المحتويات [إظهار]
كانت آخر مبارزة قضائية في فرنسا معلقة على ما إذا كان من
الممكن تصديق امرأة.
في يوم قارس البرودة في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٣٨٦،
في رهبان الدير القديم في پاريس الذي هو اليوم متحف للعلم والتكنولوجيا -معبد
العقل البشري- تجمع حشد متلهف من الآلاف لمشاهدة فارسين يتبارزان حتى الموت بالرمح
والسيف والخنجر. كانت شابة نبيلة جميلة ترتدي ثيابا سوداء وتنظر الى نظرات الجمع
تنتظر النتائج بفارغ الصبر. فالمحاكمة بالقتال تقرر هل أخبرت الحقيقة أم لا،
وبالتالي هل ستعيش ام تموت. وكما هي الحال اليوم، كثيراً ما أفلت مرتكبو
الاعتداءات الجنسية والاغتصاب من العقاب، بل ولم يُبلَّغ عنهم و هذا في العصور
الوسطى. بيد أن الإتهام العلني بالاغتصاب، والذي كان في ذلك الوقت جريمة يعاقب
عليها بالإعدام وكثيراً ما كان سبباً لشائعات شائنة تعرض شرف المتورطين للخطر، قد
يخلف عواقب وخيمة على كل من المتهِم والمتهَم، وخاصة بين النبلاء.
فقد ادعت مارجريت دي كاروجس، المتحدرة من عائلة
نورمانية قديمة وثرية، انها تعرضت في كانون الثاني (يناير) من تلك السنة للاعتداء
والاغتصاب في قصر حماتها على يد رجل دين يدعى جاك لو ڠريس، يساعده أحد أقرب
اصدقائه، وهو آدم لڤيل. كان والد مارغريت، روبرت دو تيبوڤيل، قد
خان ذات مرة ملك فرنسا، وربما تساءل البعض هل تقول « ابنة الخائن » الحقيقة.
كان زوج مارجريت، السير جان دي كاروجس،
رجلاً معروفاً بالغيرة والعنف، والذي كانت صداقته الحميمة مع لو جريس قد توترت
في السنوات الأخيرة وسط تنافس المحكمة ونزاع طويل على الأرض، كان مسافراً على
قدميه في وقت وقوع الجريمة المزعومة. ولكن عندما عاد بعد أيام قليلة وسمع قصة
زوجته، غضب وأتهم لو ڠريس في محكمة الكونت پيار في ألينكون، الرئيس
الأعلى لكلا الرجلين. وكان لو جريس المفضل لدى الكونت ويده اليمنى
الإدارية. كان لو ڠريس رجلاً كبيراً وذا نفوذ و مثقف وغني جداً، مع أنه كان
من عائلة نبيلة فقط في الآونة الاخيرة. كما اشتهر بأنه مغوي -او ما هو اسوأ. لكنَّ
الكونت، الذي أثار غضبه الاتهام الموجه الى الشخص الذي يفضله، اعلن في جلسة استماع
قانونية ان مارجريت »تتوهم» ورفض فورا التهم الموجهة إليه، وأمر بعدم »طرح أي أسئلة أخرى حول هذا الموضوع«.
توجه كارجوس، الذي لولاه لم تتمكن زوجته من رفع
قضية، إلى باريس لطلب العدالة من الملك. كما هناك مرسوماً ملكياً سنة ١٣٠٦ مؤسس على السوابق
القديمة كان يسمح للمبارزة ان تكون الملاذ الاخير للنبلاء المتورطين في القضايا
التي يُعاقب عليها بالإعدام. القتل، الخيانة، والاغتصاب -ولكن بحلول ذلك الوقت
كانت المبارزات القضائية نادرة جدا. ففي شهر يوليو/تموز الماضي، في القصر الملكي القديم
في جزيرة إل دي لا سيتي، تحدى الفارس الإقطاعي رسمياً، وألقى بالقفاز، كما شهد على
ذلك الشاب شارل السادس،و العديد من أفراد الأسرة الملكية الأخرى، وقضاة محكمة
باريس، وهي أعلى محكمة في البلاد.
بيد أن التحدي المطلوب لا يؤدي مباشرة إلى مبارزة، بل
يشير إلى بدء تحقيق رسمي من جانب البرلمان، لا يسمح بالمبارزة إلا إذا تعذر التوصل
إلى حكم على أساس الأدلة المتاحة. وعلى مدى الأشهر العديدة التالية، تم تعيين
محامين مشهورين، و استُدعي الشهود، وجُمعت الشهادات. وصلت مارجريت الى
پاريس وهي الآن حامل، ربما نتيجة للاغتصاب، وشهدت بالتفصيل عن الهجوم المزعوم الذي
شنه لو ڠريس وشريكه. فادّعت: « حاربته بكل يأس، حتى أنه صرخ الى لڤيل طالباً
منه ان يعود ويساعده. فقاموا بتثبيتى وحشروا غطاء على فمي لإسكاتي. ظننت أنني
سأختنق، وسرعان ما لم أعد أستطيع محاربتهم. "لو جريس اغتصبني.
فردّ لو جريس بحجة غياب تفصيلية ليس فقط في اليوم
المذكور بل طوال الاسبوع، داعياً العديد من الشهود إلى تحديد مكان تواجده في بلدة
اخرى أو بالقرب منها على بعد نحو ٢٥ ميلا. وقد أبقى محامي لو جريس، جان
لو كوك، الذي يحظى باحترام كبير، على ملاحظات باللغة اللاتينية لا تزال باقية،
مما يتيح لنا إلقاء نظرة خاطفة على المناقشات بين المحامي وموكله. ويبدو أن لو
كوك ساوره بعض الشكوك حول صدق موكله، في حين اعترف بأن هذه القضية كانت أكثر
القضايا الشائكة بين "قوله، قولها". وعلى الرغم من القسَم الكثير الذي
قطعته السيدة، وأقوال الساحة، فقد افضى الى مذكراته قائلا: « لم يعرف احد حقيقة
تلك القضية«.
وفي نهاية المطاف، لم يتوصل البرلمان الى قرار، وفي ايلول
(سبتمبر) امر رسمياً بإجراء محاكمة عن طريق القتال، حيث من الطبيعي ان يضمن الله
نتيجة عادلة. إذا فاز (كاروجس) بالمبارزة، الزوجان سيذهبان حرين ولكن
اذا خسر زوج مارجريت بطلة القصة، ‹ يثبتان بذلك› ان اتهامها باطل،و وليس فقط أي
موت. وفقاً للتقاليد القديمة ، بل ستُحْرقُ حيّة كمتهمة كاذبة.
أصبحت القضية الآن مشهورة. المحكمة الملكية بأكملها كانت
تثرثر عن الإغتصاب والمحاكمة وإحتمالية المبارزة وبعيداً عن المحكمة كان يجري
الحديث عن النزاع « الى اقصى انحاء المملكة »، كما يقول المؤرخ جون فروسارت. فقد أظهرت أبحاث الأرشيف أن الأخبار عادت إلى الظهور في
ذلك الوقت، بمعدل متوسط رحلة يوم على ظهر الخيل: نحو ثلاثين ميلاً في اليوم.
وانتشر خبر هذه الحادثة الفاضحة في كل مكان عبر التجار، الجنود، رجال الدين
المتجولين، وغيرهم ممن حملوا آخر الاخبار على طول الطرق الوعرة الى البلدات والقرى
النائية.
وكان القتال المميت، الذي خُطط له ٢٩ كانون الاول
(ديسمبر)، بمثابة الحدث الابرز في هذا الموسم في العاصمة، اذ تقاطر آلاف
الپاريسيين لرؤيته، وأقام الملك الشاب وبلاطته اماكنهما في مشهد زاهي الالوان في
دير سان مارتين ديشان. يصور فروسارت مارغريت، التي ولدت ابنا مؤخراً، وهي تصلي
الى العذراء وهي تنتظر مصيرها بفارغ الصبر. ويضيف: « لا اعرف، لأنني لم اتكلم معها
قط، هل ندمت في اغلب الاحيان على الذهاب بعيداً إلى هذا الحد الذي يجعلها هي
وزوجها في مجازفة كبيرة؟! وأخيراً، لم يكن هنالك شيء سوى انتظار النتيجة« .
وبعد العديد من الاحتفالات التمهيدية التي قررها التقليد
(تفتيش الأسلحة، وسلسلة من القَسَم الرسمي، ودبلنة "لو جريس" كفارس لجعل المقاتلين متساوين في الرتبة، وما إلى ذلك)،
بدأت المبارزة كمبارزة على صهوات الجواد، بالرماح. كتب فروسارت: « كان هذان المقاتلان يجلسان « بشكل جميل جداً »، لأن كليهما
كان ماهراً في السلاح. وأسعد لوردات فرنسا برؤيته، لأنهم جاءوا لمشاهدة الرجلين
يتقاتلان. إلى جانب حل قضية قانونية وصلت إلى طريق مسدود، وفرت
المبارزة أيضا رياضة دم متوقعة بشغف للنبلاء.
وبعد ترجل الفارسان. كاروجس ولو ڠريس، حاربا على الاقدام بالسيوف بكل بسالة.
لكن لو جريس تمكن من الإقتراب من دفاعات كاروجس وأصابه في فخذه
ويضيف المؤرخ: « كان كل الذين أحبوه خائفين جدا« .
و على الرغم من فقدان دمه الآن، شنَّ هجوماً مضاداً جريئاً
و « قاتل بشراسة » حتى أنه تمكن من رمي خصمه على الارض. وتزوِّد روايات اخرى
تفاصيل فنية اكثر، حتى انها تشير الى ان لو ڠريس انزلق على دم خصمه. ويقول فروسارت
ببساطة إن كاروجس "ضرب" خصمه و "قذف بسيفه في جسده وقتله على
الفور".

التنافس بين) كاروجس( و(لو جريس(ستكون آخر مبارزة قضائية ولكن في القرون الستة التي تلت
انتهاء الشجار، تغيَّرت المعاني التي كانت ستُستمد منه تغييراً كبيراً. يشكك
كثيرون -بمن فيهم ، المؤرخون، الانصار، و حتى الروائيون التاريخيون- في هذا الحكم الرسمي.
يردِّد البعض قرار الكونت پيار الرافض، قائلين ان مارڠريت اختلقت كل
ذلك، ربما للتغطية على علاقة غرامية مع رجل آخر. وقد اقترح البعض أن زوجها أجبرها
على القصة للانتقام لنفسه من لو ڠريس، صديقه السابق الذي تحوَّل إلى منافسه
في البلاط. ويعترف البعض بالاغتصاب، مستشهدين بالنظرية الاكثر شعبية، ولكنهم يقولون
ان مارغريت اتهمت الرجل الخطأ عن طريق خطأ، و هو خطأ « صادق » لكنه خطأ مأساوي سلب لو
ڠريس حياته، ثروته، وسمعته الحسنة.
تستمد نظرية الخطأ في تحديد الهوية في نهاية المطاف من
مصدرين بدآ في التداول بعد أكثر من عشر سنوات من المبارزة. وأقدم الاثنين التاريخ
الملكي الرسمي للراهب ميشال بنتوين الذي كتب حوالي الساعة 1400. وتقول إن
الجميع "اعترف في وقت لاحق ببراءة لو غريس، لأن رجلاً محكوماً عليه
بالإعدام بموجب القانون اعترف بارتكابه الجريمة النكراء. وَعِنْدَمَا عَرَفَتْ
ٱلْمَرْأَةُ بِذٰلِكَ وَأَدْرَكَتْ أَنَّ ٱلْخَطَأَ خَطَأُهَا، رَجَعَتْ إِلَى
ٱلدِّيرِ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجَهَا، متعهدة بالعفة الدائمة « .
ويرد تقرير مشابه مع اختلاف كبير في التفاصيل في تاريخ جان
جوفينال دي أرسين في شارل السادس، الذي لم يكن كُتب قبل عام 1420 وربما
أقرب إلى عام 1430. وُلد الاسقف جوڤينال في سنة ١٣٨٨، بعد سنتين من مبارزة
مميتة، وكتب في وقت أطول وربما تأثر برواية پينتوين. وعلى نحو مماثل، يزعم أن مارغريت قد خدعت بشأن
هوية المعتدي عليها، على الرغم من أن "الحقيقة" المفترضة تنكشف لدى هذه
الرواية في ظروف مختلفة: "في وقت لاحق اكتُشِف أن [لو جريس] لم يفعل ذلك حقا، بل كان قد فعل ذلك شخص آخر مات مرضاً في
سريره، واعترف أمام الآخرين في لحظة موته بأنه من قام بهذا الفعل".
وأحد اسباب الشك في هذين التقريرين -باستثناء مصادرهما
الكهنوتية التي تشك بشكل واضح في النساء- هو أن كلا منهما يروي قصة مختلفة جداً.
فالاول يقول أن المجرم المزعوم هو رجل مدان على وشك الاعدام، والآخر هو رجل مريض
على فراش موته. الأول يتضمن توبة السيدة في التراجع إلى دير، بينما الآخر يغفل هذه
النهاية. وعلاوة على ذلك، لم يجر قط تأكيد أي من التقريرين بشكل مستقل، رغم أن
وجود تقريرين من هذا القبيل، على الرغم من تباين تفاصيلهما، ربما أتاح لكل منهما
أن يؤكد الآخر في أذهان المتلهفين إلى تصديقهما.
إن الرواية السابقة والأكثر تفصيلاً للاعتراف المزعوم، في
سجل پينتوين، لا تختلف عن الاخرى فحسب، بل تختلف أيضاً بشكل حاد عن الشهادة
الرسمية لـ مارڠريت أمام البرلمان بطريقة تجعل السيناريو مستحيلاً بشكل
واضح. وفقا لـ پينتوين، مارغريت والمعتدي عليها تناولا العشاء معاً
قبل الهجوم، وأثناء ذهابه إلى غرفته في الليلة التي اعتدى فيها عليها. وتتناقض هذه
التفاصيل تماماً مع شهادة المحكمة التي أدلت بها مارغريت بشأن زيارة
المعتدي لها في النهار، والتي كان توقيتها (إن لم يكن ادعاءاتها المحددة) مدعوماً
برحيل حماتها في ذلك الصباح وعودتها بعد ساعات قليلة من ذلك اليوم نفسه. وفي حجة
غيابه، استشهد لو غريس بنفسه بضيق الوقت المتاح لزيارته المزعومة، خلال
ساعات النهار تحديداً. وحتى إذا كان المعتدي، كما يزعم پينتوين، قد قام
بالفعل (وبالعكس مع الشهادة الفعلية) بزيارته في وقت متأخر من اليوم، فمن غير
المرجح على الإطلاق أن تقدم مارغريت، التي كانت على علم تام بشكاوى زوجها
ضد لو غريس، وجبة ومأوى لمنافس زوجها (أو لرجل أخطأت في فهمه)، وخاصة أثناء
غياب زوجها.
وبعد قرون، أشاع المفكرون في عصر التنوير قصة «البريء» لو ڠريس الذي اتُّهم زورا وأُجبر على الدفاع عن نفسه في محاكمة
وحشية ظالمة بسبب القتال. فقد استغلت موسوعة ديديروت وتاريخ فولتير في باريس قضية
1386 للتنديد بالجهل المزعوم والقسوة في القرون الوسطى. وبحلول أوائل القرن التاسع
عشر، كانت الفكرة القائلة بأن كل شيء كان قضية هوية خاطئة، راسخة كما تجسدت في
رواية كتبها في عام 1824 المؤرخ والسياسي النورماندي لويس دو بوا، الذي
"يفسر" الخطأ المفترض في تطبيق العدالة بتكهنات مفادها أن المغتصب
الحقيقي "كان مرافقاً يحمل بلا أدنى شك بعض الشبه بالرجل الي نأسف عليه لو
ڠريس".
كما اعتنقت نظرية الهوية الخاطئة في الخارج ، كما قال
المؤرخ الأميركي هنري تشارلز ليا، في دراسته النافذة في عام 1866، للقانون
والخرافات والقوة في القرون الوسطى، في واقع الأمر، إن "لو جريس" أثبت بعد ذلك براءته باعتراف الجاني الحقيقي على فراش
الموت. "حتى أن ليا عاب فروسارت لأنه لم يذكر أي شيء عن
الاعتراف.
بعد قرن من نشر الفلسفة لهذه النظرية، ترسخت هذه النظرية
كحقيقة ثابتة في الموسوعات الرسمية. في مقال عن المبارزات، وصف القاموس الكبير
للجامعة (١٨٦٦ -١٨٧٧)، الذي يشرف عليه المحرر المبجل بيير لاروس، قضية سنة
١٣٨٦ بأنها « الأبرز » في التاريخ، مدعياً ان الايمان الواسع بظلمها ساعد على وضع
حد سريع لعادة المحاكمة بالقتال. وتقدم المقالة نسخة مشوهة ومتناثرة حيث "في
عام 1385،" اتُهِمَ لو جريس بمهاجمة السيدة "ليلا"، باستخدام "وجهاً مقنعا"، وهي تنتظر عودة زوجها من الأرض المقدسة.
وبعد المبارزة المميتة، تظهر " الحقيقة " قائلاً: « في وقت لاحق، اعترف أحد المجرمين،
الذي كان يكفر عن جرائمه الاخرى، بأنه مذنب بارتكاب العمل البغيض الذي اتُّهِم به لو
ڠريس. وهذا الخطأ القاسي دفع البرلمان إلى رفض جميع الطعون
المتعلقة بالمبارزة رفضاً منهجياً …وكانت هذه نهاية المعركة القضائية ".
وتتكرر قصة مماثلة في الطبعة الحادية عشرة الشهيرة من
دائرة المعارف البريطانية (1910-1911)، التي تذكر
بدورها التاريخ الخاطئ لعام 1385 وتروي أن المغتصِب الذي هاجم السيدة ليلا،
رغم أنها هنا "تحت ستار زوجها" وهي تنتظر عودته من الحملات الصليبية،
وهي حيلة يصعب تصديقها وهي تذكر قصة مارتن غوير. وتردد في خاتمتها ايضا كلمات القاموس الكبير
(بالالمانية): « بعد فترة قصيرة، اعترف مجرم اعتُقل بسبب جريمة أخرى انه هو مَن
اغتصب. ولا يمكن لأي نظام قانوني أن يصمد لفترة طويلة على هذا النحو حتى تم إعادة
فتح القضية، وأبطلها البرلمان".
والواقع أن الخيال التاريخي الشعبي يشجع نظرية الهوية
الخاطئة، مستغلاً تأثير الصدمة. وظهر مثال مفصل في عام 1829، بعد بضع سنوات فقط من
تخمين دو بوا بأن الإقطاعي تم اتهامه خطأ باعتباره شبيهاً للجاني الحقيقي،
في كتاب تاريخ جونجير، وهو عبارة عن مجموعة مجهولة من قصص "القرون
الوسطى". تبدأ القصة المؤلفة من ٤٠ صفحة بعنوان "Le jugement de Dieu" بحشود من الباريسيين المتحمسين الذين يصلون إلى ملعب سان
مارتن لمشاهدة المبارزة التي طال انتظارها. وكما كان متوقعاً، فإن المحاكمة المميتة
بالقتال أمام حشد غفير من المتفرجين تتكشف بمسرحية حقيقية و مشوقة. ولكن بعد لحظات
فقط من قتل كاروڠس لـ لو ڠريس في ساحة المعركة، يصعد ساعي مغبر
حاملاً الأخبار المذهلة التي اعترف بها رجل آخر عن الجريمة. فقد فات الاوان على
انقاذ البريء لو ڠريس. إن ما يميِّز هذه الرواية، بالاضافة الى طولها غير
العادي، هو سرعة ظهور « الحقيقة » بشكل مفاجئ و الكشف عن « الخطأ » القضائي في
ساحة المعركة. فبدلاً من إكتشاف متأخر استغرق سنوات عديدة -كما هو الحال في السجلات- فإن الأمر لا يستغرق سوى دقائق من موت لو ڠريس حتى
إعلان « البرهان » على براءته.
وبغض النظر عن التقارير الملتبسة والسطحية وغير المتسقة
في تاريخي تلك الوقائع، لم يقدم أي دليل خارجي لهذه الأسطورة الغامضة على الإطلاق
لدعم الحكاية التي كثيراً ما تروى عن اعتراف الجاني "الحقيقي" في آخر
لحظة. ومن الغريب أن العديد من السلطات يبدو أنها لم تنزعج من الأخطاء الوقائعية
الواضحة في هذه التقارير، أو التناقضات المتبادلة بينها، أو عدم وجود أي دليل داعم. وإذا كانت هناك أسباب للاعتقاد بإمكانية براءة صحيفة لو
جريس، فإن القصة المشكوك فيها حول الاعتراف المتأخر من جانب رجل آخر ليست
بالتأكيد ولم تكن قط واحدة منها.
وعلى الرغم من مزاعم المشككين والرافضين، فإن شهادة مارغريت
تشير إلى أنها لم تكن على يقين شبه مؤكد مخطئة بشأن هوية المعتدين عليها.
وتأخذ هذه الشهادة ما يقرب من ألف كلمة لاتينية في الموجز الرسمي للقضية من البرلمان،
محفوظة اليوم في دار المحفوظات الوطنية، على الضفة اليمنى، في مارايس، على مسافة
قصيرة من الدير القديم حيث دارت المعركة في ذلك اليوم الشتوي البارد.
شهدت مارغريت مرارا تحت القسم أنه في يوم من ايام
كانون الثاني (يناير) ١٣٨٦ -الخميس الثامن عشر، هاجمها رجلان هما لو ڠريس و
لڤيل. وقالت إن ذلك حدث في ساعات الصباح في القصر المتواضع
لحماتها الأرملة، نيكول دي كاروجس، في منطقة نائية من نورماندي تعرف باسم
كابوميسنيل، على بعد 12 ميلا جنوب غرب ليسيو. وفي وقت الهجوم، كان جان دي
كاروجس مسافراً في رحلة إلى باريس كان سيعود منها بعد بضعة أيام. وكانت نيكول،
التي ترك جان زوجته في رعايتها، غائبة هي الأخرى لفترة من اليوم المعني،
بعد استدعائها في مهمة قانونية إلى مدينة الدير القريبة سان بيير. وادّعت مارغريت
أن نيكول اصطحبت معها كل الخدم تقريباً، بمن فيهم جارية كان جان قد
أمرها ألا تترك مارغريت أبدا، مما جعلها « بمفردها تقريبا ».
كما شهدت مارغريت ان آدم لڤيل كان اول مَن
وصل الى القصر، وأنه بدأ زيارته بـ حثها على طلب تمديد مدة القرض المستحق مقابل
مئة فرنك من الذهب. ثم اضاف لڤيل تحية من جاك لو ڠريس الذي قال: «
أُعجب بها كثيرا » وكان متشوقاً الى التكلم معها. فأجابت مارڠريت انها لا
ترغب في التحدث إلى لو ڠريس، وأن لڤيل ينبغي ان يتوقف عن مبادراته
فورا.
وعند هذه النقطة دخل لو جريس نفسه قاعة القصر فجأة
(ولربما كان يشير إلى القاعة الرئيسية أو "القاعة الكبرى" حيث كان
يستقبل الضيوف عادة). فحيّا مارغريت، معلناً انها « سيدة كل الارض »، وأنه
يحبها اكثر من غيرها وأنه سيفعل اي شيء من أجلها. وعندما اخبرت مارڠريت لو ڠريس
انه لا يجب ان يتكلم معها بهذه الطريقة، أمسك بيدها وأجبرها على الجلوس إلى جانبه
على مقعد، وقال لها انه يعرف كل شيء عن مشاكل زوجها المالية الاخيرة وعرض عليها ان
يدفع لها جيداً. وعندما رفضت مارڠريت عرضه بعناد قائلة إنها لا ترغب في
الحصول على ماله، تصاعدت حدة العنف.
فأمسكها الرجلان من ذراعيها وساقيها،وجرّاها الى أعلى
الدرج المجاور، فيما كانت تصارع وتصرخ طلباً للمساعدة. فاقتحمت غرفة نوم في الطابق
العلوي وحاولت الهرب بالجري عبر باب في الطرف الآخر من الغرفة ولكن لو غريس منعها
من ذلك. ثم رماها الساحة على سرير، لكنه لم يستطع إمساكها دون مساعدة من لڤيل،
الذي هرع إلى الغرفة بأمر من لو ڠريس أن يساعد صديقه على اخضاع واغتصاب مارڠريت
في النهاية. وقد استمرت في الصراخ طلباً للمساعدة، كما تقول، حتى تم اسكاتها
بوضع قلنسوة لو جريس فى فمها.
وكما لاحظ المؤرخ النورماندي ألفريد دي كايكس في خمسينات
القرن التاسع عشر، وهو واحد من القليلين الذين يصدّقون روايتها، فإن شهادة مارغريت
مثيرة للاهتمام واصفاً إياها بأنها "ظرفية وتفصيلية." « إن بعض التفاصيل في روايتها تثير مشاكل خطيرة بسبب نظرية
الهوية الخاطئة." وقد شهدت مارغريت على وجه الخصوص بأنها رأت كلا
الرجلين في ضوء النهار، وأن لڤيل ذكر بالتحديد لو جريس بالاسم قبل
أن يظهر الثاني بعد ذلك بوقت قصير، وأنها تحدثت مع الرجلين لفترة طويلة قبل أن
يعتدوا عليها. والواقع أن ادعاء مارغريت بأن لڤيل ذكر لو غريس بالاسم
كان مؤثراً بشكل خاص، لأنه من الصعب إدراج هذه التفاصيل في سيناريو معقول حيث تكون
كاذباً حقاً، كما زعم كثيرون أنها كانت، بشأن هوية المعتدين عليها، وخاصة لو
جريس.
وفي دفاعه عن نفسه، ادَّع لو ڠريس أن نيكول لم
تجد أية مشكلة عند عودتها ولم تصدق ادِّعاءات زوجة ابنها اللاحقة. وادعى أيضاً، في
المحكمة، أنه لم ير مارغريت إلا مرتين في حياته كلها: خلال التحقيق الرسمي
الذي قام به البرلمان، وأيضاً "قبل سنتين على الأقل" في تجمع اجتماعي في منزل صديق
مشترك، هو جان كريسبن، حيث وضع كاروجس و لو جريس، على ما
يبدو، خلافاتهما الأخيرة، وأمر كاروجس زوجته بتقبيل لو جريس كعلامة على
تجديد الصداقة.
وعلى هذا فإن نظرية الهوية الخطأ كانت تدعي بعدم إلمام مارغريت
النسبي بمظهر "لو جريس" في وقت الاغتصاب المزعوم في يناير/كانون الثاني 1386، بعد
مرور أكثر من عام منذ التقت مارغريت للمرة الأولى "لو جريس" في منزل كريسبن. ومع ذلك، فإن النظرية لا يمكن أن تفسر على نحو معقول
تسمية ليفل لـ لو جريس بينما كان في محادثة مع مارغريت. ويبدو ان تسمية لڤيل لـ لو ڠريس قبل وصوله
إلي الساحة مباشرة تضفي على لو ڠريس تهمة قاطعة، ما لم تكن قصة مارڠريت تلفيقاً
متعمدا.
ومن المهم أيضاً أن يكون برلمان باريس قد وجد أن قصة مارغريت
ذات مصداقية كافية لإبطال تبرئة الكونت بييار رسمياً من تهمة لو
جريس والإذن بالمبارزة القضائية النادرة، التي كان الغرض الرسمي منها، على
الرغم من الشك الذي قد يبدو عليه الإجراء اليوم، هو تحديد الحقيقة في القضايا التي
لا تكفي فيها شهادة الشهود وغيرها من الأدلة للتوصل إلى حكم. لا بد ان قصة مارڠريت
بدت معقولة على الاقل بالنسبة إلى القضاة الذين أمروا بالمبارزة، وهو أمر لم
يفعله البرلمان طوال اكثر من ٣٠ سنة في قضية اغتصاب.
وإذا كانت نظرية الهوية الخطأ خاطئة، فإن هذا يرغمنا على
العودة إلى إلى قرون المعضلة الحادة: هل كانت مارجريت تكذب، أم كانت تقول الحقيقة؟ ان
الرأي القائل ان مارغريت كانت تكذب -وهو تخمين لا يدعمه أي دليل، باستثناء
حجة غياب لو ڠريس المشكوك فيها - إما انها اختلقت قصة الاغتصاب بنفسها،
ربما للتغطية على الزنا، او ان زوجها الانتهازي ابتزها منها للانتقام لنفسه من
خصمه. والتفسير الأخير هو ذاته الذي طرحه لو جريس دفاعاً
عن نفسه، وقد ردده مؤخراً مؤرخ حديث واحد على الأقل في عام 1992. فاميليتي في كتابه حكايات عن سرير الزوجية من فرنسا في القرون الوسطى (بالانكليزية) أن كاروجس "قرر تحويل الاغتصاب لمصلحته بعد أن علم باغتصاب مارغريت" و "أجبر زوجته على الموافقة على اتهام جاك بأنه
الرجل الذي اغتصبها." وفقا لوجهة النظر هذه، لم تتهم مارغريت الرجل الخطأ
بالخطأ، بل بمعرفتها و التواطؤ (او الخوف من الامتثال) مع زوجها. كما ان شهادتها في المحكمة لا تعدو ان تكون « نص » زوجها،
كما يدعو فاميليتي، لأنها اهلكت منافسه البغيض.
يتبقي أن نشير إلى أن وجه آخر من أوجه شهادة مارغريت التي
لم تلق الاهتمام اللازم، و هي ادراج آدم لڤيل في التهمة الجنائية. ونظراً
لعدم وجود أي شهود لصالحها، كانت اتهامات مارغريت ضد لڤيل إضافة غير مبررة
ومحفوفة بالمخاطر إلى شهادتها إذا كانت قصتها عن الاعتداء والاغتصاب كذبة متعمدة.
فكلما كانت قصتها أكثر تعقيداً، كلما كانت أكثر عرضة للتحدي ؛ إدراج (آدم لڤيل ) في التهم قد يزيد من عبء إثباتها. حيث لا يتبقي في سجلات
المحكمة حجة غياب لو جريس وحده، ولكن لو كان لـ لڤيل شهود منفصلون قاموا بالشهادة بتواجده في مكان آخر وقت
ارتكاب الجريمة، فإن شهادتهم كانت لتبرئ لو جريس أيضاً، تماماً كما كانت
حجة غيابه لتساعد في تبرئة لڤيل. حجّتان منفصلتان أقرب للدحض مِنْ واحدة. وإدانة مشتبهين
اثنين أصعب من إدانة واحد ما لم ينقلبوا ضد بعضهم البعض ومع ذلك، قيل إن آدم
لڤيل لم يعترف بأي شيء، ولا حتى تحت التعذيب. لكن إذا كانت قصة مارغريت
صحيحة ولو جريس مذنب بالتهمة الموجهة إليه، لماذا زاد الإقطاعي من خطر
كشفه عن طريق جلب شريك في المقام الأول؟
وتطرح هذه القضية المتشابكة والتي لا تزال مثيرة للجدال
العديد من التساؤلات المستعصية، وخاصة لماذا فعلها جاك لو جريس، إن كان قد
فعلها بالفعل. وإذا لم يتمكن برلمان باريس من إثبات حتى الحقائق الأساسية، فالفرصة
ضئيلة لاكتشاف دوافعنا الخفية بعد كل هذه القرون. ولكن الشكوك التي أحاطت بقصة مارغريت
الفاضحة، والرفض الأولي لادعاءاتها في المحكمة، والظل الذي ألقت به روايات
أخبار الايام اللاحقة على سمعتها، لا تختلف كثيرا عن الشكوك والتحامل اللذين
واجهتهما ضحايا الاعتداء الجنسي الأحدث عهداً. فبقدر ما يقال ان لو ڠريس أسكت
مارغريت بقلنسوته، استطاع فيلق من رجال الدين والمؤرخين والأنصار ان يكتم ويخمد
قصتها بإشاعات غامضة وتقارير متناقضة حجبت المسألة حتى يومنا هذا تقريباً.
ورغم هذا فإن القضية تكشف عن الطريقة التي تكمن بها
الفضيحة(scandal)، باعتبارها
أحد أبناء عم لكلمة افتراءslander ) وكلتاهما مشتقتان من الكلمة الفرنسية القديمة escandle)، في الكلمة المنطوقة أو المكتوبة، سواء في ثرثرة الجيران
أو إشاعات المؤرخ. إن الفضائح التاريخية، مثلها في ذلك كمثل الفضائح
المعاصرة التي تملئ صحفنا الصفراء، ومواقعنا الإخبارية، و بوستات فيسبوك التي
تنتشر الآن في كل مكان، مبنية على شعور مشترك على نطاق واسع من اليقين بشأن
"ما حدث حقاً" ــ وهو شعور كثيراً ما يكذب الحقيقة البعيدة المنال. ورغم
أن بعض الذين تأثروا بالفضيحة قد يستطيعون إسترداد حياتهم أو سمعتهم مرة أخري، فإن
آخرين لن يفعلوا ذلك أبداً: فما حدث، أو ما يقال إنه حدث، قد يتبعه أحاديث أخري حتى
على صفحات التاريخ.
ترجمة بتصرف لمقال )إريك جاجر( أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة (كاليفورنيا) و ألّف
أربعة كتب بما فيها المبارزة الأخيرة و (بلود رويال) ومن المقرر إصدار فيلم مبني على على روايته المبارزة
الأخيرة في عام 2021.
إرسال تعليق