوء على ميله إلى البحث عن حلول سلمية حتى لأكثر المشاكل الدولية فظاعة. ويقودنا هذا إلى الواقعية. وانتقد راسل النظرية البراجماتية للحقيقة، وكثيراً ما استخدم البراجماتية كأداة لأسلوبه التحليلي الخاص. ولكن علاقته بالتقاليد الأميركية مسألة أكثر تعقيداً مما كان مقدراً بشكل عام. على سبيل المثال، كانت السلالة المميزة للنزعة السلمية التي أنشئها أثناء الحرب العالمية الأولى، قد تأثرت بشكل مباشر من فكر ويليام جيمس، وهو أحد المهندسين الرئيسيين للبراجماتيين. وكان جيمس قد ألقى قبيل وفاته في عام 1910 خطابين عن السلمية أثرا تأثيرا كبيرا في راسل، أسميهما "ملاحظات في مأدبة السلام" و "المعادل الأخلاقي للحرب". لم تكن سلمية جيمس مبنية على التفاؤل غير الواقعي، بل على الإقرار الصريح بالعطش الإنساني للعنف:

الحقيقة الواضحة هي أن الناس يريدون الحرب إنهم يريدونه على أية حال لمتعة الحرب نفسه، و بصرف النظرعن كل نتائجه المدمرة. فقد تكون هذه الفرصة الأخيرة للألعاب النارية في الحياة. الجنود المولدون لشرارة الحرب يريدونها ساخنة وفعلية أما غير المقاتلين فيريدونها فقط في الخلفية -دائماً كإمكانية مفتوحة- لتغذية الخيال والاستمرار في الإثارة.

فاقترح ان يحوِّل شغف الانسان بالعنف بعيداً رفقائه البشر. فبدلاً من تجنيد الشباب في الكتائب، دعا إلى تشكيل "جيش مجند ضد الطبيعة" أو ما أشبه بما قد يتحول إلى فيلق للخدمة الوطنية. وعلى الرغم من أن راسل لم يجد هذا الحل مرضياً تماماً، فإنه سيقول فيما بعد في 'لماذا يتقاتل الرجال' (1917) إنه لا يمكن تحسين تصور جيمس عن المشكلة ؛على حد علمي، فهو الكاتب الوحيد الذي واجه المشكلة بشكل ملائم ›.

لم يعش (جيمس) ليرى الحرب العظيمة ولكنه كان ينتمي إلى تقاليد عائلية من التقدمية الأميركية كانت إلى حد كبير في الروح العالمية الأممية التي كانت فى راديكالية "راسل" المتوارثة، كما كان يطلق عليه في كثير من الأحيان في المملكة المتحدة. على مدى ثلاثين عاماً كان معلم راسل الذي هو أميركي الولادة، هي سلمية جيمس النابعة من المخاوف بشأن التوسع الأميركي بشكل خاص. وكثيرا ما عبّر عن هذه المخاوف بلغة معادية للدولة كان يمكن ان يتردد صداها عميقاً في شخص مثل راسل. تأملوا في هذا المقطع من 'خطاب جيمس بشأن مسألة الفلبين' (1903) الذي ألقاه في الاجتماع السنوي الخامس لرابطة مناهضة الإمبريالية في بوسطن:

إن الفضيلة السياسية لا تتبع التقسيمات الجغرافية. لكنها تتبع الانقسام الأبدي داخل كل بلد بين الرجال الأكثر حيوانية و الأكثر ثقافة و فكر، بين المحافظين وذوي الميول الليبرالية، بين ذوى النزعة الشوفينية وغريزة الحيوان التي تدير الأمور بالقوة والهيمنة الغاشمة، و بين الضمير الناقد الذي يؤمن بالأساليب التعليمية وبقواعد الحق العقلانية … استوعبناها [كوننا 'مناهضي الإمبريالية] ؛ ونحن لسنا سوى القسم الأمريكي، الذي يواصل الحرب ضد قوى الظلام هنا، ويؤدي دورنا في الحملة الطويلة من أجل الحقيقة والتعامل المنصف، التي يجب أن تستمر فيه جميع بلدان العالم حتى نهاية الزمان. فلنستقر بابتهاج في مهمتنا التي لا نهاية لها.

وسوف يتفق راسل مع فكرة "الدولية و الكوسموبوليتية" بأننا " في حملة طويلة من أجل الحقيقة والتعامل العادل … في جميع البلدان." وعلى هذا فقد تقاسم جيمس و راسل الكوسموبوليتية المسالمة التي تتناقض تناقضاً صارخاً مع مبدأ بوسانكيه الذي يقوم على القيمة الكاملة داخل الدولة القومية، ومع قومية بيرجسون التي يقول فيها: "قواتنا ستذبح قواتهم". لذلك من غير المرجح أن يكون راسل قد فكر في جيمس كواحد من ‹ الخنازير المتعطشة للدماء › الذين كان يلزم مقاومة فلسفتهم على أساس اخلاقي. وفي الواقع، أبدى راسل اعجابه الطويل بجيمس. وعلى الرغم من اختلافاتهم الفلسفية الحقيقية، نجد رصل يكتب في أربعينيات القرن العشرين ما يلي: "كان ويليام جيمس بين الفلاسفة البارزين - باستثناء الرجال الذين ما زالوا على قيد الحياة- هو الأكثر تأثيراً و إثارة للإعجاب في نظري شخصياً".

ومع ذلك، انتقد راسل بشدة كتاب جيمس البراغماتية (١٩٠٧)، لكنّ هذا النزاع كان أقرب الى صراع متمدن. ولم يستطع راسل تقبل أن حقيقة فكرة ما باعتبارها مسألة تتعلق بفائدة هذه الفكرة عملياً (كان ها ما يجذب انتباهه فى نظرية المعرفة لويليام جيمس). قلق راسل كان لإعتقاده أن الطاغية يمكن أن يستغل ذلك فى جعل الرعية تعتقد أن القائد الحبيب هو رسول منزه. ولكن من الجدير بنا أن نتذكر أن راسل كان يحترم جيمس في عمله الرائد في علم النفس التجريبي، وأن ربط الحقيقة بالفائدة العملية كانت محاولة جيمس ذاته لاستخلاص دروس فلسفية من أفضل بحث علمي. الواقع أن جيمس، مثله في ذلك كمثل راسل، كثيراً ما صاغ توجهاته العملية في مواجهة مباشرة مع ذلك النوع من المثالية الهيجلية الجديدة التي يمثلها أمثال بوسانكيه.

هنا قد يتهم المرء راسل بالتشوش و الحيرة. فشكواه الرئيسية مع البراجماتية  هي أن الحل السلمي للمنازعات يعتمد على وجود "معيار" عقلاني مستقل عن الرأي المجتمعي، ويمكن للجميع الطعن فيه. وهو يعتقد أن البراجماتية تسعى إلى مثل هذا المعيار، ولكنه يفشل فلسفياً في تقديم مثل هذا المعيار (في حين لا يسعى بيرجسون وبوسانكيه حتى إلى العقلانية الدولية). وكما قال في موضع آخر، فإن "حياد التأمل هو- في المجال النظري- نفس فضيلة عدم الاهتمام التي تبدو- في المجال العملي- كعدالة وعدم أنانية". إن البراجماتية ليست محايدة بما فيه الكفاية. ورغم هذا فقد رأى راسل في منهجيته الفلسفية إنها أيضاً ليست محايدة سياسياً. هو لديه إلتزام فى نظرة محايدة إلى الحقيقة -ولكن ذلك الالتزام جزء لا يتجزأ من الميتافيلسوفي الأوسع و الأشمل  التي كانت لها أجندة معادية للقومية، كما رأينا. فكيف إذن يستطيع راسل إذن أن يوفق بين ميتافيلسوفيته المناهضة للقومية وبين فكرة مفادها أن الحقيقة لابد وأن تكون مسألة حيادية؟

في وقت لاحق من حياته، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك الانتهاء، عرض راسل هذه الطريقة لمعالجة هذا الحيرة:

لكي تصبح الحياة البشرية مرة أخرى مقبولة، يجب على الجنس البشري أن يكتسب أمرين يختفيان بشكل متزايد في الوقت الحاضر: اللطف المحب و النزاهة العلمية. هذان الشيئان مترابطان. وفي الوقت الحاضر، تقوم المدارس بتعليم القومية من مفهوم ضيق في كل بلد ونظرة إلى التاريخ تختلف تماما عن النظرة التى يتم تدريسها في أي بلد آخر. فالحياد العلمي منعدم، والابتعاد عن الحياد يؤدي الى التقليل من اللطف المحب بين الأمم.

فلم يعد أحد يستطيع أن يزعم أن معاداة القومية أو الكوسموبوليتية أصبحت الآن جزءاً من المنهجية الفلسفية الأنجلو أميركية. كان راسل رائداً في إظهار ما يمكن ان يعنيه وضع التفكير المنطقي في صميم الفلسفة ‹ العلمية ›. ولكن قِصَر النظر استقرت على أفعالنا في السنوات الماضية.

لقد احتفظنا بالكثيرمن منهجية راسل العلمية. فالمهن الفلسفية تقف أو تسقط الآن على دقة الفوارق المنطقية، أو على ذكاء التحركات التي يقوم بها المرء في مسائل تقنية محددة بعناية. و هذا النوع من العمل رائع. لكننا فقدنا المنطق السياسي لوضع قواعد اللعبة الفلسفية كما فعل راسل - رغم استحسان المنطق كلغة دولية- ومعيار الحقيقة الذي هو "نفسه في إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وفي روسيا والنمسا".

ما النظارات التي قد تساعدنا في تصحيح قصر نظرنا الفلسفي؟ أقترح أن يؤدي التأمل التاريخي في حد ذاته دوراً مفيداً. وللأسف، يتعرَّض تاريخ الفلسفة مؤخراً للهجوم، ولذلك سأختتم بياني ببعض الملاحظات بشأن جدواه.

في تدوينة حديثة نوقشت على نطاق واسع تهاجم تاريخ الفلسفة كمشروع عديم الفائدة، يخبرنا مايكل هيومر من جامعة كولورادو بولدر عن النوع الجيد من الفلسفة التي يعتقد أن المؤرخين فشلا في إنتاجها:

ولنفترض أن لديك مؤرخاً ماهراً في الفلسفة، يقوم بعمل عظيم جداً وفقاً لمعايير هذا المجال، وهو أيضاً صحيح ومقنع تماماً. فما هو اقصى ما يمكن إنجازه؟ و الجواب: ‹ نعرف الآن ما كان الفيلسوف P يقصده بقوله U. 'قبل ذلك، ربما بعض الناس كانوا يعتقدون أن U تعني X ؛ و الآن نعرف أنها تعنيY.

 لكن هذا ليس له أهمية فلسفية. مازلنا لا نعرف ما إذا كان "X" أو "Y" حقيقي

لاحظوا أن هذه الطريقة الخاصة لتفسير عمل الفلسفة الحقيقي - أي تقييم صحة هذه الأطروحات الخالدة- بكل بساطة، لم تكن مشتركة بين الجميع. و بالتأكيد لم تكن وجهة نظر (بوسانكيه)

رأي الميتافيلوسوفي مايكل هيومر يعتبر مقبولاً على نطاق واسع اليوم، وهو من نسل راسل. لكن وجهة نظر راسل كانت مختلفة. فقد رأى أن تاريخ الفلسفة له قيمة في حد ذاته، وقدم مساهمات مؤثرة في هذا المجال ؛ ولقد تصور أن حتى الفلسفة الفنية من الممكن تقييمها من حيث عواقبها الاجتماعية والسياسية، وهو ما نستطيع أن نستوعبه بدقة من خلال النظر إلى التاريخ (وهي النقطة التي كان إريك شليسر يستكشفها). فلماذا عدَّلت الفلسفة التحليلية منهجيتها على مر السنين؟ هذا سؤال تاريخي، ومن الواضح أن أحد المحللين يريدنا أن نمر بصمت لأن 'تاريخ الفلسفة ليس تاريخاً أو فلسفة. ولكن من دون الإجابة على هذا السؤال، فلا ينبغي للمرء أن يشعر بالثقة في رؤية مايكل هيومر الميتافيلسوفية، رغم شعبيته اليوم، بإعتبارها أمراً محتوماً.

وبصرف النظر عن هيومر، فإن الدرس المستفاد من نقاشي ليس أن نقتدي ببساطة بمشروع راسل القديم بوفاء أكبر. لكن التهديد القومي اليوم ليس من جدتك لكن راسل كان محقاً في قوله إنه حتى الفلسفة التقنية لها عواقب سياسية - كما كان راسل حريصاً على تأكيد ذلك- وإن طريقته الفريدة في ترسيخ الممارسة الفلسفية في نضال أوسع ضد المتعطشين للدماء - ضد تجار الحرب- ضد أولئك الذين "يقللون من العطف المحب بين الأمم"، تستحق الدراسة في سياقها الخاص. ربما يمكننا أن نتعلم شيئاً من ذلك أن التأمل التاريخي من شأنه أن يحرر الافتراضات المبتذلة حول ما هو أو ما يمكن أن يكون عليه التأمل الفلسفي. فهي تقف في وجه الرضا الذاتي المسموم الذي يقول إن الفلسفة لابد وأن تكون، كما كانت دوماً، أو لا يمكنها إلا أن تكون، هادئة سياسياً.

مقال مترجم لـ ألكسندر كلين و هو أستاذ مشارك فى الفلسفة و مدير مركز أبحاث برتراند راسل في جامعة ماكماستر فى أونتاريو. من موقع Aeon

قد تُعجبك هذه المشاركات