المحتويات [إظهار]
حنة آرنت تعرف كيف تستفيد بوضعها كمنبوذة، هل هذا هو المفتاح
لتكون مواطن عالمي في القرن الحادي والعشرين؟
حنة آرنت ماتت منذ 40 عاماً ولا يزال إرثها غير مستقر. ولدت في عام
1906 لعائلة علمانية يهودية ألمانية عاشت فيما يعرف اليوم بـ "هانوفر"، ورفضت تسمية
"الفيلسوف السياسي" وفضلت بدلاً من ذلك تسميتها بـ "المنظر السياسي". فمصطلح المنظر، كما رأت، يتيح قول شيء دائم عن الكفاح الجماعي للإنسانية في مواجهة العنف الذي لم يسبق له مثيل
في القرن العشرين.
بالطبع، ما كان هذا الشيء
مراوغاً، بل وربما مشوشاً. واستطردت قائلة إن عملها، الذي يعكس مسار حياتها، يتحدى
برنامجاً واحداً، إذ يضم مجموعة من المشاريع المتفرقة التي كثيراً ما تكون
استنتاجات متناقضة بقدر ما هي مثيرة للجدل.
إن كتابها أسس التوتاليتارية (1951)، هو محالة فهم للنازية التي اقتلعت حياتها،
والشيوعية التي عاينتها بعد الحرب من المنفى في الولايات المتحدة، هي تاريخية
غامضة في تحليلها. فـ الوضع البشري (1958)، وهو
تعريفها "للحياة النشطة" باعتبارها جوهر المجال
السياسي، نظرية بشكل عام. أما في الثورة (1963)، تقرأ
دراستها للثورتين الفرنسية والأمريكية تكاد تكون بمثابة رسالة حب إلى بلدها التي
تبنتها، حيث رأت أن حيوية وتنوع مدينة بولس اليونانية القديمة قد ولدا من جديد
واستعيدا في العصر الحديث فى الولايات المتحدة. فمع ظهور أيخمان في القدس (1963)، وهو
الكتاب الذي خرج من مقالاتها في مجلة نيويوركر عن محاكمة النازي أدولف أيخمان في
عام 1961، غامرت في نشر مقالات صحفية صاغتها بعبارة ــ "تفاهة الشر" ــ
و التحريض في عملية اندلاع "حرب أهلية" بين مفكري نيويورك.
لم تكن آرنت شاهد
على المحرقة. فبعد عام 1933، ذهبت أولاً إلى تشيكوسلوفاكيا، ثم إلى جنيف وباريس
ومعسكر الاعتقال الفرنسي في جورس، وأخيراً إلى الولايات المتحدة حيث استقرت في
مدينة نيويورك. وهناك أصبحت واحدة من أبرز الشخصيات في الحياة الفكرية الأميركية
في مرحلة ما بعد الحرب. كانت تعرف: كطالبة في ماربورغ في ألمانيا، كانت على علاقة
غرامية قصيرة مع معلمها، الفيلسوف (والمتعاطف مع النازية مستقبلاً) مارتن
هايدجر.
وفي وقت
لاحق، في غورس، احتجزت مع الفيلسوف والتر بنجامين (ابن عم زوجها الأول غونتر أندرس( ؛ في ايلول
(سبتمبر) ١٩٤٠ انتحر بنجامين ليتجنب القبض من النازيين.
نجت آرنت، وكانت
بين الملايين من الأوروبيين المهزومين، الذين اضطروا إلى إعادة تشكيل أنفسهم على
الشواطئ الأجنبية بلغات أجنبية. وكما كتبت في مقالتها المؤثرة "نحن اللاجئون" (1943): تم
اختراع قصة خيالية صغيرة لوصف سلوكنا ؛ تبدأ المهاجرة الألمانية البائسة ، في
حزنها، و تقول: "ذات مرة، كنت سانت برنارد …" -نوع من فصيل الكلاب اشتهر
بالإنقاذ-
حققت هذه المهاجرة
الألمانية نجاحاً في الولايات المتحدة، حتى لو لم تفهم دائمًا ديناميكياتها
الاجتماعية.
وفي عام 1957
كتبت عن الإدماج القسري للطلاب السود في المدارس العامة في ليتل روك، أركنساس، فقالت:
"إذا كنت أود كيهودي أن أقضي إجازاتي في صحبة اليهود فقط، فلا أرى كيف يمكن
لأحد أن يمنعني من ذلك بشكل معقول ؛ وكما أنني لا أرى أي سبب يمنع منتجعات أخرى من
تلبية احتياجات الزبائن الذين يرغبون في عدم رؤية اليهود أثناء العطلة."
المرء يجفل بعض الشيء عن ذلك.
وفي الولايات المتحدة،
كوفئت آرنت بسخاء على ذكائها ومثابرتها، فأصبحت كاتبة تتمتع بأفضل المبيعات
وتنشر أعمالها أبرز مطابع تجارية فضلاً عن أول امرأة عُـيّنت أستاذة في جامعة
برينستون. كما تمتعت بحضور المشاهير في جامعة شيكاغو وفي المدرسة الجديدة في
نيويورك، وهي المراحل التي صنعت فيها لنفسها مكانة بارزة في جمهورية الآداب. هكذا
تظهر في السيرة الذاتية التى مثلتها عنها مارغريت فون تروتا لعام 2012: أرملة و ملكة في ريفرسايد
درايف، تتشاجر مع خبراء مثل نورمان بودهوريتس وكورت بلومنفيلد في
النهار و تٌسّلي كُتاب مثل ماري مكارثي وفيليب راف في الليل. وإذا
أضفنا النبيذ والسجائر والفضيحة، يصبح هذا الصرح نوعاً من النصب التذكاري، والصورة
الرمزية لعصر غابر عندما كان العداء الأدبي لا يزال يشكل خطاً في الرمال، والنزاع
الشخصي لم يكن سياسياً فحسب، بل إيديولوجياً.
ولكن إرث آرنت غير
المستقرّ هو أكثر من كأس خمر والخلافات العاطفية ومجموعة استفزازية من التفسيرات التاريخية
والفلسفية. بعد أربعين عاماً من وفاتها، ربما كان الإسهام الأكثر دواماً لهذه
المفكرة من القرن العشرين لا شك في أنه هو تفكيرها في العالمية المتلائمة مع
تحديات القرن الحادي والعشرين التي لم تكن لتراها قط.
في أيامنا هذه، تشير عبارة
"عالمي
- cosmopolitan" في الأغلب إلى كوكتيل، أو مجلة أو أي شيء دولي متطور ــ ربما
مطعم يحتوي على قائمة واسعة من النبيذ، . فلندن على سبيل المثال "عالمية" بسبب سكانها
ووسائل راحتها على مستوى العالم، وكذلك المقيمين فيها من الأثرياء، والذين لا
يقلون بلاغة في اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، سواء في الداخل في باريس أو في
الجانب الشرقي من مانهاتن. ولكن عندما يُستعمل هذا التعبير كمرادف لما كان يُطلق عليه
«مجموعة الطائرات النفاثة»، يفقد معنى أعمق.
منذ نشر فيلم ويز
أندرسون "The
Grand Budapest Hotel " في العام الماضي ــ الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية
الأولى ــ كان هناك حنين كبير إلى إلهام الفيلم "عالم أوروبا قبل
الحروب". ووصف شتيفان تسفايغ، الكاتب النمساوي الذي ساعدت أعماله على
إلهام فيلم أندرسون، هذا المثل الأعلى الأوروبي البرجوازي بأنه المكان الذي 'يصبح
فيه كل مواطن شخصا خالى من قوميته، وعالمياً، ومواطناً من مواطني العالم'.
وحتى قبل عام 1938، عندما
تحركت العملية العسكرية الألمانية آنشلوس لتحويل فيينا المحبوبة لـ تسفايغ إلى
ما وصفه هتلر بأنه "أحدث معقل للرايخ الألماني"، كان عالم الأمس العالمي
لـ تسفايغ مثالياً. وزعمت آرنت أن الأمر قد يكون وهماً أيضا، على
سبيل المثال ، قالت في مراجعتها لمذكرات تسفايغ العاطفية في عام 1943: "لو أظهر يهود غرب ووسط
أوروبا ولو قدراً ضئيلاً من القلق بشأن الحقائق السياسية في عصرهم، لكان لديهم من
الأسباب ما يكفي لعدم الشعور بالأمان".
حتى اليونان القديمة، حيث
استحدث ديوجينس ليرتيوس أول مرة كلمة kosmou politês ، كانت مجتمعاً مستعبداً أبوياً جداً. على
الرغم من عيوب وأهوال اليونان القديمة، والغرب الحديث، فقد أذهلت فكرة ومُثل الكوزموبوليتانية
المفكرين لقرون من الزمان. وفي مجلة بوسطن ريفيو (Boston Review) في عام 1994، دعت الفيلسوفة مارثا
نوسباوم إلى ما أسمته "التعليم العالمي"، أي التعليم الذي يخلق
جيلاً من الأمريكيين "الولاء الرئيسي لمجتمع البشر في العالم بأسره". في عام 2004، دافعت
العالمة السياسية سيلا بن حبيب عن تبني سياسة عالمية يمكن أن تكون بمثابة
نموذج للأطر القانونية للدول القومية.
ورغم أن هذه الأفكار تبدو
رومانسية وجذابة في كثير من الأحيان، فربما كان من الأفضل للبعض إعادة صياغة الكوزموبوليتانية
في القرن الحادي والعشرين التركيز على الوحدة الكمية للشخص الواحد، أو إنسان القرن
الحادي والعشرين، الذي يسكن هوية معقدة ومتعددة الأوجه مع عدد من الارتباطات
والانتماءات (المتناقضة في كثير من الأحيان). ومن هذا المنطلق، يتعين على العالمية
في القرن الحادي والعشرين أن تأخذ في الاعتبار الأفراد العالميين وليس مجرد أخلاقيات
عالمية مجردة.
فالأفراد الكوزموبوليتيون هم
الذين يدركون تمام الإدراك أنه لا يوجد على الإطلاق معيار واحد للهوية. وفي حين أن
فئات الهوية التقليدية للجنسية والدين والجنس والطبقة والعرق لا تزال قائمة، فإن
هناك مفردات هويات جديدة تتقاطع معها وخارج هذه الفئات القديمة. والآن أصبح العديد
من الناس يتمتعون باستقلالية حقيقية في تقرير ما يعنيه لهم كل من هذه التعريفات بالنسبة
لهم، ومدى القيمة التي يرغبون في إعطائهم إياها. إن الهوية هي دائماً مركبة في وحدة كاملة. غير أن
الاعتراف بالفرد كوحدة كمية، يجازف بالتخلص من ذاته بلا هوادة على حساب الالتزامات
الخارجية ومشاريع العدالة والإنسانية. وعلى هذا فإن العالمية في القرن الحادي
والعشرين لا ينبغي لها أيضاً أن تتنازل عن العالمية، بل لابد وأن تعترف أيضاً
بوجود العديد من العالمية. فبوسع الناس أن يتعمقوا في ذوات معينة من تصميمهم
الخاص، وبوسعهم أن يختاروا أطراً عالمية مختلفة يبنون بها أنفسهم. وبعبارة أخرى:
الجميع مختلفون ولكن لا أحد "مناسب للتكيف"، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه لا يوجد سوى
القليل جدًا ممن هو "مناسب للتكيف".
وهذا، في جوهره، هو
الإمكانات المتاحة للأفراد العالميين: الأشخاص ذوي الهويات المتعددة الذين لا
يضحون بانتماءاتهم الخاصة ولا يمحونها، ولكن يمكنهم أن يجدوا في تلك الخصائص بقايا
إنسانية مشتركة. وقد عبر الفيلسوف كوامي أنتوني أبيا، في كتابه عن العالمية لعام
2007، عن ذلك على النحو التالي: إن التحدي هو "أخذ العقول والقلوب التي تكونت
على مدى آلاف السنين من العيش في البيئات المحلية وتجهيزها بالأفكار والمؤسسات
التي ستمكننا من العيش معاً بوصفنا القبيلة العالمية التي سنتحول إليها".
ولا شك أن
مصطلح"الأفكار والمؤسسات" سيختلف في عالم متزايد العولمة. وأفضل مكان للبدء هو
الاعتراف بأن إنسانية تلك "العقول والقلوب" تعتمد على خصوصيتها، وأن
العودة إلى الحياة العالمية سوف يعتمد على الاختلاف الأساسي في الهويات الفردية،
وليس على وحدتها المزعومة.
لم تكتب حنة آرنت صراحة
عن العالمية، أو حتى استخدمت هذا المصطلح، ولكنها كانت نموذجاً عالمياً. أحبّت
تبنّيه لنا، فهي لم تمحي ماضيها لتلفيق حاضر جديد. ففهمها للتاريخ اليهودي وتجربتها
ليهودتها الخاصة ظلا محوريين لحياتها وعملها، وساعدا في إضاءة كل متباين وصعب.
وكانت آرنت مفتونة بمفهوم "المنبوذ"، الذي أحدث نقلة في رأيها
للتجربة اليهودية في أوروبا. وكما كتبت في أسس التوتاليتارية ، "كان على اليهود دائما أن يدفعوا
بالبؤس السياسي من أجل المجد الاجتماعي و تقبل الإهانة الاجتماعية للنجاح السياسي ".
وبالنسبة إلى "آرنت"، فإن كون الشخص
منبوذاً ليس وضعاً سلبياً بطبيعته ؛ قد يجلب لك ذلك بعض المتعة والقيمة. وفي
سلسلة من المقالات التي كتبتها في الأربعينيات، أشارت إلى الشعراء والكتاب هاينريش
هاين، وراحيل فارنهاغن، وبرنار لازار، وفرانز كافكا بوصفهم
منبوذين. وقد عنت بذلك أنهم لم يفلتوا قط من يهوديتهم، بل استخدموا أيضا اختلافهم
"لتجاوز حدود الجنسية ونسج خيوط عبقريتهم اليهودية في النسيج العام للحياة
الأوروبية"، التي أدارت "قبول اليهود كيهود في صفوف الإنسانية".
وبعبارة أخرى، الذين لم يطمسوا خصوصيتهم بل احتفلوا بها، ووجدوا داخلها عالماً
جوهرياً على نطاق عالمي.
كان هذا جوهر عالميتها.
كانت آرنت، بعد اجتثاثها من جذورها، ورغم مرونتها الدائمة، تتسم بأوقات
مظلمة خاصة بها، ولكن بسببها على وجه التحديد تمكنت من صياغة ملامح رؤية عالمية
أكثر انسجاماً مع العالم الذي اندمجت فيه، أكثر من العالم الذي خلفته وراءها. إن
حياة وعمل آرنت تدور حول قصة شخص يسعى إلى تجريد الإنسانية العالمية من
منظور مجتمع بعينه ــ في حالتها المجتمع اليهودي (ولو أنها كانت على خلاف مع ذلك
بشكل مستمر تقريباً).
فباعترافها بما هو عالمي
ضمن وضعها "المنبوذ"، كانت مواطنة عالمية حقيقية. ومن بين إرثها الذي لا يُحصى أن ذاكرتها هي شهادة على
التعددية ــ فكرة أن الناس ليسوا جميعاً متشابهين، ولكن من خلال الاعتراف القائم
على الاحترام باختلافاتهم، يمكنهم أن يتجاوزوا الحدود التي فرقتهم. وعلى هذا فإن
عالمية آرنت لم تكن مكرسة لتفوق الحياة البشرية بل لخصوصية حياة بشرية
بعينها، مسترشدة بالاختلاف ومستوحاة منه.
لكن اسم "آرنت" لا يزال مرادفاً للجدل
والسبب في ذلك هو كتابها ايخمان في القدس، الذي باع حتى الآن أكثر من 000 300
نسخة. ورغم هذا فإن هذا الكتاب هو الذي يصور على أفضل نحو طبيعة عالمية آرنت.
ففي عام 1960، ألقى
الموساد القبض على أدولف أيخمان ــ أحد المنظمين الرئيسيين للمحرقة،
والمكلف بتنسيق النقل الجماعي لمئات الآلاف من اليهود إلى محرقتهم ــ في بوينس
آيرس. لقد قاموا بتهريبه خارج (الأرجنتين) في زي المُضيفين. وكانت "محاكمته
الصورية"، كما وصفها آرنت، أول حدث تلفزيوني أُذيع للعالم لمواجهة
العمل الوحشي الذي أطلق عليه فيما بعد "الهولوكوست". ولم تبد آرنت أي تعاطف خاص مع تجربتها في تغطية الحدث
الأول الذي أعطى صوتاً لمئات الضحايا ــ الذين أرهق بعضهم و انهار الآخر في قاعة المحكمة.
وكانت هي نفسها ضحية لرجال
مثل ايخمان، فجاءت إلى القدس لكي تضع عينيها على إبليس ذاته، لكي تجد بدلاً
من ذلك بيروقراطياً وضيعاً يتحرك ليس من خلال شهوة القتل بل بالطموح المهني. ومثّل
أيخمان، بالنسبة لـ آرنت، "تفاهة الشر"، وهو تفسير دفع
العديد من القراء إلى التساؤل عما إذا كانت قد برأت شريرها. ولكن الطريقة التي
عاملت بها الضحايا والناجين اليهود ــ من حيث النبرة الكاوية التي استخدمتها
والاستنتاجات التي توصلت إليها ــ هي التي تسببت في حرارة العاصفة النارية.
ومن التحيز المتكبر
لخلفيتها النخبوية، وصفت آرنت، جدعون هاوزنر -المدعي العام- بأنه "يهودي مغاليّ نموذجي، غير متعاطف وممل،
ويرتكب الأخطاء باستمرار. ربما كان أحد هؤلاء الناس الذين "لا يعرفون أي لغة". وفي غضون ذلك، كان اليهود
الفلسطينيون خارج قاعة المحكمة عبارة عن "غوغاء شرقية ". و سمت ليو
بايك، حاخام برلين المثقف وزعيم الجالية اليهودية في زمن الحرب، الذي نجا هو
نفسه بالكاد من معسكر الاعتقال في تيريزين، بالـ "الفوهرر اليهودي".
ما كتبته عن Judenräte -المجالس اليهودية في الأحياء النازية- يضعها على خط المواجهة في معركة
مريرة بين التاريخ والذاكرة:
وحيثما كان يعيش اليهود، كان هناك زعماء يهود معترف بهم، وكانت هذه القيادة، بدون استثناء تقريباً، تتعاون مع النازيين. والحقيقة الكاملة هي أنه لو كان الشعب اليهودي حقاً غير منظم وبلا قيادة، لحدثت فوضى والكثير من البؤس، ولكن العدد الإجمالي للضحايا ما كان ليتراوح تقريباً بين 4.5 و 6 ملايين شخص.
كان مشروع آرنت في
أيخمان في القدس يتلخص في وصف شمولية الانهيار الأخلاقي في ظل الحكم النازي، وهو
الموضوع الذي استكشفته في أصولها الشمولية قبل أكثر من عشر سنوات. وترى آرنت
أن مشاركة Jundenräte في تصفية شعبهم
إنما هي دليل على ذلك، وهو مشهد مخيف يحول فيه مرتكب الجريمة الضحية إلى مرتكب هو
نفسه. لسوء الحظ، طغت نبرتها على وجهة نظرها. وقد حرّض الكتاب المفكرين في نيويورك على ما دعاه أحد
النقاد البارزين ‹ حرباً اهلية ›. وكما كتب المؤرخ أنطوني غرافتون في عام
2009، متذكراً طفولته في دوائر الأدب اليهودي العلماني في ستينات القرن الماضي في
نيويورك، يبدو أن "اليهود خانوا اليهود في أكبر مدينة في العالم -في أخطر وأفضل
مجلة على مستوى العالم". ومع كتاب قصير واحد، أصبحت آرنت، وهي منظرة
سياسية بارزة، "منبوذة".
وكان هناك بُعد جنساني
لوضع
"آرنت" المنبوذ (كما كانت الحال لفارنهاغن،
في القرن الثامن عشر بالصالون الألماني اليهودي الذي كتبت سيرتها الذاتية "آرنت" في ثلاثينيات القرن
العشرين). فقد اعتبرها اصدقاء آرنت ومنتقدوها امرأة اجتاحت عالم الرجال
الفكري. ففي عام 1964، على سبيل المثال، ظهرت على برنامج Zur Person في مقابلة تلفزيونية مع غونتر جاوس،
وهو المثيل الألماني لتشارلي روز أو ديفيد ديمبليبي. بدأ جاوس مقابلته
بـ
"حنة
آرنت،
أنت السيدة الأولى التي يتم تصويرها في هذه السلسلة،". "سيدة بمهنة قد
يعتبرها البعض ذكورية، أنت فيلسوفة"
وعلى نحو مماثل، قدم
الناقد الأدبي الأميركي ألفريد كازين، في مراجعته لسيرة إليزابيث يونج بروهل عن آرنت، موضوعه
ليس باعتباره مفكراً بل كامرأة، محصورًا في المساحة المحلية لـ "منزل في" West
95th Street الذي تقاسمته مع "زوجها المجهد"، الشاعر والفيلسوف
الألماني هاينريش بلوخر. ففي سنة ١٩٨٢، كتب كازين في مجلة ذا نيويورك ريفيور (بالانكليزية):
‹ كانت امرأة وسيمة مفعمة بالحيوية عمرها ٤٠ سنة، وكان عليها أن تسحرني أنا وغيري
دون ان تثير شهوتي بأي شكل من الاشكال ›.
ورغم تقييد هذه التحيزات،
فإنها لم تقيد"آرنت". ولا شك أن هذه الأسباب
كانت وراء وضعها المنبوذ، ولكنها كانت أيضاً الأساس الذي قامت عليه خصوصيتها،
وجوهر عالميتها.
في أعقاب الجدال حول
ايخمان قامت آرنت بتبادل حامي للرسائل مع صديقها الفيلسوف الاسرائيلي
المولد جيرشوم شوليم الذي شكك في حقها في الحكم على الأحداث التي لم تكن
حاضرة فيها وكتب سنة ١٩٦٣: ‹أنا لا اجرؤ ان أحكم. طالما لم أكن هناك›
ولكن الأمر الأكثر أهمية
لاعتراضه هو ما اعتبره افتقار "آرنت" إلي حب الشعب اليهودي. يقول رد آرنت شيئاً عن نظرتها
الخاصة إلى العالمية:
لم أتأثر بأي "حب" من هذا النوع ، ولسببين: لم أحب في حياتي أبدًا أي شخص أو جماعة - لا الشعب الألماني، ولا الفرنسيين ولا الأمريكيين ولا الطبقة العاملة ولا أي شيء من هذا القبيل. أنا بالفعل أحب أصدقائي "فقط" والنوع الوحيد من الحب الذي أعرفه وأؤمن به هو حب الأشخاص.
وفيما يتعلق بشكوكه في
هويتها اليهودية، كتبت:
أن أكون يهوديا ينتمي لي إلى الحقائق التي لا تقبل الجدل في حياتي، ولم تكن لدي أبداً الرغبة في تغيير أو إنكار حقائق من هذا النوع. هناك شيء مثل الإمتنان الأساسي لكل شيء كما هو.
وردها هو في نهاية المطاف
دفاع قوي عن كونها منبوذة. وما تنقله إلى شوليم هو أن يهوديتها، وهي
"حقيقة لا جدال فيها" في حياتها، تشكل في نهاية المطاف ارتباطاً خاصاً
ترفض التنديد به بسبب القدرة التي يمنحها إياها كعنصر في هويتها.
وتذكرنا الرسالة بالمشهد
الأخير من سيرتها الذاتية لفارنهاجن في عام 1957، والتي تشكل في كثير من
جوانبها الشخصية الأخرى لـ آرنت. وفي اقتباس مزين -حذفت آرنت أجزاء من مراسلات فارنهاغن حيث
أكدت اهتدائها إلى المسيحية- سمحت الكاتبة لشخصية موضوها بالموت في سلام، بعد أن تصالحت
أخيراً وبعد طول انتظار مع التوتر الذي ساد حياتها: "الشيء الذي بدا لي طيلة
حياتي وكأنه أكبر عار، وهو البؤس والمحنة في حياتي -بعد ولادتي كيهودية -وهو ما لا
ينبغي بأي حال من الأحوال أن أفتقد ذلك الآن". ثم يعود صوت الراوي لإعطاء آرنت
الحكم النهائي على فارنهاغن:" [ظلت] يهودية ومنبوذة. ولم تجد مكاناً لها في تاريخ الإنسانية
الأوروبية إلا بسبب تشبثها بكلا الشرطين.". و الحكم ينطبق أيضاً علىآرنت
في بعض النواحي، كان آرنت
شخصاً منبوذاً لأنها كان يهودية في أوروبا النازية ولاجئاً على لوح شطرنج من الدول
القومية، وامرأة في عالم فكري ذكوري. ولكن هذه العزلة جعلتها أيضاً مواطنة عالمية
مثالية، وليست مواطنة من "العالم" بقدر ما هي مواطنة لعدة عوالم من
عوالم أخرى كثيرة، موجودة بالكامل في بيتها في مكان واحد ولكنها بارعة فيهم
جميعاً. وإذا كانت تعتبر نفسها منظرة سياسية، فهي أيضا نظرية حية، وشاعرة للتعددية.
مقال لـ جيمس ماكولي هو باحث في جامعة أكسفورد يدرس التاريخ الأوروبي الحديث. ظهرت كتاباته في مجلة نيويورك تايمز وواشنطن بوست ونيو ريبابليك وغيرها.
إرسال تعليق