المحتويات [إظهار]
لماذا القلق هو بطبيعته محاولة ذاتية من النفس للشفاء.
عندما نشر كارل يونغ كتابه "سيكولوجية اللاوعي"
في عام 1912 عرف أن صداقته مع
سيغموند فرويد ستكلفه الكثير. وبالنسبة ليونغ فإن هذا الكتاب يرقى إلى إعلان نظري
للاستقلال عن الرجل الذي كان له أعظم تأثير فكري خلال سنوات تكوينه. وكان فرويد،
الذي تصور ذات يوم أن يونغ "ابنه البكر بالتبني، ولي العهد
وخليفته"، غاضباً جداً من الكتاب لدرجة أنه اقترح أنه ينبغي "التخلي
تماماً عن علاقاتنا الشخصية معاً"، وأن يونغ ينبغي أن يأخذ "حريته
الكاملة". وهذا الاختلاف بين يونغ وفرويد لن يزداد إلا في السنوات اللاحقة مع
تركيز يونغ بشكل متزايد على نظريته عن اللاوعي الجمعي، التي يعتقد أنها أهم في
تنمية الشخصية من الحياة الجنسية. وبعد أن دخل المنشق يونغ فترة طويلة من العزلة
عانى فيها من "مواجهة فظيعة مع اللاوعي"، مما ألهمه استكشاف المواضيع
الفلسفية والروحية. ولهذا السبب اعتبره كثيرون متصوِّفاً، مع أنه فضَّل دائماً ان
يُعرف بأنه رجل علم.
أحد الخلافات المركزية التي كانت بين (يونغ)
و (فرويد) كانت حول كيفية علاج الاضطراب العصبي. يونغ، ربما بشكل مثير للجدل، لم
يكن مقتنعاً بأن يعيش من جديد ويتأمل في صدمات الطفولة والنزاعات الأسرية القديمة؛
فقد تصور أن التأمل بالماضي لابد وأن ينحرف عن القضية الحقيقية، لأن
"الشفاء" من اضطراب عصبي ليس في أيامنا الماضية فقط. عندما ننظر إلى
الوراء نتراجع إلى الوراء وهكذا نربط أنفسنا بروابط طفولية قديمة والتي تبقينا
محبوسين في نفس المكان القاسي وطبقاً لتصوير يونغ فإن فرويد يولي أهمية كبيرة
لمنشأ ونموّ الاضطرابات العصبية، وبالتالي فقد وقع في نفس الفخ الذي وقع فيه الشخص
العصبي: فالتخيل بما حدث من أخطاء في الطفولة يتجنب مسؤولية تنفيذ علاج عملي هنا
والآن. لم ينكر يونغ تأثير صدمة طفولتنا على تطورنا النفسي، ولكنه قال إننا
كبالغين نعاني من صراعات مختلفة عن معاناتنا كأطفال، ولذلك فإن تنشئتنا لم تعد
قادرة على إيجاد حل لمعاناتنا الحالية.
كان يونغ ينظر إلى القلق، وخاصة القلق
الاجتماعي، باعتباره محاولة إيجابية من جانب النفس للشفاء الذاتي، لأنه إشارة إلى
أن أحد جوانب شخصية المرء يريد أن ينمو وينضج. فشخصيتنا لا تنمو تماماً بالكامل،
بل تنمو جزئياً لبعض السمات غير الناضجة أكثر من غيرها. ولكن عندما تكون هذه
السمات غير الناضجة جاهزة للتغيير عندها سنشعر بالألم المرتبط بالنمو؛ لأنه لا
يمكن أن تنمو الشخصية بدون أن ندفع الثمن بنفس القدر من النضال. لذلك لا ينبغي أن
نحاول التخلص من الهموم بتجنب المخاطرة أو تناول الحبوب. بل إن يونج كان يعتقد أن القلق
يشتمل على درس، وهو الغرض الذي لا يمكن العثور عليه في مكان آخر، والذي يحمل في
طياته الفرصة للتعرف على أنفسنا وإمكاناتنا. فدورنا الوحيد إذا هو أن ننسحب إلى
العالم الداخلي ونكتشف ما يزعجنا. وكما كتب جونغ،
أن يصادف المريض انفصاماً عصبياً هو أنه جزء غريب من شخصيته غير معترف به، يسعى إلى إجباره على الاعتراف به بنفس الطريقة التي يصر بها أي جزء آخر من جسده، وإذا أنكره المرء بعند، فإن هذا الجزء يصر على وجوده.
كارل يونغ، الحضارة في مرحلة الانتقال،
الصفحة 170.
ومع ذلك، إذا فضلنا أن نتجاهل أعراضنا ونبقى
متخلفين في أحضان أمهاتنا، فإن الطاقة التي تريد أن تعبر عن نفسها ستنمو ضدنا،
وستعكس في الواقع شخصيتنا إلى حالة أقل تطوراً. ويقودنا هذا إلى ما أسماه يونغ 'PUer Aeterus'، وهي كلمة لاتينية تعني 'الطفل الأبدي'، وهو تعبير عن حالة رجل
مسن يرفض أن يكبر ويتصدى لتحديات الحياة، منتظراً بدلاً من ذلك شيئاً ما لإنقاذه
وحل جميع مشاكله. يونغ يقول إن لدينا الخيار بين النمو والتراجع؛ مهما كثرت رغبتنا
في البقاء حيث نحن في نفس المكان: فإما أن نؤكد الحياة أو ننكرها ونعاني بشدة بسبب
جبننا. وكما تكتب عالمة النفس جونجيان ماري -لويز فون فرانز،
الاحتمال الداخلي للنمو في شخص ما هو شيء خطير لأنه إما أن تقول نعم له وتمضي قدماً، أو تقول لا و يقتلك. لا يوجد خيار آخر إنه القدر الذي يجب أن نتقبله
مشكلة (الطفل الأبدي)، (ماري لويز فون فرانز)
هذه المعاناة والقلق تصاحب النمو حقيقة
اعترف بها كازيميرز دابروسكي في نظريته "التفسخ الإيجابي". ولاحظ أن
أكثر الأفراد موهبة وإبداعاً هم الذين يعانون في كثير من الأحيان من الصراعات
الداخلية، ويشير إلى أن هؤلاء الأشخاص "غير متكيفين تكيفاً إيجابياً"،
أي أنهم يتمتعون بحساسية مفرطة ووعي أكبر من المعيار المجتمعي ويعانون الألم
بطريقة أقوى وبتجربة أكثر شخصية نتيجة لذلك. وعلاوة على ذلك، فإن لديهم إمكانات
أكبر، وهو ما يعذبهم عندما لا يشعرون بأنهم يحققون معاييرهم السامية. كما كتب
دابروسكي،
وفقا لنظريتنا يصبح النمو النفسي المعجل مستحيلاً في الواقع بدون الانتقال من خلال عمليات عصبية وعصبية نفسية، وبدون صراعات خارجية وداخلية، وبدون عدم التكيف مع الظروف الفعلية من أجل تحقيق التكيف مع مستوى أعلى من القيم، وبدون صراعات مع حقائق ذات مستوى أدنى نتيجة للاختيار التلقائي أو المتعمد لتعزيز الرابطة مع واقع ذو مستوى أعلى.
كازيميرز دابروسكي ، التخسيس النفسي ليس مرضاً،
الصفحة 220
وعلى هذا فإن علم النفس، بما في ذلك القلق،
يُعَد تعبيراً عن غريزة التحول في الشخصية، ويزعم دابروسكي أن المرء يجد العلاج من
خلال الوصول إلى مستوى من الشخصية أعلى من المستوى الذي كان عليه في السابق.
المرحلة الأولى من أي تحول هي الدخول إلى بطن الحوت، إلى الغابة المظلمة، حيث يمكن
للمرء أن ينظر إلى نفسه من الخارج ويؤكد بوعي أو ينفي السمات والقيم التي لم تعد تخدمه؛
فهو منهار ويخضع لعملية "التفسخ الإيجابي" ــ وهي العملية التي بموجبها تتفكك
الهياكل النفسية الأكثر بساطة وأقل نضجاً والتي تؤلف الشخصية من أجل نشوء هياكل
أكثر تعقيداً وتقدماً.
ولتحقيق هذا التحول في الوعي ينصح كارل يونغ
بأن نكشف أنفسنا تدريجياً لما نخشاه. فعندما ينتابنا القلق يكون ذلك عادة لأننا
اخترعنا حاجزا اصطناعياً بيننا وبين النتيجة المرجوة؛ إن الحاجز ليس حقيقياً، إنه
مزيف، وهو وهم، ولكنه يملك قوة لأنه يجعلنا مترددين ونخمن أنفسنا مرة أخرى. ومن
هذه اللحظة ينخرط العقل في حرب ثابتة ميؤوس منها، تحرف وتتقلب بين الاحتمالات التي
لا نهاية لها وفي الأخطار المحتملة؛ ولكن في نهاية المطاف لا نزال واقفين في مكاننا
وغير قادرين على الاضطلاع بأي نشاط جديد. وعلى سبيل المثال، فأنا أعرف رجالاً وأصدقاء
لي -وكنت كذلك في السابق، ولكنني تغلبت على ذلك في معظم الأحيان -يخافون من الاقتراب من النساء، ولذلك لن يحاولن أبدا القيام بذلك. والنتيجة هي أن تفاعلاتهن مع النساء ضئيلة وعلاقاتهن قليلة أو ذات طابع مهني
بحت. هؤلاء الرجال يتراجعون عن حقهم في الحياة ليس بسبب أي شيء حقيقي أو خطير أو
لا يطاق؛ ولكن لأنهم وضعوا في أذهانهم أن الرفض من المرأة هو رفض لقيمته كرجل. لذا
يبقون حيث هم في خوف. يتخيلون ويحلمون بالسيناريوهات لكن لا يختبرون أي شيء حقيقي،
عندئذ تصبح الحياة غير راسخة، لا متجذرة في الواقع. وكما كتب يونغ،
نور الحياة لا يعفينا من قانون الشيخوخة والموت. فالشخص الذي يحاول التملص من ضرورة العيش لا يكسب شيئاً، بل يثقل كاهله بآفة مستمرة من الشيخوخة والموت، الأمر الذي لا بد أنه يبدو قاسٍ جدا بسبب فراغ حياته التام وعدم وجود معنى لها.
)
كارل يونغ) ، رمز التحول، الصفحة 617
فكلما طالت المدة في هذه الحالة من عدم
النضج، كلما تقهقر الوضع النفسي، الذي يبدو في الحياة العادية وكأنه انحدار إلى
الملل واللامبالاة. وفي نهاية المطاف، لا بد من إجراء تصحيح، أي التحول إلى المسار
المستقيم والضيق؛ في النهاية على المرء أن يقفز عبر الحدود ويدخل المجهول لأن هناك
نقطة تحول عندما تصبح المطاردة اليائسة لا تطاق وتصبح الشجاعة الخيار الوحيد. وفي
هذه اللحظة تتعلم أن الشيء الذي كنت تخشاه لم يكن يستحق الخوف؛ فالنساء، على سبيل
المثال، لسن آلهة أو ملائكة لا يمكن المساس بها، بل هن كائنات عادية عطوفة
ومحبوبة. فالقلق إذن هو الدعوة إلى الحرية، وكلما تعرض المرء للمزيد من الخوف كلما
اكتسب المزيد من الحرية.
إرسال تعليق