ماذا يمكن أن يخبرنا التاريخ عن الأوبئة؟

ماذا يمكن أن يخبرنا التاريخ عن الأوبئة؟

المحتويات [إظهار]





هل يمكننا أن نتعلم من التاريخ كيف تنتشر الأمراض وكيف نتصدى لها؟

شكلت استراتيجيات التعامل مع الطاعون الأساس للسياسات اللاحقة
جون هندرسون، أستاذ تاريخ عصر النهضة الإيطالي في بيركبك، جامعة لندن ومؤلف كتاب فلورنسا تحت الحصار: النجاة من الطاعون في مدينة حديثة مبكرة (ييل، 2019)

تتخلل أخبار انتشار فيروس كورونا وردود أفعاله حياتنا اليومية، وتخلق بالتناوب الخوف والطمأنينة، حيث تثير وسائل التواصل الاجتماعي مشاعر الذعر، بينما يؤكد الإعلام الرسمي أن الوباء تحت السيطرة.

ولكن العبارات والمواضيع التي تميز التصريحات الرسمية ليست جديدة ؛ فهي تتحدث لقرون من ردود الفعل إزاء الأوبئة، التي لا يوجد بينها ما هو أكثر وضوحاً من الطاعون. والواقع أن الاستراتيجيات الرامية إلى التعامل مع الطاعون في أوروبا ما قبل العصر الصناعي شكلت الأساس لسياسات لاحقة وانعكست في مبادرات الصحة العامة الحالية.

إن سياسات "الاحتواء" و "التخفيف" و "الحجر الصحي" ليست بجديدة. ومن عجيب المفارقات هنا، ونظراً للانتشار الحالي لفيروس كورونا في شمال إيطاليا ووسط إيطاليا، فإن بعض استراتيجيات الصحة العامة الرئيسية قد نشأت أولاً أثناء عصر النهضة. و أثر الحصار المفروض على الصناعات والتجارة سلباً على الاقتصاد، الذي ينفذه جنود على طول الحدود لمنع دخول الطاعون إلى الدول. استخدمت المدن - التي ربما تكون محمية بشكل أفضل من الآن من خلال جدرانها في العصور الوسطى- حراساً لتحدي أي شخص يحاول الدخول.

تم تطهير الشوارع بفروع العرعر المحترقة، بينما طهرت المنازل والأثاث والأغطية 'المصابة' بالكبريت. كان الأطباء الذين يضعون أقنعة منقوشة ضد الطاعون يجوبون الشوارع، في حين يلبس الطاقم الطبي أقنعة أبسط اليوم. ثم، كما هو الحال الآن، تم الإعراب عن القلق من تجمع الناس معاً ؛ وحظرت المناسبات العامة وأغلقت المدارس والأسواق. ونُقل المرضى إلى مراكز الحجر الصحي الكبيرة -'لازاريتي' -بينما عُزل المخالطون لمدة 40 يوماً في منازلهم أو في مؤسسات كبيرة خارج أسوار المدينة.

وأكدت هذه الاستراتيجيات على دور الحكومات في الاحتواء والتخفيف، مع السعي في الوقت نفسه إلى تجنب إثارة الذعر والخوف. وعلى الرغم من أن هذا العصر كان قبل عصر وسائل الإعلام الاجتماعية، إلا أن الشائعات انتشرت و اُتهمت القطاعات المهمشة في المجتمع بنشر المرض، الأمر الذي أثار تساؤلات حول تأثير السياسات الرسمية على الحريات الإنسانية.

تضرب الأوبئة من الخارج و تُنقل إلى الداخل
صامويل كوهن، أستاذ تاريخ القرون الوسطى، جامعة غلاسكو ومؤلف كتاب "الأوبئة: الكراهية والرحمة من طاعون أثينا إلى الإيدز" (أكسفورد، 2018)

إنني أركز على جانب واحد من الأوبئة، والواقع أن المصادر التاريخية الوحيدة من العصور القديمة حتى القرن التاسع عشر هي ردود الفعل البشرية. حتي أوائل الثمانينات عند ظهور فيروس نقص المناعة البشرية/ (الإيدز) على الأقل، كانت ردود الفعل المرتبطة بشكل يكاد يكون حصري بالأوبئة على مر الزمن هي الريبة واللوم والعنف تجاه الفقراء و "الآخرين" وضحايا المرض. ومن السهل أن نتخيل هذا. غالبًا ما تنتشر الأوبئة من الخارج ، ويحملها المضيفون الأجانب إلي الداخل ويُنظر إليها على أنها ناشئة عن الفقر والتلوث. ومع ذلك، فإن الكراهية والعنف يكون أكثر تفشياً من تفشي الفيروس نفسه.

ثم ينتقل الغضب والعنف بشكل متكرر في اتجاه معاكس، من الفقراء إلى الدولة، وخاصة عندما فرضت النخبة أشكالاً وحشية من الحجر الصحي وعمليات التفتيش العسكرية على أولئك الذين اعتُبِروا بمثابة حاضنين للمرض ــ الفقراء ــ كما حدث مع الطاعون الدَبِلي في نهاية القرن التاسع عشر في شبه القارة الهندية. وقد حوصر الفقراء في معسكرات فصل غير إنسانية مما أسفر عن أعمال شغب وتجمهر بالآلاف ضد النخب الاستعمارية وحكومات البلديات. وقد تمتد خطوط الكراهية إلى اتجاهات أخرى، كما حدث مع أعمال الشغب الناجمة عن الكوليرا من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. ومرة أخرى، كان الفقراء هم مرتكبو العنف، ولكن العاملين في مجال الصحة أصبحوا الضحايا الرئيسيين، إذ اتهموا باختراع المرض لإبادة السكان الفقراء.

لكنَّ التاريخ يُظهِر أن ردود الفعل العنيفة هذه كانت استثناءات، وخصوصا قبل القرن الـ ١٩. وبدلاً من ذلك فقد تؤدي الأوبئة إلى إنهاء الصراع الطبقي ـ بين أهل النخبة في مجلس الشيوخ وعامة الناس في روما في القرن الخامس.- وقد تؤدي أيضاً إلى تفاقم آفة التراحم ، كما هي الحال مع تدفق العمل التطوعي الجماعي والتضحية بالذات في مختلف أنحاء العالم أثناء الأنفلونزا الأسبانية في عام 1918-1920.

ويصبح السؤال: لماذا الخلافات؟ على مدى المائتي عام الماضية، كان أحد المتغيرات القوية: معدلات الفتك (نسبة الوفيات الناجمة عن المرض) وليس معدل الوفيات. وفي ظل الكوليرا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر والإيبولا اليوم، تكرر الهجمات ضد العاملين في مجال الصحة والدولة بنفس العبارة: "الناس يدخلون المستشفيات، ولكنهم لا يخرجون أحياء".

الخوف والشك يتضاعف بسرعة أكبر من أي فيروس
 باتريسيا فارا، الرئيسة السابقة للجمعية البريطانية لتاريخ العلم والزميلة الفخرية لكلية كلير، كامبريدج

تولد الأوبئة الخوف والشك اللذين ينتشران بسرعة أكبر من أي فيروس. فعندما يندلع مرض غامض فإن أول رد فعل غير مفيد يتلخص في الهلع ــ والثاني يتلخص في تحديد هوية الجاني. فبدلاً من التركيز علي العلاج، نركز علي إلقاء اللوم على الطبقات المفترضة بخلق عيوب في نظام المجتمع. في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، عندما كان سبب الإيدز لا يزال مجهولاً، اتهمت الصحافة الأميركية الأفارقة بممارسة الجنس مع الشمبانزي، في حين أن عملاء الاتحاد السوفيتي حددوا أصوله بخلقه في مختبرات البحوث الأميركية. ولكن مع تصاعد رهاب المثلية دوليًا ، كانت الكراهية الأكثر شراسة موجهة ضد المريض رقم صفر، مضيف شركة الطيران المثلي الذي نُسب المرض إليه بلا مبرر و أصبح مصدر للهجوم.

سنة ١٦٦٥، خلال أشنع غزو بكتيري في انكلترا، كان المشتبه به الرئيسي هو الله. وإذ لم يكن هنالك تفسير آخر، تدفَّقت الجموع الى الكنائس وصلّوا طلبا للإنقاذ مما اعتبروه عقاباً إلهياً على خطاياهم. في كتابه نصف الروائي "يوميات سنة الطاعون"، وصف دانييل ديفو الفوضى المتصاعدة بأن العزل القسري أثبت أنه غير مثمر و ذو نتيجة عكسية. وقال في كثير من الأحيان إن 'الأذى الخاص' هو الذي يكسب المعركة ضد 'المنفعة العامة'. قلقًا من الإصابة بالعدوى ، قام السجناء الأصحاء بتكسير الأبواب المغلقة للحصول على الغذاء، أو بنهب الممتلكات المهجورة، أو هربوا إلى الريف، مما أدى إلى انتشار العدوى على نطاق أوسع.
وبالنسبة لأولئك الذين كان بوسعهم أن يتحملوا تكاليف الترف و الرفاهية، كان العزل في المناطق الريفية يوفر لهم في بعض الأحيان ما يعادل إجازة تفرغ مثمرة. علي سبيل المثال، فبعد أن تحرر عالم المجهريات روبرت هوك من مهامه في الجمعية الملكية، انهمك في إجراء التجارب وتكهن بالحفريات البحرية التي وجدها في ساري داونز. في هذه الاثناء، زُعم أن تلميذا من جامعة كامبريدج كان محتجزا مؤقتًا في كوخ لينكولنشاير تحجلس تحت شجرة تفاح لتصور نظرية الجاذبية واستخدم المنشورات لإثبات أن ضوء الشمس يحتوي على ألوان قوس قزح.
و مع ذلك، لم يكن العلم قادراً على تفسير الطاعون. ورغم رسوماته المفصلة عن البراغيث، أنكر هوك تأثيرها، ولا يزال العلماء العصريون عاجزون عن ضمان الحماية. وسواء ألقينا اللوم على الله أو الإنسان البريء، فسيموت كثيرون لا محالة عندما يتوقف الوضع الطبيعي.

يبقى الجدري المرض البشري الوحيد الذي تم استئصاله
ساندرا هيمبل، مؤلفة أطلس الأمراض: رسم خرائط الأوبئة الفتاكة والعدوى من الطاعون إلى فيروس زيكا (الأسد الأبيض، 2018)

في السبعينيات ، تم نصح طالب الذي سيصبح أحد علماء الأحياء المجهرية في العالم بعدم إجراء أبحاث في الأمراض المعدية. وأخبره أستاذه أنه لم يكن هناك جدوى, فبفضل التطعيم والمضادات الحيوية، تراجعت أخيراً الأمراض الوبائية الفتاكة، مثل الجدري والطاعون والتيفوس والملاريا.

ولكن بعد مرور نحو ٥٠ سنة، يبقى الجدري المرض البشري الوحيد الذي يجب استئصاله. وفي الوقت نفسه، ظهرت مسببات أمراض جديدة، و انتقلت أنواعاً من الحيوانات المضيفة إلى البشر، و انفجرت أخري من موائلها التقليدية في أجزاء معزولة من العالم متحولة إلى عالمية.

وفي عام 2002، ظهر في الصين نوع غير معروف من الالتهاب الرئوي. . وتسببت متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد أو السارس ، و هي مثل COVID-19 ومرض الزكام ، في وفاة أكثر من 700 شخص في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وآسيا. . تم الكشف عن الإيبولا لأول مرة في عام 1976 ولكنها اقتصرت على حالات تفشي صغيرة في وسط أفريقيا. ثم فجأة، في عام 2014، انتقلت في غرب أفريقيا ثم في جميع أنحاء العالم. وبحلول عام 2016، كان وباء فيروس الإيدز، الذي لاحظه العالم في الثمانينات، قد تسبب في وفاة ما لا يقل عن 35 مليون شخص على الأقل. لأي شيء على مقياس مماثل، علينا أن نعود إلى القرن الرابع عشر والموت الأسود.

ثم كانت هناك مظاهر غريبة لأمراض أكثر رسوخا. ففي عام 1916 اندلع مرض شلل الأطفال، الذي كان معروفاً سابقاً بأنه تفشيات صغيرة يمكن احتواؤها، في نيويورك وقتل ستة آلاف شخص في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. وبحلول أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، كان شلل الأطفال يشل أو يقتل أكثر من نصف مليون شخص سنوياً في مختلف أنحاء العالم. وما زلنا لا نفهم لماذا بدأت الأنفلونزا فجأة في عام 1918 في قتل الملايين من الشباب في ظل جائحة عالمية. حتى ذلك الوقت، اقتصرت وفيات الإنفلونزا بشكل رئيسي على كبار السن والضعفاء.

على الرغم من التقدم الاستثنائي الذي طرأ على العلوم الطبية منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن العوامل المسببة للأمراض المسؤولة عن الأمراض الوبائية أثبتت قدرتها على الصمود ومرونتها وعدم القدرة على التنبؤ بها، وهو ما لم يكن بوسع أستاذ سبعينيات القرن العشرين أن يتخيله. ومن الواضح أن الكفاح من أجل التغلب على هذه التحديات لا تزال بعيدة.

قد تُعجبك هذه المشاركات