المحتويات [إظهار]
كيف ابتكرت
الأسواق و كتابات كارل ماركس والنخب الإقليمية أدباً عالمياً لمحاربة
الإمبراطورية والقومية
بعد ظهر يوم 31 كانون
الثاني/يناير 1827، وُلّدت رؤية جديدة للأدب. ففي ذلك اليوم، ذهب يوهان بيتر
إيكرمان، السكرتير الامين ليوهان وولفغانغ فون غوته، إلى بيت سيده، كما
فعل مئات المرات في السنوات الثلاث والنصف الماضية. ذكر جوته أنه كان يقرأ
رواية "المغازلة الصينية" (1824)، وهي رواية صينية. و حول ذلك قال له إيكرمان
"حقاً؟ لا بد أن هذا كان
غريباً" فأجاب ڠوته: "لا، ليس للحد الذي تظنه."
فوجئ إيكرمان بالمغامرة
بأن هذه الرواية الصينية لابد وأن تكون استثنائية. "أخطأت مرة أخرى"
وكان صوت معلمه صارماً: " لا ثقافة بعيدة عن الحقيقة. و الصينيون لديهم الآلاف من الحقائق، كانت لديهم عندما
كان أجدادنا لا يزالون يعيشون في الأشجار." 'ثم توصل غوته إلى المصطلح
الذي أذهل سكرتيره:" عصر الأدب العالمي أصبح في متناول اليد، وعلى الجميع أن
يساهموا في تعجيله". تولد الأدب العالمي -فكرة الأدب العالمي- من هذه
المحادثة في فايمار، مدينة ألمانية يقطنها سبعة آلاف نسمة.
ومثل بقية أوروبا، وقعت
فايمار تحت الظلال الثقافية لباريس. فقد صدَّرت باريس حضارتها المتروبولية، جاعلةً
الأوروبيين يقرأون الروايات الفرنسية، ويقرأون الشعر الفرنسي، ويشاهدون المسرحيات
الفرنسية. فقد استجاب العديد من الفنانين والمفكرين الألمان لهيمنة باريس الثقافية
بمبادرة قومية. وجمعوا حكايات شعبية وعناصر اخرى من التسلية الشعبية و أحاديث
الفلاحين، مما يثمن قيمة كيان يُدعى الثقافة الألمانية. والواقع أنهم ساعدوا في
جعل الأفكار الثقافية الألمانية الأصيلة ــ على عكس "المجتمع الأنجلوي" أو
"الحضارة" الفرنسية ــ الأساس لدولة قومية في المستقبل.
غوته نفسه كان قد تلقى تعليمه
على الطريقة الفرنسية. و اتفق مع القوميين الألمان على ضرورة إنهاء الاعتماد الثقافي
على فرنسا. ولكنه اختلف مع بحثهم عن الثقافة الألمانية الأصلية والتقاليد الشعبية.
بحث غوته عن بديل لكل من الثقافة الحضرية والقومية الألمانية. فلجأ أولاً
إلى إنجلترا، وخاصة وليام شكسبير، ولكنه سرعان ما أدرك أن الهيمنة الثقافية
الإنجليزية لم تكن في تحسن. كان بحاجة لشيء ليس مختلفاً فحسب، بل أكبر وأفضل. و
الحل كان الأدب العالمي.
نشأ الأدب العالمي كحل
للمعضلة التي واجهها غوته كمفكر إقليمي بين الهيمنة المتروبولية والقومية
المعادية للمهاجرين. وبالإضافة إلى الروايات الصينية، كان يقرأ المسرحية
السنسكريتية الكلاسيكية كشاكونتالا لكاليداسا ؛ وكان قد درس العربية؛ وسقط في حب الشاعر الفارسي حافظ الشيرازى من القرون الوسطى. وكان المعاصرين حوله
يرفضون هذه الإهتمامات. في عيد ميلاده، أهدوا غوته عمامة. لكن مثل هذه الأفعال تركت غوته بلا رادع. فقد ثابر على عاداته المتباعدة في القراءة
آملا ان يقتدي به الآخرون. في نظر جوته، مثل الأدب العالمي المثل الأعلى
الجريء لعالم لم تسيطر فيه لغة منفردة أو أمة منفردة. فالأدب العالمي هو التعبير
الثقافي عن نظام سياسي، نظام تجاوز فيه العالم ما وراء القومية والاستعمار اللذين
هيمنا على القرن التاسع عشر.

والواقع أن رؤية غوته بأن
تشكيل سوق عالمية أرسى الأسس للأدب العالمي استولت على مخيلة فريدريش إنجلز وكارل
ماركس.
فقد ذهب إنجلز،
ابن أحد الصناعيين الأثرياء، إلى مانشستر لدراسة الأساليب المتقدمة للتصنيع. ذهب ماركس إلى
برلين ليغمر نفسه في دراسة الفلسفة. وبدأ الاثنان في التعاون، وجمعا بين دراسات إنجلز
الاقتصادية في التصنيع وأفكار ماركس الفلسفية. وعندما طلب من ماركس وإنجلز صياغة برنامج
جديد لمجموعة غامضة من المتطرفين في لندن، كتبا البيان الشيوعي (1848).
في فقرة مذهلة من هذا
النص، احتفي المؤلفان بالدور البرجوازي في القضاء على الهياكل الإقطاعية التي دامت
قرناً من الزمان:
ومن خلال استغلال السوق العالمية، جعلت البرجوازية من الإنتاج والاستهلاك شأناً عالمياً. ومما أزعج أعداءها أنها قد انتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها الوطنية التي قامت عليها. … هذه الصناعات لم تعد تستخدم مواد محلية أولية بل مواد خام مستخرجة من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها، تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الإكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والإنعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم. وما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكاً مشتركاً. والتعصب والتقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. ومن الآداب القومية و الإقليمية ينشأ أدب عالميّ.
الأدب العالمي. بالنسبة
للعديد من المعاصرين ، كان سيبدو مثل مصطلح غريب يُستخدَم في سياق المناجم
والمحركات البخارية والسكك الحديدية. لكنه لم يكن مفاجئاً لـ غوته رغم ميوله الارستقراطية، عرف أن سوقاً عالمية جديدة
جعلت المطبوعات العالمية ممكنة.
لقد وصف ماركس وإنجلز
السوق العالمية كنتيجة للإمبراطوريات التجارية الأوروبية والاستعمار. حيث قام الضباط
الأوروبيون (البرتغاليون، الفرنسيون، الإنكليز) بترجمة الأدب الصيني والعربي
والفارسي الذي كان يقرأه غوته في فايمار. وبالعمل مع النخب المحلية
و العالمية مما وصفه ماركس وإنجلز في البيان بأنه "أقصى
المناطق"، أنتج هؤلاء المستعمرون طبعات وترجمات من الأدب تصل الآن إلى
"كل ربوع العالم". وبفضل آلات الطباعة المتطورة، حتى أن إنتاج الأدب كان
شبيهاً بالصناعة في مانشستر.
وبما أن السوق العالمية
أدت إلى فكرة الأدب العالمي، وأن الاستعمار الأوروبي كان أساس السوق العالمية، ألا
يكون بذلك الأدب العالمي امتداداً للاستعمار، و توبيخاً لـ غوته؟ في نظر ماركس
وإنجلز، كان الأدب العالمي برجوازي، أي رأسمالي، وبالتالي متشبع
بالاستعمار. لكن رفض الأدب العالمي يعني رمي الطفل بمياه الإستحمام. لا تمثل
العولمة ولا العالم الأدبي المترابط المشكلة بحد ذاته. كل شيء يتوقف على الكيفية وشروط التنظيم. فالعولمة لا مفر منها، ومن
المحتم أيضاً أن تتطور أدبيات عالمية ؛ كان السؤال من أي نوع. بالنسبة لـ ماركس
وإنجلز، كان من المهم وضع الأدب العالمي على أساس جديد، وأن يكون
دولياً وتحريرياً وعالمياً.
في تشبثهما بفكرة الأدب
العالمي، كان ماركس وإنجلز يفكران أيضاً في شيء أقرب إلى الوطن:
نصهما الخاص. وفي ديباجتهم الشهيرة، أعلنوا أن البيان "سيتم نشره باللغات الإنجليزية
والفرنسية والألمانية والإيطالية والفلمنكية والدانمركية" -اللغة الأصلية،
الألمانية، كانت في وسط الترجمات. وكان البيان يطمح إلى أن يكون نموذجاً للأدب
العالمي.
ورغم كل الصعاب فقد نجح ماركس
وإنجلز، رغم أن ترجمة البيان الشيوعي إلى لغات مختلفة استغرق عقوداً من
الزمان. في هذه العملية، ساهم مؤلفوها في نوع جديد من الأدب العالمي: من الآن
فصاعداً، سوف يكون الجمع بين السرد التاريخي الكبير والدعوة الملحة إلى العمل التي
ميزت البيان الشيوعي السمتين المميزتين للعديد من البيانات القادمة.
منذ غوته وماركس
وانجلز، يرفض الأدب العالمي القومية والاستعمار لصالح مجتمع عالمي أكثر
عدلاً. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دافع الناقد الايرلندي المولد هتشيسون
ماكولاي بوسيت عن الأدب العالمي. طوّر بوسيت أفكاره للأدب العالمي في
نيوزيلندا. وفي اوروپا، أسس المجري هوغو مِلتسِل مجلة مكرسة لما وصفه بـ ‹
المثالية › للأدب العالمي.
وفي الهند، دافع روبندرونات طاغور عن نفس النموذج المثالي للأدب العالمي.
تكريماً لرامايانا ومهابهاراتا، الملحمتين الهنديتين العظيمتين، حث طاغور القراء
على التفكير في الأدب ككائن حي واحد، كله مترابط لكن بلا مركز. بعد أن عاش طاغور
تحت الإستعمار الأوروبي، رأى في الادب العالمي توبيخاً للإستعمار. ولكنه أيضاً
رأى في ذلك توبيخاً لأولئك الذين يأملون ألا يعتزوا إلا بالتقاليد الثقافية في
جنوب آسيا كبديل. ومثله كمثل جوته، رفض كلاً من الاستعمار والقومية، مصراً
على إقامة عالم دولي مترابط ومبني على شروط أكثر عدلاً.
كان من المفترض أن يلعب
الأدب العالمي دوراً مهماً في نظر طاغور. وفي سنة ١٩١٣، أصبح أول كاتب غير غربي ينال جائزة نوبل
في الآداب.
ولكن نجاحه
أظهر أيضاً مدى السهولة التي يمكن بها أن ينجذب الأدب العالمي إلى القومية، خصمه
القديم. فعلى الرغم من مُثله السياسية، تبنت الهند في عام 1950 وبنغلاديش في عام
1971 قصائد طاغور لنشيدهما الوطني.
وعلى الرغم من المفارقة
العجيبة، إلا أن الاستحواذ القومي على طاغور كان له صدى كبير في آلية
أساسية من الأدب العالمي: الترجمة. اختارت الهند 'جانا غانا مانا' (1905)، وهي
قصيدة كانت قد ألفها في الأصل باللغة البنغالية، ثم ترجمت بعد ذلك إلى اللغة
الهندية، رغم أنها احتوت عمداً على أسماء مفهومة في العديد من اللغات الهندية.
وبعد التقسيم من باكستان، استخدمت بنغلاديش الأسطر العشرة الأولى من أغنية 'عمّار
سونار بنغلا'، التي كتبها أثناء تقسيم البنغال الأول في عام 1905. (طاغور أيضاً ألهم النشيد الوطني
لسريلانكا). وفي نفس الوقت تقريباً، جندت الدولة القومية الألمانية المشَكّلة حديثاً غوته
كشاعر وطني. من الواضح أن معركة كانت جارية من أجل ذلك. ورغم أن القوميين
تمكنوا من الاستحواذ علي الأدب العالمي، إلا أن نجاحهم عزز فقط التزامات المدافعين عن
الأدب العالمي.
وفي غضون ذلك، ازدهر الأدب
العالمي على هامش الدول والإمبراطوريات. وفي عام 1939، أعلن الشاعر اليديشي ميليك رافيتش أن هناك وجود لغة
يديشية -لغة يهود أوروبا القديمة- شعرية منتشرة بين وارسو ونيويورك وموسكو. وأشاد
بهذا التطور باعتباره مثالاً أعلى للتطلع إلى واقع قائم على السوق. وأعرب أيضا عن
أسفه لأن سوق المؤلفات اليديشية متقلبة ومتخلفة. (استغرق حصول كاتب يهودي على
جائزة نوبل في الآداب حتى عام 1978، وهو إسحاق باشيفيس سينجر(.
كانت القومية والفاشية
التي ازدهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين متناقضة تماماً من حيث المبدأ
مع فكرة ومُثُل الأدب العالمي. وفي الوقت نفسه، كانت تدفقات الهجرة الكبيرة التي
حفزتها الفاشية الأوروبية والحروب نعمة للأدب العالمي. ولعل أفضل تمثيل لهذه
المفارقة كان اثنين من العلماء اللغويين الألمان، ليو سبيتزر وإريك
آورباخ.
وقد أُجبر
كلاهما على الفرار من ألمانيا بسبب نسبهما اليهودي ؛ و كتب كلاهما مقالات في
اسطنبول، حيث عبّرا عن أفكارهما حول الأدب العالمي. ورغم ان سبيتزر تدرب
على الأدب الغربي، فقد تعلَّم اللغة التركية، في حين تمسك أورباخ بما يعرفه.
عمل أورباخ الرئيسي
، محاكاة: تمثيل الواقع في الأدب الغربي (1946)
، هي رواية كبيرة، تتراوح من هوميروس إلى فرجينيا وولف ،
بتقديم من شعر أندرو مارفيل: " لو كُنّا نملكُ ما يكفي .. من عوالمَ وأزمانٍ." أما ما افتقده آورباخ أكثر من ذلك، على الأقل حسب روايته الخاصة ، فهو
مكتبة جيدة، ومن هنا كان إغفاله للنقاشات العلمية والمؤلفات الثانوية )لو كان قد
تعلّم اللغة التركية، لكان في حوزته مجموعة مختارة من الكتب أفضل بكثير(كتب أورباخ
المحاكاة للناجين من الحرب العالمية الثانية آملاً في "جمع الذين حافظوا
على حبهم لتاريخنا الغربي". بالنسبة لـ )آورباخ(،
الأدب العالمي سيساعد في تجميع نسيج الحضارة الغربية الممزق
والهجرة إلى الولايات
المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها- بما في ذلك الهجرة التي قام بها آورباخ
وسبتزر- جعلت من الولايات المتحدة مكاناً مضيافاً للأدب العالمي،
ولكنها جلبت تحديات أيضاً. ومع اكتساب الولايات المتحدة للبروز الثقافي في عالم ما
بعد الحرب، تحولت إلى مُصَدِّر صافٍ قوي لثقافتها. ويستمر هذا الاتجاه حتى يومنا
هذا، حيث لا تتجاوز نسبة الكتب المنشورة في الولايات المتحدة مترجمة من لغات
أجنبية %3.
تعاني
الولايات المتحدة، مثلها في ذلك كمثل باريس في القرن التاسع عشر، من نوع خاص من
الإقليمية ، إقليمية العاصمة (الميتروبولية).
ففي عام 2008، اشتكى هوراس
إنجدال، الأمين الدائم للأكاديمية السويدية، التي تمنح جائزة نوبل:
"الولايات المتحدة معزولة للغاية ومنعزلة للغاية. فهم لا يترجمون ما يكفي ولا
يشاركون حقاً في الحوار الكبير للأدب. هذا الجهل مقيد" ولكن إنجدال صرح بنصف الحقيقة فقط (كان عليه أن يتنحى
عن منصبه تبعاً لذلك). وعلى الرغم من النسبة المئوية الضئيلة من الأعمال المترجمة في الولايات
المتحدة، إلا أن الحجم الإجمالي للسوق جعلها حقاً مكاناً مهماً للأدب الأجنبي، حيث
تعمل المطابع الأصغر على سد الفراغ الذي خلفه الناشرون الأكبر حجماً والأكثر
تردداً. كانت مجلة الأدب العالمي اليوم تناصر هذه القضية
لعقود من الزمان. وتساهم في هذا الجهد مشاريع جديدة على شبكة الإنترنت، مثل
"كلمات بلا حدود".
تُعَد إلينا فيرانتي مثالاً
حديثاً لكاتب/ة نجح/ت في مسقط رأسها إيطاليا، ولكنه تحول إلى ظاهرة عالمية فقط
عندما حظي عمله بقدر عظيم من الإشادة والمبيعات المبهرة في الولايات المتحدة. حتى
أن استقبال فيرانتي في الولايات المتحدة أحدث موجة ثانية أكبر كثيراً من
الاهتمام بإيطاليا. لقد زود المهاجرون الأدبيون الولايات المتحدة بمصدر آخر من
الأدب العالمي.
ويكتب البعض،
مثل الكاتب النيجيري تشيماندا نغوزي اديشي، بالإنكليزية. وهناك آخرون، مثل الروائي
التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل، يواصلون الكتابة بلغتهم
الأصلية في حين يستخدمون موقعهم في الولايات المتحدة لتعزيز مكانتهم ككُتاب
للعالم. ويجسد الكاتب الصيني المولد ها جين مجموعة ثالثة من الكتاب الذين
يجعلون من الولايات المتحدة مقراً لهم ثم ينتقلون إلى الكتابة باللغة الإنجليزية.
وعلى هذا فقد ظل الأدب العالمي كما كان عليه منذ جوته، سواء كان ذلك طموحاً
أو واقعاً قائماً على السوق.
ففي الولايات المتحدة،
استقر الأدب العالمي في كليات وجامعات ما بعد الحرب المزدهرة. وهناك، فالتوسع في التعليم العالي ساعد الأدب العالمي على إيجاد مأوى
في دورات التعليم العام. واستجابة لهذه السوق المتنامية، ظهرت فكرة مختارات من الأدب العالمي. واحتلت بعض
الروايات المفضلة لدى غوته، مثل المسرحية السنسكريتية شكونتالا، والشاعر الفارسي
حافظ الشيرازي، والروايات الصينية، مكان الصدارة. من الخمسينيات إلى التسعينيات،
توسعت دورات الأدب العالمية بشكل كبير، كما توسعت مجموعة المؤلفات التي تدرّس فيها
بشكل روتيني. أما الآن فمختارات أدبية عالمية بدأت كمجلدات منفردة، وصلت الى ٠٠٠, ٦
صفحة تقريباً. و مجلدات نورتون الستة من الأدب العالمي (الطبعة الثالثة، 2012)،
التي أعمل كمحرر عام لها، هي أحد الأمثلة العديدة.
واستجابة لنمو الأدب
العالمي على مدى السنوات العشرين الماضية، نشأ مجال متنامي من بحوث الأدب العالمي،
بما في ذلك المراجع ومرافقوها، و المنح الدراسية المستمرة لدراسة الأدب العالمي، بدءاً من غوته
وماركس وإنغلز وحتى طاغور وآورباخ وما بعدها.
ويقضي معهد الأدب العالمي بجامعة هارفارد، الذي يرأسه العالِم ديفيد دامروش،
صيفين من كل ثلاثة فصول في أماكن متفرقة. وهو يضم أكثر من 150 عضوا منتسباً من جميع
أنحاء العالم. ويبحث طلاب الدراسات العليا الذين أتخرج معهم مواضيع مثل كيف يقتحم
المؤلفون الصينيون المعاصرون الأدب العالمي )يانبينغ زانغ) ؛ المسابقات
الأدبية والفنية التي كانت جزءاً من الألعاب الأولمبية حتى 1950 )مايلز أوزغود( ؛ ولماذا تأسس معهد
أسبن بالإشادة بفكرة غوته عن الأدب العالمي )جانيت زونج). يدرس الباحثون في الأدب العالمي تداول
واستقبال نصوص محددة ، وكذلك إنتاجها ، في الاتجاهات والأنماط، من صعود وهبوط أنواع
معينة إلى تأثير تقنيات الكتابة، وكذلك الممارسات التفسيرية التي تشكل جوهر
الدراسات الأدبية.
كان عالم ستانفورد فرانكو
موريتي رائداً في ابتكار أساليب كمية جديدة لدراسة أعداد كبيرة من النصوص
المتاحة، لأول مرة، في قواعد البيانات على شبكة الإنترنت. لا يزال هذا النوع من
التحليل الكمي في الأدب في مهده، ولكن من الواضح أنه مهم: فقد تُغّير النهج الكمية
دراسة الأدب بنفس العمق الذي تغير فيه التحول الكمي في العلوم الاجتماعية علم
الاجتماع قبل مائة عام.
يمكن فهم دراسة الأدب
العالمي على أنها مجموعة فرعية من تاريخ العالم. إن تاريخ العالم هو ميدان أكثر
رسوخاً من الأدب العالمي، وأكثر خبرة في تجميع أعداد كبيرة من دراسات الحالات
الوطنية أو الإقليمية. وتمتعت أيضًا بنجاح شعبي مدهش في المبيعات مثل ثلاثية
الأغذية البحرية لـ مارك كورلانسكي : القد: سيرة لأسماك غيرت العالم (1998) والمحار الكبير: تاريخ نصف الصدفة (2006)،و
أشهرهم الملح: تاريخ العالم (2002). لم تقدم منحة
الأدب العالمية حتى الآن مثل هذه الثلاثية الشعبية.
ولها خصومها. بعض عمداء
الجامعات لم يشعروا بالإعجاب، وحاولوا إغلاق برامج منح الأدب العالمي، واستبدالها
بمتطلبات توزيع أسهل. لقد سمعت طلاب يشتكون من أنهم لا يريدون قراءة الروايات
الصينية لأن هذه الروايات من المرجح أن تكون غريبة، مرددة قول إيكرمان سكرتير
جوته قبل مائتي عام. وينتمي بعض معارضي الأدب العالمي إلى صفوف علماء
الأدب. وتشكل جودة الترجمات أحد أسباب الانتقاد وليس بدون سبب. على سبيل المثال،
كانت الترجمة الإنجليزية لإحدى الروايات الصينية التي قرأها جوته عامرة بالأخطاء.
حتى العنوان كان خاطئاً. وقد عبّر اورباخ نفسه عن مخاوفه من تدريس الأدب دون معرفة لغاته الأصلية،
وكرر آخرون هذه المخاوف.
مع ازدهار دراسة الأدب
العالمي في السنوات العشرين الماضية، سعى النقاد إلى تبني مجموعة أوسع وأوسع من
الحجج. فالبعض، استنادا إلى نظرية ما بعد الحداثة، رفضوا الأدب العالمي باعتباره
محاولة خبيثة أخرى لسرد 'رواية كبرى'. وقد تطورت الاسئلة المتعلقة بجودة الترجمات
الى معارضة للترجمة في حد ذاتها. وتماشياً مع مثل إيطالي قديم traduttore traditore (المترجمون خونة)، فإن بعض هذه الحجج كانت أقرب إلى المثل القديمة حول نقاء اللغات الفردية أو خصوصية
الأعمال الأدبية: فكان الافتراض الضمني أنه إذا لم تكن متحدثاً أصلياً، أو لم تكن
على نفس القدر من جودة متحدث أصلي، فمن الأفضل أن تتمسك بلغتك.
غير أن مجموعة ثالثة من
النقاد اعترضوا على فكرة أن سوقاً جعلت الأدب العالمي ممكناً. اتهم عالم الأدب
المقارن جياتري سبيفاك في جامعة كولومبيا الولايات المتحدة بمحاولة السيطرة
على العالم من خلال تصدير مختارات أدبية عالمية. فبدلاً من أن يعمل الأدب العالمي
كترياق ضد الاستعمار، كما تصور غوته و طاغور، وجد نفسه متهماً بأنه
شكل من أشكال الإمبريالية الثقافية. والمشكلة في تلك الحجة هي أن العكس هو الواقع.
لم تكن مختارات الأدب العالمية المنشورة في الولايات المتحدة موجهة للتصدير على الإطلاق،
وبالتالي فإن الناشرين لم يكتسبوا حقوقاً خارجية لأنه لم يكن هناك سوق لمختارات
الأدب العالمي خارج الولايات المتحدة. كان الأدب العالمي محاولة لاستيراد أدب
أجنبي إلى الولايات المتحدة، باستخدام السوق لتغيير العادات المتأصلة في القراءة.
تسعى مختارات الأدب العالمي إلى مكافحة النزعة المعادية للمهاجرين، فضلاً عن
الهيمنة، في العديد من البلدان الغربية، على الأدب الآتي من المستعمرات الأوروبية
السابقة، وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا.
ففي عام 1922، كان تشنغ
تشيندو ، وهو المدافع الصيني عن الأدب العالمي، قد اعترف بجذور بعض هذه الاعتراضات
العلمية. واشتكى من أن دراسة الأدب تم تنظيمها وفقًا للدول القومية في أقسام الأدب
الوطنية، وبالتالي تتعارض هيكلياً مع الأدب العالمي. وبعد ما يقرب من مائة عام،
تسود نفس المنظمة، وهو ما يعني أن الأدب العالمي يجري تدريسه حول حواف أقسام الأدب
الوطنية. وهذا يتغير ببطء: فقد غيرت جامعة بوسطن للتو اسم قسم الأدب المقارن، فغيرت اسمه إلى قسم اللغات
والآداب العالمية.
واليوم، مع تصاعد المشاعر
المعادية للمهاجرين و النزعة القومية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم،
تحول الأدب العالمي مرة أخرى إلى مسعى سياسي مُلح. وهو قبل كل شيء يمثل رفضاً للقوميين والاستعمار لصالح نظام أكثر إنسانية وعالمية، كما تصور غوته وطاغور. يرحب الأدب العالمي
بالعولمة، ولكن بدون التجانس، يحتفل، مع رافيتش، بأدب الشتات الصغير مثل الييديش،
كموارد ثقافية قيمة تثابر على مواجهة الملاحقة القضائية والهجرة القسرية.
لا أحد ينكر أن الأدب
العالمي هو سوق، سوق يمكن أن يلتقي فيه الأدب المحلي والوطني ويغير فيه أحدهما
الآخر. وتعتمد المؤلفات العالمية في المقام الأول على التوزيع. وهذا يعني أنه لا
يتوافق مع الجهود الرامية إلى تجميد أو تقنين الكتابات وتحويلها إلى مجموعة من
قوانين المراكز الحضرية، أو الدول القومية، أو النصوص الأصلية التي لا يمكن
ترجمتها. لا شك أن السوق العالمية للأدب غير متساو وليس عادلاً في كل الأحوال.
ولكن حل هذه المشكلة لا يكمن في الحد من التوزيع، أو الحد من الترجمة، أو الحد من
الأدب العالمي. والحل هو وجود ثقافة ترجمة أكثر حيوية، ومزيد من الترجمات إلى
المزيد من اللغات، ومزيد من تعليم الأدب العالمي.
إن التداول الحر للأدب هو
أفضل سلاح ضد القومية والاستعمار، قديماً كان أم جديداً، لأن الأدب، حتى في
الترجمة، يتيح لنا الوصول الفريد إلى مختلف الثقافات وعقول الآخرين. ولا يمكن لأي
شيء فعله البشر على الإطلاق، في جميع الفنون أو العلوم، أن ينقل ويثري خيالنا،
وفهمنا للبشر الآخرين وحياتهم وتعاطفنا معهم، مثلما يفعل الأدب. هذا يعني أيضاً أن
الأدب العالمي ليس سهلاً دائماً. نحن جميعاً "إيكرمان"، نشأنا بتقاليد محدودة لكن المحاولة هي كل
شيء.
بدأ الأدب العالمي كشيء
مثالي أو طموح. وصرَّح ڠوته على مضض قائلا أن " عصر الادب العالمي بات
في متناول اليد، وعلى الجميع أن يساهموا في تعجيله ". ولكن بعد قرنين
تقريباً، لا يزال ذلك صحيحاً. الأدب العالمي ليس حتمياً أو أوتوماتيكياً فقد عارض
المستعمرون والقوميون وأعداء السوق ودعاة الرقابة تداول المؤلفات، وما زالوا
يعارضونها. وهذا يعني أن الأدب العالمي يشكل إنجازاً قد يضيع من دون دعم نشط.
فلسنا مضطرين إلى قبول كل حالة أو شكل من أشكال حرية السوق والنمو، ولكن الأدب
العالمي يشكل سوقاً لابد وأن تستمر ــ ويتعين على الجميع أن يساهموا في التعجيل
بنموها.
مقال لـ مارتن بوشر
حاصل على كرسي بايرون وأنيتا وين في الدراما واللغة الإنجليزية والأدب المقارن في
جامعة هارفارد. كمحرر عام لـ Norton Anthology of World Literature ، فقد جلب 4000 سنة من الأدب للطلاب في جميع
أنحاء العالم.
كتابه الأخير
هو العالم المكتوب: قوة القصص لتشكيل الناس
والتاريخ والحضارة )راندوم هاوس ، 2017(
إرسال تعليق