الذكاء الثقافي

الذكاء الثقافي

المحتويات [إظهار]

مقدمة المترجم

ترجمتنا اليوم، لحوار مع الباحثة ميشيل جلفند المهتمة بدراسة الثقافات و كيفية استخدامها فى المفاوضات و تحقيق مكاسب سياسية للدولة - فى حالتنا هذه الولايات المتحدة- و تأسيس نظرة الدولة للعالم عن طريق بعض التغييرات الثقافية و نلاحظه عنها فى حديثها عن إسرائيل الذى قمت بوضع كلمة (فلسطين المحتلة) بعد كل ذكر لها. و هذا مؤشر على أهمية دراسة الثقافات المختلفة من منظور نفسي و وضعها فى إطار لتحقيق المكاسب لكل دولة و هو اتجاه يجب أن نحتذي به و أن يكون جانباً هاماً فى عملية صنع القرار.


النص

 ميشيل جلفند أستاذ جامعي بارز في جامعة ميريلاند، كلية بارك. وهي مؤلفة كتاب صناع القوانين، ومنفذي القوانين: مدى ضيق وتفكك الثقافات في العالم.

لنحو ثلاثين عاماً، كنت مهتمة بالأسئلة المتعلقة بتطور الثقافة وعواقبها على البشر. إن الثقافة لغز غريب، حاضرة في كل مكان ولكنها غير مرئية. نادراً ما ندرك مدى قوة هذه المكون. من العجيب أننا نستخف بشيء يؤثر علينا بشدة. إنها كالقصة القديمة عن سمكتين: سمكتان تسبحان و سمكة أخرى تأتي وتسأل، "يا أصدقاء، كيف حال الماء؟ "وهم يسبحون. ثم تقول إحدى السمكات للأخرى "ما هو الماء هذا؟"

وللقصة بعد عميق، وهي أنه في بعض الأحيان تكون الحقائق الأكثر أهمية هي الأشياء التي يصعب رؤيتها. بالنسبة للسمك، هو الماء، وبالنسبة للبشر، هو الثقافة. هناك تنوع ثقافي رائع حول العالم من خلال آلاف السنين الماضية. وقد تطورنا الآن إلى 195 دولة، و 7000 لغة، وديانات عديدة. وهذا النوع من التنوع مذهل إلى حد كبير، نظراً لأننا نتقاسم نحو 96% من الجينوم البشري مع قرود الشمبانزي التي تتسم بسلوكيات مماثلة عبر المجتمعات الخاصة بها.

تعثرت في الثقافة كموضوع عندما كنت في المرحلة الجامعية الأولى. وصادف إنني كنت آخذ صفاً مع كارولين كيتينغ، التي كانت تدرس مقرَّرا عن التنمية البشرية عبر الثقافات. لم اسمع قط عن علم النفس المتعدد الثقافات هذا، لكنني كنت مذهولة به. لقد قمت بالكثير من البحث مع مارشال سيجال في أفريقيا، لدارسة الخداعات البصرية مثل خداع مولر -لاير، الذي يتعرض له الأميركيون بشدة، لكنه لا يتكرر في أفريقيا. ووجدت هذا مثيراً للاهتمام بشكل لا يصدق، حتى أن الرؤية البصرية الأساسية تخضع لتنوع ثقافي.

فيما كنت أدرس علم النفس وأقرأ الكتب المدرسية، ذهلت لعدم الاهتمام بالثقافة في هذه الكتب. هذا كان في أواخر الثمانينات.. فكرت، "واو، هذا علم أمريكي." كان هذا قبل وقت طويل من حدوث الطفرة الغريبة في العلوم الاجتماعية. كان لدي بعض الأسئلة على سبيل المثال، كيف تؤثر الثقافة على عملياتنا النفسية الأساسية أو ديناميكياتنا الاجتماعية في كل شيء من الأبوة إلى السياسة؟ لقد صدمني الأمر على أنه شيء مفقود في علم النفس. لذا تركت "كولغيت" وعملت لمدربة متعدد الثقافات. كنت أبحث عن برامج دراسات عليا حيث يمكنني أن أدرس الثقافة وعلم النفس، ولكن لم أستطع أن أجد الكثير. تلقيت مكالمة مفاجئة مع مدرب من ثقافات متعددة أخبرني أنني بحاجة للعمل مع هاري تريانديس، الذي صادف أنه كان في مقاطعة أوربانا. ولحسن الحظ، التحقت بجامعة إلينوي، وذهبت إلى مقاطعة أوربانا، وعملت مع هاري. الباقي هو تاريخ خاص.

هاري كان باحثاً لا يصدق لأنه كان باحثاً عاماً. الكثير من الناس يشعرون بالحاجة للتخصص في علم النفس أكثر وأكثر لكن (هاري) كان مهتماً بكل شيء وجدت هذا ملهماً، فلم يعلمني ويلقني درساً في المناقشات النظرية والتعقيدات المنهجية للبحوث المتعددة الثقافات فحسب، بل كان لديه أيضا الكثير من الحكمة المثيرة للاهتمام في الحياة. كان متميزاً بثلاثة أشياء غرسها فيّ: الأول أن تكون شغوفاً بما تفعله، وهو أمر ليس صعباً للغاية؛ وآخر هو ألا أخشي الجدال؛ والشيء الثالث، ربما أصعب شيء، و هو ألا تأخذ نفسك على محمل الجد فى كل الأوقات. وجدت هذا شيئاً أحاول تذكره كثيراً

تركت المقاطعة ودرست لفترة قصيرة في جامعة نيويورك قبل أن أذهب إلى ميريلاند، وهناك أنشأت متجراً لإدارة مختبر كبير متعدد التخصصات للبحوث في مجال الثقافة. لأنني كنت باحثة عامة بالفعل، أتذكر أن الطلاب سألوني: "هل أنت طبيبة نفسية اجتماعية؟ هل أنت طبيبة نفسية متعددة الثقافات؟ هل أنتِ طبيبة نفسية؟ من أنت؟ وقلت "كل ما سبق، لماذا تختارون شيئ واحد؟"

ذهبت للعمل مع أشخاص من علم الأعصاب، و النمذجة الحاسوبية، الأنثروبولوجيا، واللغويات، لأنك تحتاج إلى وجهات نظر مختلفة لفهم ظاهرة معقدة مثل الثقافة. أحد الأشياء التي بدأت في إجراء بحث حولها، وما زلت مفتونة بها حتى الآن ، هو الأعراف الاجتماعية. و الأعراف الاجتماعية هي هذا الجانب غير المرئي من الثقافة. نحن نتبع الأعراف و المعايير الإجتماعية باستمرار ولا ندرك ذلك، حتى نحن جنس معياري للغاية. إذا جئت إلى نقاش مرتدياً ثوب سباحة، على سبيل المثال، سيكون ذلك غريب. نحن نطيع القوانين باستمرار عندما يتعلق الأمر بمكان القيادة، و عدم سرقة طعام الناس في المطاعم، وممارسة الجنس في أماكن خاصة. نحن فقط لا نرى الناس يمارسون الجنس على الحافلات وفي السينما وذلك لأن البشر يطورون أعراف اجتماعية لتجنب هذا النوع من السيناريوهات. إنها اختراع حاسم من البشر لأنها تساعدنا على التنبؤ بسلوك بعضنا البعض والتنسيق على نطاق غير مسبوق.

لكل المجموعات قواعد، ولكن بدا لي أن بعض المجموعات لديها قواعد اكثر صرامة -فهي ضيقة -وبعضها الآخر أكثر تساهلاً و مرونة. هذا كان بناء لم يتم استكشافه في علم النفس. إن الكثير من علم النفس يركز على الاختلافات الفردية، مثل الشخصية، وليس على المواقف والمعايير. في هذه الأيام، بدأنا نطور حقل مهم متعدد التخصصات من الأعراف الاجتماعية. ففي فترة التسعينيات عندما كنت أبدأ مهنتي في علم النفس المتعدد الثقافات، كانت القيم هى محور التركيز، في حين تُركت الأعراف و المعايير غير واضحة إلى حد كبير.

حصلت على منحة NSF، وجمعت حوالي أربعين عالماً حول العالم لدراسة قوة الأعراف الاجتماعية. وطرحنا أسئلة أساسية مثل هل يمكننا قياس مدى صرامة مجتمعنا أو مرونته؟ والأهم من ذلك، لماذا تتطور هذه الاختلافات في المقام الأول؟ إنني أنحدر من تقاليد "الترياندس" التي كانت تتمثل في الفكرة القائلة بأن الثقافة تنشأ بسبب تكييفها أو على الأقل تكييفها مع بعض الظروف الإيكولوجية والتاريخية في الماضي؛ إنها فقط ليست عملية عشوائية. أيضاً، ما هي عواقب قوة القواعد على المجموعات البشرية؟ هل هي مختلفة عن البنيات الأخرى، مثل الجماعية أو مسافة القوة؟ هل هو مجرد نبيذ قديم  يقدم فى زجاجات جديدة؟ لقد أمضينا فى هذا المجال سنوات عديدة، حتى ظهر الكثير من الشعر الأبيض، و نحن نعمل على هذا، وفي نهاية المطاف نشرنا هذه المقالة في مجلة العلوم التي تبين لنا أننا قادرون، عبر ثلاثة وثلاثين دولة، على تحديد مدى الصرامة و المرونة، أو الضيق و التجاوب في المجتمعات.

وأحد الأشياء التي اكتشفناها هو وجود مؤشر هام جدا للأسباب التي تجعل الثقافات تتطور لتصبح ضيقة أو مرنة، وهذا ينطوي على حجم التهديد الذي تواجهه الجماعات. تعاني بعض البلدان من جفاف شديد ومجاعات وأعاصير، وتعاني بعض البلدان من غزوات مستمرة. إن منطقهم بسيط للغاية: ففي هذه السياقات تحتاج إلى قواعد وعقوبات قوية لمساعدة الناس على التنسيق من أجل البقاء على قيد الحياة. هذا ما كنت أختبره وهذا ما وجدناه وجمعت بيانات عن عدد المرات التي كانت فيها الدول مهددة بالغزوات في السنوات المائة الماضية، أو التي شهدت كوارث طبيعية، أو مجاعة، أو وباء، أو مسببات أمراض، أو مستويات عالية من الكثافة السكانية (حتى عام 1500)، وكان من الواضح تماماً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين البلدان التي كانت أكثر تشدداً و بين مستوى التهديد التى تواجهه.

إنه ليس المؤشر الوحيد، وهناك بالتأكيد بعض الاستثناءات المثيرة للاهتمام، إسرائيل (فلسطين المحتلة) مشمولة في ذلك. وفي معلوماتنا، فإن إسرائيل (فلسطين المحتلة) مكان فضفاض جداً حيث يحاول الناس التفاوض على القواعد كثيراً، بالرغم أن لديها الكثير من التهديدات. في بياناتنا ومناقشاتنا، نحن يمكن أن نرى أنه بينما هي مهددة جداً، فهو مكان فضفاض إلى حد كبير بسبب الدين. فهناك الكثير من الجدل في الديانة اليهودية وهناك الكثير من التنوع في إسرائيل (فلسطين المحتلة)، الذي يدفع المجموعات إلى أن تكون متحررة.

ثم تابعنا دراسة ما إذا كان هذا النمط يمكن إيجاده داخل الدول الأخري أيضاً. إن الولايات المتحدة مكان متنوع إلى حد كبير، لذا فإن الخطوة التالية كانت التفكير في ترتيب الولايات الخمسين على مدى صرامة أو مرونة جماعاتها وما إذا كانت لها نفس السوابق. و إتضح أن النظرية تطبق هنا، فالجنوب وأجزاء من الغرب تميل إلى أن تكون أكثر تشدداً في معاييرها. و ذلك لإنهم أيضاً يواجهون أكبر تهديد. وعلى غرار المستوى الوطني، نرى في الدول أن هناك الكثير من النظام في الدول المتشددة والمزيد من الانفتاح والتسامح في الدول الفضفاضة.

ثم قرّبنا الصورة لننظر إلى هذا على مستوى الطبقة الاجتماعية. وقمنا بقياس مدى صرامة المعايير في الطبقة العاملة مقارنة بالطبقة العليا. فالمسألة البسيطة هي أن الطبقة العاملة تواجه خطراً أكبر بكثير -الوقوع في الفقر، العيش في أحياء خطرة، العمل في مهن خطرة- حيث تكتسب القواعد أهمية خاصة.  وعندما سألنا الناس عن رأيهم في اتباع القواعد، كانت إجاباتنا مختلفة جداً. الطبقة العليا تعتبر القواعد مصدر إزعاج، كشيء مصنوع لكي ينكسر. لكنها مهمة وتخدم الطبقة العاملة. لذلك، بدأنا ننظر إلى هذا التمييز عبر مستويات مختلفة من التحليل. أحب أن أفكر في هذا كنمط كسري، يأتي من الفيزياء، حيث يوجد هذا النمط المتكرر بشدة عبر مستويات مختلفة بحيث يمكننا أن نرى منطق قوة المعايير ينطبق في أماكن مختلفة، بما في ذلك المنظمات وحتى أسرنا.

إحدى المشكلات في هذه المجموعة الأصلية من البيانات كانت أنها كلها مرتبطة، ونحن نعلم أن هناك مشكلات عندما يكون لديك استنتاجات سببية وبيانات ارتباطية فقط. في الآونة الأخيرة، كنا نحاول تطوير طرق أكثر للنظر إلى السببية. فنحن قادرون على سبيل المثال على فرض التهديد الرئيسي في المختبر. وبوسعنا أن نجلب الناس إلى المختبر، وبوسعي أن أجعلهم يتأملوا في التهديدات الإرهابية، أو الكوارث الطبيعية، أو الكثافة السكانية، التي تشكل مؤشراً كبيراً على المستوى الوطني بالتهديد مما يتطلب التشديد.و ما يثير الاهتمام هو أنه خلال بضع دقائق يمكننا تشديد عقول الناس، كما نرى على المستوى الوطني. لكن التزييف له مشاكله أيضاً إنه يكون فقط على مستوى فردي وليس مستوى سكاني

بدأت العمل مع بعض منظري الألعاب التطورية، وكان ذلك زواجاً عظيماً. نحن مهتمون بنفس الظواهر التي تتسبب في تطور قيم أو معايير معينة من وجهات نظر مختلفة تماماً. وقد قمنا ببعض النمذجة لننظر فيما إذا كان في وسعك أن ترى أن هذا التهديد يتسبب في تطور العقوبات والقواعد القوية على المستوى السكاني. وبالطبع، كانوا هؤلاء مجرد وكلاء في نموذج، وليسوا بشراً حقيقيون.

وقد حاولت أحدث دراسة قمنا بها الوصول إلى هذا السؤال من زاوية مختلفة، باستخدام المسح المفرط في علم الأعصاب. أردنا أن نرى إن كان الناس ينسقون بشكل أسرع عندما يشعرون بالتهديد. هذا افتراض أساسي لنظرية فضفاضة. لذا جهّزنا الناس للتفكير بالتهديدات. فكان لدينا أشخاص يرتدون قبعات رسم المخ، وكنا نقيس مدى جودة تنسيقهم فى مهام أخرى إذا تعرضوا للتهديد. والمثير للاهتمام هو رؤية كيف يساعد دور مزامنة الدماغ على تيسير التنسيق بعد أن يشعر الناس بالتهديد. وجدنا أنه عندما كان الناس تحت التهديد، كان لديهم الكثير من التزامن في أدمغتهم على موجات جاما، وهي إحدى الموجات التي تنذر بالتهديد. وقد سهل ذلك التنسيق. نحاول التعرف إلى الطبيعة السببية لتطور التشديد من وجهات نظر مختلفة، سواء كانت نماذج نظرية اللعبة الأولية أو التطورية، أو علم الأعصاب. أنت تريد أن ترى أن مبادئك تعمم بشكل يتجاوز أسلوباً معينًا.

أنا أيضاً مهتمة بالثأر، الثأر بالإنابة. ما هي الظروف التي تجعل الناس ينتقمون بالنيابة عن الآخرين؟ كان حدسي أن هذا له علاقة كبيرة بالتعاطف؛ إنه الجانب المظلم من التعاطف. ذهبت لمقابلة شيهوي هان، أحد كبار علماء الأعصاب في الصين الذين التقيت بهم في مؤتمر، وسألته عما إذا كان يرغب في الذهاب إلى هذا الجانب المظلم ودراسة التعاطف في علم الأعصاب. لذا، هو وأنا ذهبنا للعمل على رسم خريطة نظرية الانتقام بالإنابة ودور الاستحقاق، الذي يعني فقط مدى قدرة الأشخاص المستبدلين في مجموعتك وخارجها. كيف ينتقل الانتقام من شخصين يعانيان صراعاً الى أشخاص لا علاقة لهم بالصراع؟ وينطبق ذلك أيضاً على الأحداث العابرة للأجيال، والتي يشارك فيها أشخاص لم يكونوا حتى من الجيل نفسه. أدى ذلك إلى تعاون واحد من أولى الدراسات عن الثأر على مستوى المجموعات في علم الأعصاب


لقد نشرت للتو ورقة مع جوشوا جاكسون وفيرجينيا تشوي في the Annual Review of Psychology حول الثأر، ليس فقط على العوامل الفردية والظرفية التي تتنبأ بالثأر، ولكن لماذا قد يكون الثأر و الانتقام ضروريًا في بعض النواحي ، ولماذا الثقافات الشرقية ، والتي تنطوي على الكثير من حوادث الثأر، لديهم الكثير من الأسباب العقلانية فى هذا الاتجاه. لقد عملت مع Andrzej Nowak ، وهو رئيس مركز الأنظمة المعقدة في وارسو ، وهو تعاون مثمر آخر ، حيث كنا نحاول وضع نموذج للظروف التي يكون من المنطقي أن يسعى الناس للانتقام فيها. يحدث أن تكون منطقية في سياقات حيث توجد مؤسسات ضعيفة، و حيث تكون سمعتك أكثر أهمية.

الناس يقولون أن الشرف يساوي أكثر من المال. لقد قمت بالكثير من العمل على سيكولوجية الشرف في الشرق الأوسط. ونحن نحاول أن نقدم وجهة نظر أكثر توازناً عن حوادث الإنتقام. وما هي الظروف التي تطورت في ظلها إلى الحد الذي يجعلها منطقية بالنسبة للمجموعات، وكيف نقدم قصة أكثر تطوراً على مستوى العالم حول الانتقام؟
 
وأنا أنسب الفضل إلى وزارة الدفاع، التي مولت الكثير من البحوث الأساسية في مجال الثقافة، في اندفاعها نحو البحوث المتعددة التخصصاتحصلت على منحة بحث كبيرة من جامعة موري المتعددة من خلال وزارة الدفاع لدراسة الصراع والتفاوض في الشرق الأوسط. لقد أخذت على محمل الجد أن هذه لابد وأن تكون بمثابة منحة حيث يتآزر الناس بين علماء الحاسب الآلي، وعلماء السياسة، وعلماء النفس. لا يمكن للناس أن يأخذوا أموالهم ويهربوا بها. أنت تتعلم الكثير عن كيفية إدارة هذه التعاون المتعدد التخصصات.
  
تعمل ساريت كراوس، عالمة الكمبيوتر التي تدرس علم المفاوضات، على تطوير نماذج للتفاوض، وهو ما قد يكون أفضل من البشر عندما يتفاوضون. جاءت إلى (ماريلاند) وكان لدينا إجتماع لنتحدث عن كيفية تعاوننا قالت: «دعني أخبرك شيئا يا ميشيل: أنا لا أهتم البتة بالسلوك البشري». وقلت، "ها و قد تحدثنا بصدق، أنا أيضاً لا أهتم بنماذجك." وطرحنا أفكارنا على الطاولة، واستطعنا أن نتوصل إلى طريقة يمكن بها لكل منا أن يستخدم الآخر بطريقة مفيدة بصورة متبادلة لمصلحة العلم. على سبيل المثال، أخبرتها أنني أعتقد أن نموذجها سيكون أفضل لو كان لديه ذكاء ثقافي معين لديه القدرة على فهم الإختلافات الثقافية. كنت في احتياج إلى نموذجها لكي يدرس الكيفية التي يتفاوض بها الناس في لبنان، والولايات المتحدة، وأماكن أخرى مع خصم موحد. والمثير أننا انتفعنا من بعضنا البعض رغم أننا لم نكن نملك الإهتمام نفسه. نشرنا أعمال في مجلات علوم الحاسب الآلي وفي مجلات علم النفس التنظيمي عن نفاذ صبر الأمريكيين في التفاوض. كان لدينا تعاون هائل. فكل تعاون في بلد متعدد التخصصات يستحق الجهد حين يكون لديك إلتزام بحل مشكلة مثيرة للاهتمام. قال كارل بوبر، الذي كان مصدر إلهام كبير لي، "نحن لسنا طلاباً لموضوع محدد، نحن طلاباً للمشاكل عموماً. والمشاكل تتقاطع مع مجالات مختلفة. "

أحاول محاكاة هذه الروح في بحثي. أنا أعمل مع لغويين حوسبيين، وقد أجرينا للتو دراسة نشرت في مجلة الطبيعة البشرية تبحث في كيفية تغير عوامل الصرامة و المرونة مع مرور الوقت، باستخدام قاموس طورناه عن الإحكام والتراخي. أعمل مع عالمة الأنثروبولوجيا كارول إيمبل لترميز الإثنوغرافيات، لمحاولة اختبار بعض الأفكار الأساسية حول قوة المعايير. وأعمل مع علماء السياسة للنظر في الوساطة عبر الدول وفي التكتيكات التي تعمل على الصعيد الوطني. من المثير التواجد في ذلك المكان حيث يمكنك جمع الناس معاً لفعل أشياء لا يمكنك فعلها بمفردك

بالعودة إلى الثقافة كونها غير مرئية ومتواجدة في كل مكان، فإننا نفكر في الذكاء أو الذكاء العاطفي، ولكننا نادراً ما نفكر في تنمية الذكاء الثقافي. وفي هذا العالم الذى تحكمه العولمة المتزايدة باستمرار، يتعين علينا أن نفهم الثقافة. كل هذا البحث يحاول أن يوضح ليس فقط كيف نفهم الآخرين الذين يختلفون عنا، ولكن كيف نفهم أنفسنا.

لماذا CQ مهم؟ يمكنكم أن تروا ذلك في سياقات عديدة، مثل المفاوضات. نشرت أنا و ساريت بحثاً عن نفاذ صبر الأميركيين في المفاوضات. لاحظ دي توكفيل مدى نفاذ صبر الأميركيين منذ سنوات. أنا من نيويورك، لذلك أنا شبه صبورة. لقد أردنا أن نحدد كمياً الثمن لهذا النوع من عدم الصبر في المفاوضات، واتضح أن الأميركيين يتنازلون أكثر بكثير في المفاوضات بسبب نفاذ صبرهم، بسبب الطريقة التي ينظرون بها إلى الوقت. إنهم يخسرون على طاولة المفاوضات. هذه أمور مهمة يجب معرفتها.

ففي الولايات المتحدة، لدينا ثقافة تنقّل وثقافة حيث الثقة السريعة منطقية، ولكنها غير منطقية في الشرق الأوسط ،على سبيل المثال. لقد كان الكثير من عملنا في الشرق الأوسط يحاول التوصل إلى نماذج جديدة للكيفية التي يتفاوض بها الناس حتى نتمكن من تدريب الأميركيين لكي يصبحوا أكثر صبراً ولكي يفهموا أننا لا نتفاوض دوماً على الجوانب الاقتصادية للاتفاق، بل ربما نتفاوض على عوامل مثل الشرف أو الثقة.

أجرينا المئات من المقابلات في الشرق الأوسط، حيث لا يوجد سوى القليل من البحوث حول علم النفس. لذا فقد تصورنا أننا لابد وأن نخرج إلى هناك ونجري مقابلات منظمة على غرار تحليل هاري تريانديس للثقافة الذاتية وغيرها من الأساليب الأنثروبولوجية لفهم مفاهيم خاصة بالثقافة، مثل الشرف، أو "الواسطة"، والتي تتعلق بالصلات ، أو الانتقام، أو التواضع. في مرحلة ما، قلت لـ RA الذي تتكلم العربية التي استأجرناها للعمل على هذا المشروع لترجمة كل هذه المقابلات، "لماذا لا ننشئ قاموس شرف جديد يستند إلى هذه البيانات؟ فبإمكاننا ان نرى مسبقاً مواضيع كثيرة تتعلق بالشرف -كيف يكسب الناس الشرف في نظر الآخرين ويمنعون خسارته، عواقب خسارة الشرف، الخ. - لذلك ابتكرنا قاموسنا الجديد. لدينا آلاف الكلمات، ويمكنكم أن تستخدموا هذا القاموس لتروا دوره في التفاوض. يمكننا أن نرى، بعد حادثة حرق القرآن، ارتفاعاً كبيراً في موجة الحديث عن الشرف. إذن، هذه المشاريع تأخذ حياة خاصة بها. فعليك ان تكون منفتحاً على الفرص للقيام ببحث يساعد على زيادة الذكاء الثقافي.

مثال آخر أريد أن أعطيه في CQ هو في المجال التنظيمي. تختلف المنظمات أيضًا من قوة المعايير. حيث تحتاج بعض المنظمات مثل شركات الطيران والجيش ومواقع البناء إلى قواعد أقوى لمساعدة الأشخاص على التنسيق ، في حين أن منظمات أخرى مثل الشركات الناشئة والتصميم يمكن أن تكون أكثر تسامحًا. الأمر المثير للاهتمام ، مرة أخرى ، من وجهة نظر الذكاء الثقافي ، هو أنه عندما تندمج هذه المنظمات ، نادرًا ما تدرك جبل الجليد الثقافي الكامن تحتها. في ورقة HBR الأخيرة ، أتحدث عن الثمن الدقيق لما يحدث عندما تكون هناك مسافة ثقافية كبيرة بين المنظمات الضيقة / الفضفاضة ، والمبلغ الدقيق للمال الذي يمكنك أن ترى أنك ستخسره ما لم تتفاوض بشأن هذا مسبقًا.

من المهم نُطلع المجتمع، بما في ذلك وزارة الخارجية وغيرها من المسؤولين رفيعي المستوى، على أهمية عامل الثقافة في الدبلوماسية. ويصح ذلك في كل مكان، بعيداً عن التواصل -الطرق الأساسية لمشاهدة العالم الذي يتعمق ويتطور لسبب وجيه.

الحق يقال، لقد كان لدي CQ منخفض. كنت ذلك النيويوركي النموذجي الذي كان لديه منظر كرتوني من نيويورك للعالم: هناك نيويورك، وهناك نيوجيرسي، ثم هناك مجموعة من الصخور، ثم بقية العالم. سافرت للخارج لمدة فصل دراسي وكنت أول شخص في عائلتي يغادر الولايات المتحدة

والداي من بروكلين. وأتذكر اني ناديت ابي وقلت له: "يا ابي، من الغريب جداً ان يأتي الناس من لندن ليذهبوا الى باريس او إلى هولندا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع." قال أبي بلهجة بروكلينى: "الأمر أشبه بالذهاب من نيويورك إلى بنسلفانيا." وأنا مثل بوب فى هذا، استعارة اسمية لأبي.  في اليوم التالي، وهذه قصة حقيقية، حجزت رحلة الى مصر. أخذت تلك الرحلة بنفسي عبر النيل. بدأت أدرك كم كنت أعرف القليل عن الثقافة، وهذا ما دفعني إلى تحويل تروسي من مرحلة ما قبل الطب إلى دراسة الثقافة.

فيما يتعلق بالبحوث المستقبلية، هناك الكثير على جدول الأعمال. إنني أقوم بمشروع كبير الآن عن سيكولوجية اللاجئين في أوروبا، بتمويل من وزارة الدفاع مرة أخرى، من منظور ثقافي يتمثل في النظر إلى العملية التي يتكيف بها الناس من ثقافات متشددة مع ثقافات أكثر مرونة. كيف تساعد الناس على خلق فهم متبادل للمساعدة في التكيف ومنع التطرف وغير ذلك من الأمور؟

ومن المضحك كيف يمكنك أن تدرس شيئا لفترة طويلة… وأن لا تزال أحمق في عدم إدراك كيف تؤثر الثقافة على أساليب بحثك وأسلوبك. وعلى سبيل المثال، أجريت دراسة حيث أرسلنا مساعدين باحثين إلى عشرين دولة يرتدون أنواعًا من الهويات الموصومة. اشتريت لهم ثآليل لوضعها على وجوههم. في حالة أخرى، كانت أوشام، وفي حالة أخرى، اكتفوا بوجوههم العادية .دربناهم في بريمن، في شمال ألمانيا، حيث كانوا يذهبون إلى المدرسة من بلدانهم في جامعة جاكوبس. وبعد ذلك بعد أن تم تدريبهم جميعاً وتقويمهم، أرسلناهم إلى بلدانهم خلال فصل الصيف للقيام بهذه التجربة. كانوا يطلبون المساعدة في شوارع المدن والمتاجر، وكنا مهتمين بمعرفة ما إذا كان هناك فرق في مقدار المساعدة التي يحصل عليها الناس حول العالم عندما يرتدون هويات موصومة.

ما يثير الدهشة هو أنه عندما يعود المدراء إلى بلدانهم، الواحد تلو الآخر، انسحبت البلدان الأكثر شدة من هذا الجزء من الدراسة. لم يستطيعوا حمل أنفسهم على إرتداء هذه الثآليل والأوشام السخيفة وطلب المساعدة. لقد كان الأمر قانونياً وأخلاقياً ، لكن الحمقاء التي بداخلي فكرت كيف لم أكن لأتوقع حدوث هذا حينما تكون هذه دراسة عن ضيق الأفق والانحراف. كان لدينا تنوُّع كافي للقيام بالدرس، ولكن كان من اللافت للنظر كيف نسيت أن الحضارة تلائم اسلوبك الخاص.

في حياتي الخاصة، بدأت باستخدام بحثي لتطوير بيئة عائلية صحية. أسمي هذا مبدأ المعتدل. ونحن نعلم أنك قد تحتاج إلى التشديد أو المرونة لأسباب وجيهة، مثل التهديد، ولكن كلما سارت الأسر أو المنظمات أو الدول في اتجاه أكثر تطرفاً، كلما ازداد اختلالها. دوركهايم تحدث عن هذا ولديه بعض البيانات عنه فبدأت أدرس ذلك بانتظام. وأستطيع أن أرى في بياناتي أن المجتمعات الأكثر تطرفاً التي تعاني من إنفلات شديد والتي تقترب من حافة الانحراف وعدم القدرة على التنبؤ بالأمور، أو الأكثر تشدداً هي الأكثر انتحاراً، و تعاني من اختلالات وعدم استقرار أكبر. وهذا لا ينطبق على الأمم فحسب، بل وعلى المنظمات أيضاً.

يونايتد، الخطوط الجوية، قبل بضع سنوات، كان يمكن القول أنها أصبحت متشددة جدا. على الرغم من أنها تحتاج إلى مرونة شديدة، إلا أنها كانت بحاجة إلى إدخال بعض السلطة التقديرية في هذا النظام. أسميه ضيق مرن وعلى الجانب الآخر، يمكن أن تنحرف Uber أو Tesla لأسباب وجيهة، ولكن في بعض الأحيان تصبح هذه الأماكن فضفاضة للغاية. يجب أن يكون لديهم مرونة أكثر تنظيماً، وحقن بنية صغيرة في ذلك النظام.

ويصدق نفس القول على الأنظمة الأسرية. فقد تحتاج ضيقاً أو مرونة أكثر في العائلة لتساعد أولادك على مواجهة التهديدات. ولكن كلما ازدادت تطرفًا ، زادت المشاكل. الآباء الأشبه بطائرات الهليكوبتر والآباء الخرقاء يمكنهم إنجاب أطفال متخلفين  غير قادرين على التكيف. لذا، كنت أتحمل هذه المهمة، أنا أتفاوض مع أطفالي حول المجالات التي يجب أن نكون متشددين فيها، والمجالات التي يمكن أن تكون فضفاضة.

على سبيل المثال، ان المجالات الصارمة هي أشياء مثل مدى اجتهادك في الدراسة وكيفية معاملة ابنى لأخته. لكننا نفكر أيضاً في المجالات التي يمكن أن تكون هناك تساهل فيها بعض الشيء. بالنسبة للأخيرة، فلسفتي هي أنها يمكن أن تكون فوضوية بعض الشيء. لن أنظر إلى غرفهم و أشرح لهم أنهم يجب أن يكونوا أنيقين للغاية يجب أن يكون هناك بعض الأماكن حيث يمكننا أن نعطي بعض التعقل وبعض التساهل. استخدام وسائل الإعلام الإجتماعية هو شيء نحاول تنظيمه بين هذا و ذاك أكثر.

أنا أتحدث عن هذا في السياق التنظيمي. يمكنك التفاوض بشأن هذه الأنواع من الأشياء إذا كنت تعرف عنها مسبقًا. على سبيل المثال، كان اندماج شركتي أمازون و وول فودز مثالاً كلاسيكياً على صراع محكم يمكن التفاوض فيه. لديهم الكثير من التوافقِ، لكن أمازون تنكمش وشركة الأغذية تنحل. لقد كانوا بؤساء، خصوصاً شركة (وول فودز) كانت بائسة بعد هذا الإندماج، لأن الكثير من السلطات التي جعلت لهذه الشركة اسماً تم سحبها منها. لذا، كتبت عن الخروج بشيء مثل اتفاقية ما قبل الزواج قبل أن نقوم بهذا الدمج. ما هي المجالات التي كان بوسعنا أن نعطي موظفي وول فودز نفس المقدار من السلطة الذي كانوا يتمتعون به من قبل، و ما هي المجالات التي كان بوسعنا أن نضيق عليهم الخناق بها؟ كانوا يحبون أن يكون لديهم الكثير من التفاعل مع الزبائن؛ كان ذلك جزء من الثقافة وأصبح أكثر وحدة مع شخصياتهم. ذلك كان شيئاً لم يكن من المفترض أن يحدث فى مثل هذا الدمج.

العطلات مثال آخر للصراع المحكم. فالاشخاص الذين يحبون العفوية ويريدون أن يفعلوا أي شيء ويتركوا الامور تسير كما هي، مقابل الاشخاص الذين يحبون الكثير من التنظيم ما يمكن ان يسبب الكثير من النزاعات خلال الأجازات. من القابل للتفاوض أن نجلس ونقول ما هي المجالات التي يجب أن نكون صارمين فيها وما هي المجالات التي يمكن أن يكون لدينا فيها قدر أكبر من التساهل؟ يمكنك أن تصنع حالة الكل فيه رابح. زوجي، وهو محامي، بالتأكيد يتجه للتشدد و العقلية الضيقة أكثر مني. فهو بحكم تعريفه يقضي الكثير من الوقت في منصب مسؤول. فالمحامون والمسؤولون الحكوميون والمصرفيون يخضعون للمساءلات المستمرة. عليهم أن يجيبوا على الناس ، مع عقلية محددة و أكثر صرامة.

وعلى موقعي على شبكة الإنترنت لدي عقلية محددة للغاية يستطيع الناس أن يتبنوها لكي يروا إلى أين ينحرف تركيبهم وكيف يمكنهم أن يبدءوا التفاوض مع الناس حولهم. إنه لأمر مثير أن أنضم إلى اهتماماتي في التفاوض مع اهتمامي بالمرونة.

وعلى الصعيد الوطني، أتكلم عن مبدأ الإعتدال، الذي يعني أننا بحاجة إلى أن يكون لدينا توازن أو اعتدال في قوة المعايير. وإذا تمكنا من تشخيص الجماعات التي تنحرف في أي من الاتجاهين، سواء كانت دولاً أو منظمات، فإننا نعلم أننا نستطيع أن نتوقع بعض المشاكل. على سبيل المثال، لم يدرك العديد من الناس أن المواطنين في الموصل وغيرها من المناطق كانوا يرحبون بتنظيمات داعش عندما جاؤوا إليها لأول مرة. ويرجع جزء من ذلك إلى أن بياناتنا تظهر أنه كان هناك شذوذ تام ، وتراخي تام في هذه المناطق. لم يكن هناك أمن فجاء تنظيم الدولة الإسلامية ليوفر الكثير من الأمن والنظام في البداية، بل وحتى تطوير أنظمة العدالة.

انتقل الربيع العربي من نظام قمعي ضيق للغاية، بعد أن أطاحوا بذلك الدكتاتور، وذهبوا إلى العكس، التساهل التام. في بحثنا، يمكننا أن نرى الناس على الأرض في مصر كانوا يشعرون أن هذا شئ غير مستدام، وأنهم كانوا سيصوتون لحكومة أكثر تشدداً مرة أخرى. نسمي هذا انتكاسة استبدادية. لذا، فبوسعنا أن نحاول أن نتنبأ عندما تستند هذه التحولات الترددية في البندول إلى تخفيف أو تشديد المعايير.

والأمر المثير هو أن نفكر في القوة والمعايير، وأن نتمكن من استخدام قوة المعايير الاجتماعية لتحسين كوكبنا على أساس هذا المبدأ. وبوسعنا أن نحدد متى ينبغي لنا أن نشدد على المعايير التي أصبحت أكثر تراخياً، أو نتهاون في المعايير التي أصبحت أكثر تشدداً. فكروا في الإنترنت.  مكان يتمتع بالعديد من الصفات الهامة والمذهلة من حيث القدرة على الاتصال والمعلومات. يمكن القول أنه مكان فضفاض لم يتوقعه الكثير من الناس الذين صنعوا هذه الوسائط. علماء النفس يعرفون أنه عندما لا يتم مراقبتك، فينتج عن ذلك كل أنواع السلوك السيء. لا نريد أن نكون مثل الصين، حيث يتم مراقبتها بشدة، ولكن من الممكن أن نقول إننا نحتاج إلى تضييق هذه المساحات. لقد بدأت في إجراء بعض الأبحاث مع بعض خبراء الاقتصاد لمحاولة التفكير في كيفية دفع بعض السلوك المدني من دون تقييد الأصوات على شبكة الإنترنت، ولكن التصرف في مكان مثل الذي نقوم به وجهاً لوجه.

لقد عشنا في هذا العالم لقرون، لآلاف السنين، نعمل في مجموعات صغيرة. لقد تطورنا للتفاعل مع الناس على نطاق واسع. الآن نحن نعيش على الإنترنت حيث الأشياء مجهولة جداً. وفي هذه الحالة نستطيع، من القاعدة إلى القمة، أن نبدأ في تطوير سبل حيث نتصرف بشكل أكثر حضارية وأكثر إحكاماً. وبوسعك أن ترى هذا التطور بالفعل في بعض الأماكن، مثل reddit، حيث تجد أشخاصاً يحملون شارات السلوك الجيد، أو يطرد الناس إذا كانوا بغيضين، تطور من أعلى إلى أسفل. نحن بحاجة إلى مزيد من المساءلة على شبكة الإنترنت.

هناك بعض الناس الذين يقولون يجب أن يكون هناك شيء مثل رخصة قيادة للشخص ليكون قادراً على الدخول على الإنترنت، مثل امتلاك مهارات معينة لتتمكن من العمل. لا تتحكم في المحتوى، بل تتحكم في السلوك المعادي غير المعياري الذي يحدث. وبوسعكم أيضاً أن تفكروا في الجانب الآخر، بشأن المعايير التي خدمت غرضاً وكانت صارمة، ولكنها أتت بنتائج عكسية الآن.

فعلى سبيل المثال، أدرتُ في العام الماضي حلقة عمل في إسرائيل (فلسطين المحتلة) بشأن هذا الموضوع. آلون تال، وهو ناشط هناك، جاء لمقابلتي في ميريلاند. ونشر كتابا بعنوان "الأرض ممتلئة"، يتناول كل شيء عن ديناميات السكان الإسرائيليين. إنها عن كيف أن إسرائيل (فلسطين المحتلة) لديها كثافة سكانية بعيدة جداً عن هولندا أو سنغافورة وكيف أنها تؤثر على البيئة وبشكل أكثر تحديداً، كيف تصبح شوارع المدن غير مستدامة، وقاعات الدراسة، والبيئة. إسرائيل (فلسطين المحتلة) مكان فضفاض، لكن كالعديد من الدول، لديها جيوبه الضيقة الخاصة، ومن المجالات المشددة في إسرائيل (فلسطين المحتلة) هو وجود عائلات كبيرة. فهناك وصمة عار قوية لعدم إنجاب الأطفال وإمتلاك عائلات كبيرة. إنها واحدة من أعلى معدلات المواليد في الدول، ليس فقط بين المتدينين، ولكن بين العلمانيين. لقد جمعنا خبراء السكان من كل مكان لنتحدث عن كيفية تغيير هذه القاعدة لقد كانت مهمة لأسباب وجيهة قبل سنوات، ولكنها الآن يشكك بها بمسببات الاستدامة.

إن التفكير في كيفية تغيير المعايير في الثقافات المختلفة لأمر مذهل. حركة الدفع التي تميل إلى التركيز على الولايات المتحدة هو شيء أتوقع أن تنفجر وتكون عالمية. ولكن نفس الوخزات التي تعمل هنا قد لا تعمل في الثقافات الضيقة أو المتفككة.

لقد كنت في شراكة مع أشخاص يعملون مع البنك الدولي واليونيسيف، وهم يحاولون أيضاً تغيير المعايير غير الملائمة في أفريقيا. الكثير من الأماكن في الأصل تذهب إلى هذه السياقات، التي هي ضيقة جداً، حيث أنها تحاول تغيير المواقف الشخصية والقيم وكان تأثير ذلك قليلاً جداً. حتى لو غيرت موقفك من ختان الأعضاء التناسلية، او الرضاعة الطبيعية، او إرسال أولادك إلى المدرسة، فأنت في لعبة تنسيق. يجب أن تتعامل مع القواعد والعواقب الاجتماعية وتحاول ألا يتم نبذك في هذه السياقات. لذا فمن المدهش أن المعايير الاجتماعية أصبحت الآن تشكل أهمية كبرى في البنك الدولي واليونيسيف والعديد من الأماكن التي تحاول فرض التغيير في سياقات مختلفة. فهم يحاولون تخفيف القواعد الصارمة التي تخدم غرضاً ما، ولكنهم كانوا يحاولون دفع هذا الشيء من خلال شيء أكثر نجاحاً في الولايات المتحدة، والذي يتلخص في سلوك شخصي.

وهذا اتجاه مثير، للنظر في كيفية تشديد القواعد التي تحتاج إلى تشديدها وتحريرها ومعرفة الفرق. إنها ديناميكية. مع المزيد والمزيد من البحث في هذا الموضوع سنتمكن من القيام به بنجاح أكبر.

هناك مجال يركز على التطور الأفقي وكيف تتطور الثقافات من خلال هذه العمليات التصاعدية للأفراد الذين يجتمعون وينظمون ثم تظهر الأشياء. ويقارن ذلك بالانتقال الرأسي، وهو أمر يحظى بشعبية كبيرة في النظرية التطورية، وهو كيف نغير الثقافات من منظور من الأعلى إلى الأسفل. ومع التطور الأفقي، ينحدر المؤلفون من ثقافة فضفاضة حيث تكون هذه الثقافة مهيمنة للغاية. في الثقافات الأكثر صرامة ، حيث يتعلم الناس أن القواعد مهمة، فإنهم يتطلعون أكثر إلى السلطات للمساعدة في تنظيم العمل الاجتماعي. مما يزيد من القلق أن يكون هناك انتقال أفقي من الأسفل إلى الأعلى.

لكن الثقافة تتغير ببطء في حالات كثيرة. لقد كنت أدرس صغار في الثالثة من العمر من حيث كيف يتفاعلون مع القواعد. فقد جلبنا أطفالاً في الثالثة من العمر من الطبقة العاملة وأطفالاً في الثالثة من الطبقة المتوسطة والعليا، واستعرنا نموذج مايكل توماسيلو حيث تفاعلوا مع دمية لأننا لا نستطيع أن نسألهم عن مدى إعجابهم بالقوانين، ولكن بوسعنا أن نجعلهم يتفاعلون مع دمية مثل ماكس. إذاً، (ماكس) يلعب هذه الألعاب الجديدة معهم حيث القواعد مخترعة، وفجأة (ماكس) يفعل شيئاً غريباً. بدأ ينتهك قواعد اللعبة و أعلن أنه يلعب اللعبة بشكل صحيح.

يمكننا أن نصور هؤلاء الأطفال و ننظر ببساطة إلى ردة فعلهم اتضح أنهم يتفاعلون بشكل مختلف. أطفال الطبقة العاملة بعمر الثالثة يحتجون على هذه الدمية لخرقها القواعد. إنهم يعلمون في سن الثالثة مدى أهمية القواعد رغم صغرهم. نقوم بأعمال أخرى تبحث في كيفية ترسيخ الثقافة عندما يتعلق الأمر بانتهاكات المعايير الاجتماعية. ونحن نقارن الصينيين والأميركيين بالكيفية التي يتفاعلون بها عندما ينتهك الناس القواعد. فمن الواضح أن نشاط الدماغ بين الصينيين أقوى كثيراً في المجال الجبهي على سبيل المثال، وهو مجال يتطور إلى التفكير في العقاب ونظرية العقل.

من الصعب تغيير هذا. ويمكن تغييرها، ولكن ينبغي أن نتذكر أنها نتاج عملية تطورية حيث تريد فيها بعض الجماعات قواعد أقوى وقادة أقوى. وقد يساعدنا ذلك على تعزيز بعض التعاطف مع أشخاص في الولايات المتحدة -أشخاص مثل ترامب أو لوبان في أوروبا، أو أشخاص يعارضون الخروج البريطاني، حيث يتلهفون إلى نظام تقليدي. يمكننا محاولة فهم ذلك. هناك اضطرابات خطيرة بين الطبقة العاملة

توماس فريدمان، صديق لي، يَتكلّمُ حول هذا دائماً. إن العالم يتغير بشكل دراماتيكي. ثم يكون لديك قادة يلتفتون إلى هذه الجماعات، حتى أنهم ربما يبالغون في تهديداتهم، ويستهدفون هذه الجماعات. وليس من المستغرب أن يأمل الناس في أن يعيدهم هؤلاء القادة إلى النظام التقليدي لأن العالم يشعر وكأنه يتهاوى.

لقد كنت أبحث في كيفية تعامل الدول الأخرى مع القضايا الطبقية، على سبيل المثال. في ألمانيا الأمر مختلف جداً، حيث الثقافة ضيقة بشكل عام. هناك الكثير من التقييس حول التعليم، من حيث حصول الطبقة العاملة على شهادات يمكن استخدامها للإنتقال من منظمات مختلفة. هناك بعض المساعدة من حيث مساعدة الناس على الإنتقال في سياق التعليم غير الجامعي.

فإذا نظرتم إلى الولايات المتحدة باعتبارها سياقاً فضفاضاً للغاية، فمن الواضح أن بعض الولايات أكثر إحكاماً من غيرها، ولكن هناك القليل من الدعم لأنواع الوظائف المهنية، والتصنيع، وأنظمة الدعم التي ترونها في بلدان أخرى. وليس من المستغرب أن يشعر بعض السكان وفئات معينة بهذا الشعور بالاضطراب، ويتعين علينا أن نتعامل مع ذلك. وسيساعدنا ذلك على تجاوز ما يبدو أنه مجرد فترة محيرة بشكل لا يصدق من تاريخنا الديمقراطي.

محادثة مع ميشيل ڠلفند [٣/١٢/١٩]



قد تُعجبك هذه المشاركات