المحتويات [إظهار]
في أواخر القرن الـ ١٩ في السويد، كان المال يشتري الأصوات فعلياً. ففي كتابه الجديد "رأس المال والإيديولوجيا"، كتب رجل الاقتصاد الفرنسي طوما بيكيتي أن البلاد "تبنَّت نظاماً جريئاً للتمثيل النسبي استناداً إلى حجم الأملاك التي يمتلكها كل ناخب (أو مبلغ الضرائب المدفوع). كانت صيغة التصويت معقدة وكانت لها بعض الحدود في المدن، ولكن مع ذلك "في الانتخابات البلدية التي جرت في عام 1871، كان هناك 54 بلدة ريفية في السويد حيث أدلى أحد الناخبين بأكثر من 50% من الأصوات". وكان من الطبيعي أن يتفاوت الاقتصاد الناتج عن هذا النظام تفاوتاً رهيباً ــ ففي عام 1910 كان العشر في المجتمع السويدي يمتلك ما يقرب من 90% من ثروة البلاد، وكان أغني 1% من المجتمع يمتلك 60%.
ولكن من الواضح أن هذا النظام السياسي كان
غير عادل وغير محبوب ــ كان هذا النام جزءاً من أحد الأسباب التي دفعت مئات الآلاف
من السويديين إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة أثناء هذه الفترة ــ واحتشد الشعب
السويدي ضده. فقد طالبت حركة جماهرية منظمة بالإصلاح والاقتراع العام، وعندما تحقق
ذلك بالكامل بحلول عام 1921 (بعد عدة جولات من الإصلاحات)، وصل الحزب الديمقراطي
الاجتماعي السويدي إلى السلطة بقوة التأييد الكاسح من العمال والمزارعين الذين
كانوا محرومين إلى حد كبير من المشاركة في النظام السياسي السابق. فقد كان الحزب
الديمقراطي الاجتماعي يخدم ناخبيهم بفرض ضرائب شديدة على الأثرياء، فضلاً عن فرض
تدابير حماية جديدة على النقابات، وإنشاء دولة الرفاهية المتطورة ـ التي لم يتدخل
أي منها في النمو الاقتصادي المستمر. وقد فازوا بكل الانتخابات اللاحقة حتى عام
2006.
إن قصة تحول السويد من حكم القِلة الديمقراطية
الزائفة إلى واحدة من أبرز الديمقراطيات الاجتماعية في العالم، تكمن في قلب كتاب
بيكيتي الجديد الضخم، والذي يصل عدد صفحاته إلى 1041 صفحة. وهو كتاب مختلف تمام
الاختلاف عن كتابه السابق "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"
2013، وما أدهشني بعض الشيء أن
كتابه لا يدور حقاً حول الاقتصاد في حد ذاته على الإطلاق. إن رأس المال
والإيديولوجيا من عمل الاقتصاد السياسي بمعناه الأوسع ـ وهو جهد طموح إلى حد مذهل
يسعى إلى تجميع قرون من التاريخ، والاقتصاد، والسياسة في صورة واحدة عظيمة.
إنه ليس مثالياً. ولعل هذا أطول مما ينبغي
وأكثر استطرادا، والواقع أن مفهوم بيكيتي للإيديولوجيا ليس مبتكراً أو ناجحاً كما
يتصور. فهو يصارع أحياناً في تنظيم مجموعته العملاقة من الحجج والأدلة. وعبارات
مثل "سأعود إلى هذا" تظهر عشرات المرات. ولكن بيكيتي جمع مرة أخرى
مجموعة هائلة من البيانات ونشرها بحرية على شبكة الإنترنت، والتي يستطيع كُتاب
وباحثون آخرون أن يستفيدوا منها. وعموماً، فإن رأس المال والإيديولوجيا دراسة
أساسية مذهلة من حيث أتينا مع مسارين محتملين إلى الأمام: كيف يمكننا أن نخلق
مستقبلاً أفضل لكل المجتمع البشري، والاحتمالات المظلمة إذا فشلنا.
***
قبل سبع سنوات، أصبح (بيكيتي)
أقرب ما يكون لنجم الروك. فقد أصبح كتابه "رأس المال في القرن الحادي
والعشرين" ـ الذي يصل إلى 653
صفحة من أكثر الكتب طلباً من
الأكاديميين المهتمين بذلك الموضوع، يحتوي على محيطات من البيانات الأصلية ونظرية
مذهلة حول الكيفية التي تعمل بها الرأسمالية ـ العمل الأكثر مبيعاً في تاريخ مطبعة جامعة هارفارد. ولقد ناقش خبراء الاقتصاد في مختلف
أنحاء العالم، سواء من اليسار أو اليمين، هذا الأمر بالتفصيل الدقيق. وهذا الكتاب،
كما يوحي اسمه، يعود إلى كتاب "رأس المال" لكارل
ماركس. لقد جمع بيكيتي مجموعة ضخمة من
البيانات عن الثروة والدخل في العديد من البلدان على مدى قرن من الزمان، والتي
أظهرت ميلاً واضحاً للثروة إلى التركيز، وتفاقماً في التفاوت. وفي الظروف العادية،
يتجاوز معدل العائد على الثروة معدل نمو الاقتصاد، مما يجعل أغنى الأفراد يجمعون
المزيد والمزيد من الثروة والدخل الوطنيين. وفي غياب القوى الموازية مثل ضريبة
الثروة، فإن الاقتصادات الرأسمالية سوف تصبح في نهاية المطاف غير متساوية إلى حد
هائل ــ حيث تتمتع أقلية ضئيلة من أصحاب الثروة بدخل غير مكتسب يتجاوز أحلام الجشع،
ويعيش أغلب السكان في محاولة لجمع ما يكاد يملأ الفم.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذا المستقبل هو
عكس ما تنبأ به ماركس في كتاب رأس المال، المجلد الثالث، حيث قال إن معدل
الربح يميل إلى الانخفاض بمرور الوقت، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى
اندلاع أزمة ثورية. وكما كتب جون جوديس في صحيفة "The New Republic" فإن "نقطة النهاية الثورية لماركس ــ
حيث يتحول كل شيء إلى أزمة وثورة ــ هي عندما يقترب معدل الربح من الصفر. أما في
حالة بيكيتي تنمو [أرباح] رأس المال إلى الحد الذي يجعلها تمتص كل الدخل القومي".
وكانت المرة الوحيدة التي شهدت اضطرابات خطيرة
في عملية التراكم هذه في البلدان التي درسها بيكيتي هي الفترة بين عامي
1914 و1945 ــ عندما اضطرت القوى المتحاربة في الحربين العالميتين الأولى والثانية
إلى فرض أقصى قدر من الضرائب على مواطنيها، وكثيراً ما دمرت قدراً كبيراً من مخزونها
الرأسمالي أثناء القتال. ومن الكئيب أن نتخيل أن الوسيلة الأكثر وضوحاً للحد من
عدم المساواة بين الناس تتلخص في خوض حرب عالمية عملاقة.
بيد أن رأس المال والإيديولوجيا ليسا
تحليلاً اقتصادياً، ولكنه يتعلق في المقام الأول بالسياسة الإنسانية والقدرة على
العمل، وعلى هذا النحو يصبح أكثر تفاؤلاً إلى حد كبير. ورغم أن بيكيتي لا
يتنصل من عمله السابق، فإنه يؤكد مراراً وتكراراً على أهمية الطوارئ والاختيار في
الشئون الإنسانية. الواقع أن ديستوبيا عدم المساواة ليست عملية تلقائية ــ فهي
تتطلب بذل جهود متواصلة للحفاظ عليها، سواء من خلال السياسات القانونية، أو على نحو
حاسم، من خلال الاقتناع الإيديولوجي. ويكتب "عدم المساواة ليس اقتصادياً ولا تكنولوجياً؛
إنه إيديولوجي وسياسي
".
ومرة أخرى وعلى النقيض من ماركس، يصر
بيكيتي على أن الحجج والمعتقدات الإنسانية تشكل أهمية مركزية في التطور
التاريخي. فقد زعم ماركس أن الهياكل الاقتصادية كانت في نهاية المطاف
العامل الحاسم في تصوره المادي للتاريخ، حيث كانت الإيديولوجيا نتاجاً ثانوياً
لكيفية تنظيم الاقتصاد. ويكتب بيكيتي أن الإيديولوجيا في حد ذاتها يمكن أن
تصبح، وفي كثير من الأحيان، العامل الحاسم في التاريخ: "أنا أصر على أن مجال
الأفكار، المجال السياسي الإيديولوجي، هو عالم مستقل حقا".
يبدأ بيكيتي تحقيقه التاريخي بما
أسماه "المجتمعات الثلاثية"، وهو اللقب الذي أطلقه لوصف الدول الإقطاعية
ما قبل الحداثة التي تتمتع بنظام ثلاثي الوظائف من ثلاث طبقات: الفلاحين،
والنبلاء، ورجال الدين. وتوفر هذه الرؤية فرصة للاطلاع على رؤيته لكيفية تشكيل
المجتمعات وإدامتها لأنفسها. كانت كل المجتمعات غير متساوية بدرجات متفاوتة، وكل
المجتمعات تحتاج إلى نوع من الإيديولوجيا الشرعية التي تبرر سبب وجود التفاوت. في
العصور الإقطاعية، كان ذلك عموماً نوعاً من الشهامة ــ فكرة أن الفلاحين يقومون
بالعمل، وأن النبلاء يحمون المجتمع، وأن رجال الدين يقدمون الإرشاد الديني والفكري.
يمكن للمرء أن يجادل ضد تأكيد بيكيتي على
الإيديولوجيا "المستقلة"
هنا، نظراً لحقيقة واضحة
مفادها أن الإيديولوجيا الشهيرة بالشهامة كانت موجهة لصالح أصحاب الأملاك
النبيلين. وحتى إذا سلمنا بأن الإيديولوجيات لها قوتها الخاصة، فمن المؤكد أن ماركس
كان محقاً في تلك الإيديولوجيات التي تنجح تتأثر تأثراً شديداً بمن يملك المال
والسلطة. (الواقع أن هذا في الأساس هو مفهوم "الهيمنة" كما طوره أنطونيو
غرامشي).
ولكن بيكيتي يشير إلى نقطة أكثر دقة
حول المجتمعات الثلاثية التي تقدم تصحيحاً لا جدال فيه لماركس. وعلى الرغم من أن هذه الهياكل كلها متشابهة، فإن تحقيقاته المفصلة تبين
وجود تنوع هائل بين مختلف البلدان الإقطاعية. على سبيل المثال،
كانت فرنسا في 1660 تحتوي على طبقات نبيلة ودينية كانت تبلغ ضعف نظيرتها في فرنسا
في 1780. وحيث كانت الطبقة النبيلة عموماً تمثل نصف حجم رجال الدين في أغلب
البلدان الإقطاعية، كانت هذه الطبقة في أسبانيا عام 1750 تبلغ ضعف حجمها تقريباً
ــ أو حوالي عشرة أمثال حجم النبلاء الفرنسيين في 1780
.

وعلى النقيض من فكرة ماركس وانجلز التي تؤكد أن "تاريخ كل المجتمعات القائمة حتى الآن هو تاريخ الصراعات الطبقية"، فإن بيكيتي يُظهِر أن الفوارق الشاسعة بين هياكل الدول الإقطاعية كان لها تأثيرات هائلة على تاريخ هذه المجتمعات. ففي فرنسا على سبيل المثال في القرن الثامن عشر، كانت الطبقة النبيلة صغيرة وكانت تتمتع بثروة وسلطة هائلين ــ ولكن في أسبانيا في ذات الوقت كانت ضخمة ولم يكن أغلب النبلاء أغنياء على الإطلاق. فكثيرون كانوا في الواقع مجرد مزارعين أو عمّال، اذ كانوا يلجئون إلى العمل كما يفعل الفلاحون.
على أية حال، ناضلت المجتمعات الثلاثية
للتكيف مع الظروف الاقتصادية المتغيرة مع ازدياد قوة الثورة الصناعية في اواخر
القرن الـ ١٨. كانت الدول الإقطاعية التي لم يكن لها مكان واضح للطبقة الرأسمالية
الصاعدة بمثابة قوة دفع كبرى وراء الثورة الفرنسية ــ ولكن كما يزعم بيكيتي،
لعبت الخصائص الغريبة التي كانت تتمتع بها فرنسا في ذلك الوقت أيضاً دوراً مهما. وكما لوحظ أعلاه، كانت الأرستقراطية الفرنسية صغيرة بشكل استثنائي، وبالتالي
كان الاقتصاد غير متكافئ على نحو استثنائي ــ وكان هذا الأمر يزداد سوءا على مدى
السنوات المائتين الماضية. يكتب بيكيتي: "إن
أي" تبرير لعدم المساواة بين الناس لابد وأن يتمتع بحد أدنى من المصداقية إذا
كان لهذا النظام أن يستمر ". وفي فرنسا في ذلك الوقت، "كان تفاقم عدم
المساواة سبباً في تفاقم عدم شعبية النبلاء والنظام السياسي".
فالطبقة الحاكمة غير الكفؤة -التي تكتسح كل
الثروات تقريباً في حين تتضور الجماهير جوعاً- تبدد شرعية النظام الحاكم، وعندما
دخل النظام القديم في أزمة ميزانية في ثمانينيات القرن الثامن عشر، تسبب السخط
المتزايد والاحتجاج الحاشد في تصدع بنيته السياسية في الثورة في عام 1789. فقد افتتحت
فرنسا الجمهورية النمط الثاني من النموذج الأصلي الوطني لبيكيتي ــ "مجتمع الملكية". إنه مجتمع لا يسيطر عليه النبلاء
ورجال الدين بل أصحاب الممتلكات، ويطلق بيكيتي على إيديولوجية مثل هذا
المجتمع وصف "الملكية" ــ فكرة مفادها أن حقوق الملكية مؤسسة شبه مقدسة
ولابد من الحفاظ عليها بأي ثمن. ولأن هذا النوع من المجتمع قد ينشأ نظرياً في أي
وقت من الأوقات، يزعم بيكيتي أن الرأسمالية شكل خاص من أشكال الملكية:
"أقترح أن ننظر إلى الرأسمالية باعتبارها الشكل الخاص الذي تبنته نزعة
الملكية في عصر الصناعة الثقيلة والاستثمار المالي الدولي، أي في النصف الثاني من
القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في المقام الأول".
والأمر اللافت للنظر في فرنسا في مرحلة ما
بعد الثورة هو أنه على الرغم من كل الأحاديث عن "الحرية والمساواة
والإخاء"، فقد انتهت إلى كونها أكثر تفاوتاً من النظام القديم. ففي حين امتلك
أغنى مائة مواطن فرنسي نحو 55% من الثروة الوطنية الفرنسية في عام 1780، امتلكوا
في عام 1910 نحو 67% من الثروة الوطنية الفرنسية. وهذا
لأن الثروة في الاقتصاد الذي تهيمن عليه الرأسمالية، كما أظهر بيكيتي في
عمله السابق، تتدفق بلا هوادة إلى الأكثر ثراءً. ولكن لأنه كان بوسعه أن يعمل بشكل
أفضل من النظام الملكي الفرنسي السابق، فقد ظل مستقراً ــ على الأقل لفترة من الوقت.
ولكن مرة أخرى، لم يكن هذا حتميا. فقد اضطر
الجمهوريون الفرنسيون إلى إعادة تأسيس نظام الملكية بالكامل، وفي وقت مبكر من
الثورة حاول بعض المتطرفين الراديكاليين التشكيك في الأساس الذي تقوم عليه حقوق
الملكية. فقد زعمت العناصر الأكثر ثراء وأكثر تحفظاً على الثورة أن أياً كان من
لديه ملكية من قبل فلابد وأن يحصل على حقوق جديدة طبقاً للطريقة العصرية في تلك
الملكية ـ أي أن تكون دائمة وقابلة للنقل لكي يفعل بها ما يشاء. ولكن هذا يتعارض
مع الأساس الفعلي لنظام الملكية القديم، الذي كان ينطوي على حقوق معقدة ومتداخلة ممنوحة
لأطراف مختلفة. وقد يكون لصاحب الأملاك - اللورد- الحق في الحصول على إيجار من
أملاكه وقد تكون أرض، ولكن قد يكون للفلاحين المحليين الحق في استغلال تلك الأرض
لمصلحتهم الخاصة، على سبيل المثال. وبعبارة أخرى، فإن نظم الملكية الإقطاعية، وإن كانت
تنحاز للأغنياء، فإنها لا تزال تنطوي على وظائف الرعاية الاجتماعية للفقراء.
فضلاً عن ذلك، فإن مصدر كل حقوق الملكية هذه
لم يكن أي نوع من العقود بين الفلاحين واللوردات، كما زعم المحافظون. يكتب بيكيتي: "شريطة أن يذهب المرء بعيداً بما فيه الكفاية، وربما
لعدة قرون في الماضي، فقد كان من الواضح للجميع أن العنف لعب دوراً في اكتساب أغلب
الحقوق في العالم المانورلاى السيادي،
والتي نبعت من الغزو والقنانة". وفي هذه الحالة، لماذا لا نفكر في الممتلكات
على أنها ممارسة لسلطة الدولة، ونضعها في خدمة الصالح العام -ربما بفرض ضريبة على الدخل أو الثروة ذاتها لتمويل الخدمات
الاجتماعية؟
ولكن المحافظين فازوا في هذا الجدل،
باستحضار الخوف من الفوضى. إذا بدأت بالتساؤل عن حقوق الملكية، أين ستتوقف؟ فقد
أصروا على أن إعادة التوزيع عن طريق فرض الضرائب التصاعدية "هي صندوق باندورا،
الذي لا ينبغي أبداً فتحه"، كما يكتب بيكيتى. ولم يتم تطبيق سوى ضرائب ضئيلة، وهو ما لم يحد
من عدم المساواة على الإطلاق. إنه جدال ما زال يسمعه المرء اليوم.
ومن عجيب المفارقات هنا أن التفاوت الشديد
الذي خلقته مجتمعات الملكية الرأسمالية في فرنسا وبريطانيا كان سبباً في خلق حالة
من عدم الاستقرار الاجتماعي كان من المفترض أن يتم تجنبها. وخلال القرن الذي أعقب الثورة
الفرنسية، جمعت الدولتان إمبراطوريات استعمارية عملاقة، وخاصة المملكة المتحدة.
التي كان احتلالها يسيطر على ربع مساحة الأرض. ولقد خلقت هذه العوامل تفاوتاً
مزدوجاً ـ سواء من خلال الأنظمة الاستعمارية ذاتها، التي خلقت بعض المجتمعات
الأكثر تفاوتاً على الإطلاق في الدول الطرفية الإمبريالية، أو من خلال حيازات
الأملاك في المركز الإمبراطوري، والتي تدفقت أرباحها إلى نخبة ضئيلة.
وكان التنافس على المستعمرات أحد الأسباب
الرئيسية الكامنة وراء التوترات التي كانت ستندلع في الحرب العالمية الأولى -والتي
دشنت فترة غير مسبوقة من تراجع عدم المساواة في جميع البلدان الغنية والتي ستستمر
حتى عام 1945. وكان أحد العوامل المهمة في هذا الانخفاض هو الانخفاض الحاد في الثروة
الوطنية المقاسة في كافة البلدان المتقاتلة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض أرباح رأس
المال وبالتالي دخل الأثرياء. (يقيس بيكيتي هذا من خلال مقارنة مجموع
الثروة الوطنية بإجمالي الدخل القومي، وهو ما يعطي طريقة جيدة للنظر إلى هيكل
الثروة بمرور الوقت).

ومن المثير للاهتمام أن بيكيتي يثبت
أن تدمير رأس المال المادي لم يكن العامل الأكثر أهمية في هذا الانخفاض ــ حتى في
فرنسا وألمانيا حيث كان الخراب أسوأ ما يكون. بل على العكس من ذلك، فإن التدمير
"لا يفسر سوى جزء من الخسائر في الممتلكات: ما بين الربع والثلث في فرنسا
وألمانيا، وما لا يزيد على بضعة في المائة في المملكة المتحدة". أما الباقي
فكان نتيجة للضرائب، والتأميم، والإقراض الخاص في زمن الحرب. وتم الضغط على الدول المتقاتلة
إلى أقصى حد، وأُجبرت على تسخير كل الموارد المتاحة لخوض الحروب. وخلافاً لما حدث في المملكة المتحدة بعد حروب نابليون، حيث فرضت الدولة البريطانية
الضرائب على مواطنيها غير الأثرياء لقرن كامل من الزمان لسداد الدين الناتج عن ذلك
(الذي كان الأثرياء يتحملونه بالكامل تقريبا)، لكن بعد عام 1914 وعام 1945 تنصلت
الأمم من ديونها، أو ألغتها، أو ضخمتها.
في هذه الأثناء، أدت الفوضى والدمار التي
أحدثتها الحروب والكساد الكبير إلى محو إيديولوجية الملكية. فعلى مدى قرن من
الزمان كان المدافعون الرأسماليون يزعمون أن حكمهم يضمن الانسجام الاجتماعي
والرخاء الاقتصادي، فقط حتى سقطت البلدان التي يتحكمون فيها في أسوأ حرب وانهيار
اقتصادي في التاريخ.
وكان كل هذا بمثابة افتتاح النمط الثالث من
المجتمعات الذي تبناه بيكيتي: الديمقراطية الاجتماعية. وبعد الحرب
العالمية الثانية، أنشأت معظم الدول الغنية في جميع أنحاء العالم، دول رفاه
اجتماعي موسعة لتوفير الدخل والخدمات لجميع السكان -التأمين الصحي الوطني، والإجازات
الأسرية والإجازات المرضية المدفوعة الأجر، ومعاشات التقاعد، وتأمين العجز
والبطالة، وما إلى ذلك. وتم تمويل هذه التدابير من خلال فرض ضرائب تصاعدية صارمة
حشدت موارد هائلة وساعدت في الحد من التفاوت بين الناس. وإذا كانت الضرائب
المفروضة على الأثرياء كافية، فإن رأس المال لن يتراكم في القمة.
وعلاوة على ذلك، يؤكد بيكيتي على عدم
وجود تأثيرات سلبية ملحوظة لاحقاً على الاقتصاد الأوسع نطاقاً نتيجة لهذا الانخفاض
الكبير في الثروة. بل على العكس من ذلك، شهدت العقود الثلاثة
التي تلت عام 1945 أقوى طفرة في النمو سجلت في مختلف أنحاء العالم الغني. كثيراً
ما يزعم خبراء الاقتصاد أن الثروة تمثل رأس المال المادي، وعلى هذا فإن المزيد من
الثروة يعني المزيد من المصانع والآلات، وما إلى ذلك، وبالتالي المزيد من الإنتاج
والنمو. ولكن كما كتب بيكيتي فإن مطالبات
الثروة من الممكن أن تنشأ بسهولة في مجالات لا علاقة واضحة لها بالإنتاج على
الإطلاق، مثل "الثروات الاستعمارية، والموارد الطبيعية، وبراءات الاختراع،
والملكية الفكرية". وفي الممارسة العملية، كان ارتفاع نسبة الثروة إلى الدخل
يعني دوماً إلى حد كبير أن أصحاب الأملاك والعقارات يستعمرون أجزاء كبيرة من
الاقتصاد، ويستخدمون هياكل السوق لاستخراج الدخل من بقية المجتمع.
وهذا يعني أن الحد من الثروة من شأنه أن
يؤدي في واقع الأمر إلى زيادة الإنتاجية في بعض المجالات. ففي قسم كبير من شمال
أوروبا، على سبيل المثال، أصدرت الحكومات بعد الحروب قوانين "التعاون"
التي منحت موظفي الشركات مقاعد في مجلس إدارتها. وقد أدى ذلك إلى خفض قيمة الأسهم
لأنه حد من سلطة حملة الأسهم في السيطرة على الشركة. ولكن هذا لم يقلل من إنتاج الشركات
أو إبداعها ــ بل على العكس من ذلك، "يبدو أن زيادة الاستثمار العامل في
الإستراتيجيات الطويلة الأجل للشركات الألمانية والسويدية … أدت إلى زيادة
إنتاجيتها". وعلى العكس من ذلك، نرى في الولايات المتحدة اليوم، حيث توجد
قيود قليلة جدا على حملة الأسهم، تركيزاً ساحقاً على الأرباح القصيرة الأجل التي
كثيرا ما تؤدي إلى تدهور المؤسسات، أو حتى تدمرها.
وهذا يقودنا إلى الدليل الأكثر إقناعاً
لفرضية بيكيتي حول الاختيار السياسي: حالة السويد. لقد زعم كثيرون على مر
السنين أن الإجماع الحالي على الديمقراطية الاجتماعية في السويد كان نتاجاً لثقافة
راسخة ترجع إلى قرون من الزمان. بل إن العكس هو الواقع، كما لوحظ أعلاه:
"كانت السويد، قبل إصلاحات 1910-1911، واحدة من أكثر المجتمعات اللاإنسانية
في العالم، حيث تركزت قوة التصويت في شريحة صغيرة من الأثرياء".
وعلاوة على ذلك، حافظت السويد على حيادها في
الحربين العالميتين الأولى والثانية. فهي لم ترفع الضرائب إلى الحد الأقصى لأنها
لم تضطر إلى مقاومة الغزو، ولم يتم قصف أي من مدنها وتحولها إلى خرائب. بل اختارت
بدلاً من ذلك الحد بشكل جذري من عدم المساواة بين الناس. ومما لا شك فيه أنها
تأثرت بالمناخ السياسي السائد، ولكن من الصحيح بنفس القدر أن المثال السويدي كان مصدر
إلهام للدعاة للمساواة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. فقد أثبتت أن المرء لا
يضطر إلى التضحية بالرخاء لبناء دولة الرفاهية المريحة للغاية، وأن الدولة قادرة
على توجيه الاقتصاد بشكل أفضل من الرأسماليين.
والواقع أن النظام الديمقراطي الاجتماعي ــ
وهو أفضل نوع من المجتمع الضخم الذي كان موجوداً على الإطلاق ــ نال قبولاً واسعاً
في مختلف أنحاء أوروبا، وحتى أنه حصل على سيطرة جزئية في الولايات المتحدة في هيئة
"صفقة مساومات". (برغم كل نجاحاته، كان نظام الصفقة الجديدة والمجتمع
العظيم أقل كثيراً من المستوى السويدي من السخاء). غير أن هناك بعض مواطن الضعف
الخطيرة. فأولا، لم ينجح الديمقراطيون الاجتماعيون في إنشاء مؤسسات دولية قوية.
فمن الصعب على أي دولة أن تحافظ بمفردها على اقتصاد مرتفع الضرائب وعالي الفائدة،
وذلك لأن احتمالات تقويض هذا الاقتصاد سوف تظل قائمة دوماً بسبب هروب رأس المال والتنافس
الضريبي. وإذا تمكنت الشركات من ذلك فلسوف تحاول دوماً الانتقال إلى سلطة ضريبية
أقل للحفاظ على المزيد من الأرباح. ويصدق هذا على نحو مضاعف على الدول الأصغر
حجماً، والتي تتمتع بأسواق داخلية أصغر حجماً، وتأثير أقل على التجارة الدولية،
فضلاً عن تعرضها للمزيد من التهرب الضريبي.
وثانيا، لم تتعامل الأحزاب الديمقراطية
الاجتماعية مع التعليم العالي على قدم المساواة. وفي عام 1945، لم تلتحق سوى أقلية
صغيرة من الناس بالجامعة. ولكن هذا تغير بسرعة في العقود التالية، مع تدفق قسم
كبير من جيل ما بعد الحرب إلى الجامعات في مختلف أنحاء العالم. فنسبة الشباب الملتحقين
بالجامعات تواصل ارتفاعها مع مرور السنين. ولكن بدلاً من توجيه حصة متناسبة من
الموارد نحو التعليم العالي، وتوزيعها بإنصاف، كانت البلدان الديمقراطية
الاجتماعية تفعل العكس عموماً. والواقع أن أغلبهم لم يعملوا على تعزيز تمويل
الدولة بأي شكل أشبه بالحجم اللازم، واستمروا في توجيه الموارد والمنافع غير
المتناسبة إلى المدارس التي تخدم أغنى الطلاب، أو السماح للأطراف الخاصة بالقيام
بذلك. ومن الواضح أن هذه هي الحال في الولايات المتحدة، ولكن ليس هناك فقط. ففي
فرنسا، "يستفيد المنتمون إلى النخبة الكبرى من التمويل العام بضعفين إلى ثلاثة
أمثال ما يستفيد منه كل طالب في الجامعات [العادية]"، كما يكتب بيكيتي. وهناك شيء مشابه في المملكة المتحدة وألمانيا.
وكان هذا مرتبطاً بعودة ظهور إيديولوجية
"الملكية الجديدة" على نطاق أوسع في مختلف أنحاء العالم المتقدم، مع
تقديم خبراء الاقتصاد الليبراليين والنيوليبراليون نسخة محدثة من برنامج العصر المذهب الاقتصادي
الذي أدى إلى الكساد الأعظم والحرب العالمية الثانية. وكان الدعم الأخلاقي الجديد
لهذا الظهور الجديد يتلخص في فكرة الجدارة ــ فكرة مفادها أن الأثرياء والمثقفين
يستحقون مركز النخبة بفضل قوتهم العقلية الفائقة وصفاتهم العملية ــ والعديد من
الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية اسمياً، وأولها الحزب الديمقراطي في الولايات
المتحدة، كانت قد أصيبت بهذا المرض، وفي نهاية المطاف دفعت بها بقوة أو صعوبة أكبر
من الأحزاب اليمينية. فقد اشتملت أجندة السياسات على العديد من الصفقات التجارية
المنصوبة تحت مصالح أصحاب الملكية، وإلغاء القيود التنظيمية، وخفض الضرائب، الأمر
الذي أدى حقاً إلى تقويض الأساس الذي تقوم عليه الأنظمة الديمقراطية الاجتماعية.
ولقد أدى كل هذا إلى تغيير البنية الطبقية
للأحزاب السياسية في مختلف أنحاء العالم المتقدم. ففي خمسينيات القرن العشرين كانت
لحزب اليسار ميزة عملاقة بين الطبقة العاملة وكان أداؤها أقل جودة بين الناخبين
الأفضل تعليماً والأكثر ثراءً، في حين كانت أحزاب اليمين تفعل العكس. ولكن على نحو
تدريجي، استحوذت أحزاب اليسار على حصة متزايدة من ذوي التعليم العالي، وحققت بعض
الغارات على الناخبين الأعلى دخلاً والأكثر ثراءً، في حين بدأت أحزاب اليمين في
الوقت نفسه في اجتذاب الطبقة العاملة. فحيث كانت النخب تتركز إلى حد كبير في
الأحزاب اليمينية، كان النظام الذي بدأ يرسخ في عام 1980 يضم
العديد من النخب ــ أعلى الناخبين دخلاً وأكثرهم ثراءً في الأحزاب اليمينية،
والأفضل تعليماً إلى الأحزاب اليسارية.
ويزعم بيكيتي أن هذا يرجع إلى أن
"أحزاب اليسار تغيرت بالكامل في طبيعتها واعتمدت مناهج جديدة بالكامل".
ونتيجة لذلك، «صارت الصفوف الاقل حظاً من الناحية التعليمية، تعتقد ان الأحزاب
اليسارية تفضل الآن الطبقات المتعلمة المتميزة حديثاً وأولادها على الاشخاص ذوي
الخلفيات الاكثر تواضعا».
ويختلف بيكيتي عن الرأي مع علماء
السياسة الأميركيين الذين زعموا أن حركة اليمين التي تحركها الطبقة العاملة في
أميركا تحركها بالكامل أفكار التعصب الأعمى وسياسات
الهوية الطائشة. وهو لا ينكر أن التعصب الأعمى (وخاصة النوع المعادي للمهاجرين) له
قوة سياسية في العديد من البلدان. ولكن إلقاء اللوم على صعود اليمين المتطرف على
المعتقدات الفاسدة للطبقات العاملة يفشل في تفسير عالمية وتدرج التحول في التصويت.
وبين عامي 1960 و2019، تحولت الأحزاب اليسارية ببطء من خسارة العشرة في المائة
الأعلى تعليماً من الناخبين، بفارق كبير في أغلب الأحيان، إلى الفوز بهم، في
الولايات المتحدة. المملكة المتحدة)، والسويد وفرنسا وألمانيا والنرويج وإيطاليا وسويسرا
وكندا وهولندا وأستراليا ونيوزيلندا. وتختلف الهوامش ولكن هذا الاتجاه لا يلين ومتسق.
الواقع أن هذه البلدان تنتهج سياسات متباينة إلى حد كبير فيما يتصل بالهجرة
والعنصرية، إلا أن كل هذه البلدان كانت خاضعة للنظام الاقتصادي العالمي القائم على
الملكية الجديدة.
وكما يلاحظ بيكيتي، فإن الفرضية العنصرية
تبرر أيضاً للنخب الحزبية ففي اليسار لاتخاذ قرارات خاطئة: "من الواضح أنه من
المناسب للغاية للنخب أن تفسر كل شيء بوصم العنصرية المفترضة من جانب من هم أقل
حظا". ومن ناحية أخرى، إذا كانت الطبقات العاملة مؤيدة متحمسة حقاً لسياسات
كراهية الأجانب، فإن المرء كان ليتوقع منها أن تصوت بأعداد كبيرة لصالح الأحزاب اليمينية.
ففي الواقع، «يدل انخفاض [معدل إقبال الناخبين] بشكل واضح ان كثيرين من الناخبين
الاقل حظا غير راضين عن الخيارات المعروضة عليهم».
***
وأخيرا، يقودنا ذلك إلى الأزمة الحالية. ومن
الواضح أن الإيديولوجية المالكة الجديدة التي هيمنت على السياسة العالمية من عام
1980 إلى عام 2016 بدأت تتهاوى، بعد أن مزقتها الأزمة المالية في عام 2008، وهي الآن
تعاني من آلام الموت بسبب وباء فيروس كورونا الجديد. وما سيبرز في مكانها هو
المسألة السياسية الأساسية في مختلف أنحاء العالم.
يشير بيكيتي (في كتابه قبل تفشي فيروس
كورونا ولكنه لا يزال تعالج أوجه القصور الأساسية التي كشفت عنها) إلى رسم عام لـ "الاقتصاديات التشاركية"
ــ رؤية
قائمة على المساواة من شأنها أن تصحح عيوب النموذج الاجتماعي الديمقراطي القديم.
والواقع أن النموذج النموذجي للضرائب المرتفعة، دولة الرفاهة السخية، والسيطرة
المشتركة من جانب العمال على الأعمال التجارية، وما إلى ذلك، أثبت نجاحه، ولكنه
يحتاج إلى المزيد من الشجاعة. وهو يقترح فرض ضرائب تصاعدية بشكل حاد على الثروة
والدخل، فتتزايد بشكل حاد إلى 90% أو عشرة آلاف ضعف متوسط أي من الرقمين. وهذا من
شأنه أن يقلص عدم المساواة بين الناس، وأن يمول حملة شاملة للتغير المناخي.
(ويمكننا أيضاً أن نضيف بعض الجهود الدولية لمكافحة الأمراض)
ولكي يتسنى لهذا الأمر أن ينجح، فيتعين على
أحزاب اليسار أن تنسق فيما بينها عبر الحدود لمنع المنافسة الضريبية على أساس
إفقار الجار، والسباق التنظيمي إلى القاع، والغش في الملاذات الضريبية. ويقترح
بيكيتي على سبيل المثال إنشاء برلمان اتحادي جديد على مستوى أوروبا بالكامل، يتألف
من نواب يتم اختيارهم من مختلف البرلمانات الوطنية، ويخول وضع معايير دنيا للضرائب
وتنظيم الشركات في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي. فالبلدان التي اضطرت إلى تخفيض
ضرائب الشركات لمجرد قيام الآخرين بذلك ستستعيد بعض السيادة على اقتصاداتها.
وعلى نحو مماثل، قد تتضمن اتفاقيات التجارة
الدولية ــ التي انحرفت حتى الآن بشكل سخيف تجاه الشركات ــ شروطاً بشأن الضرائب، والتنظيمات،
والانبعاثات المناخية. فمن المعقول أن نطلب من الدول الأجنبية أن تلتزم بالحد
الأدنى من اللياقة قبل أن تتمكن من الوصول إلى الأسواق الدولية، بحيث يمكن أن تكون
التجارة عادلة إلى حد معقول، بدلاً من تأجيج سباق شركات مستمر للحصول على أرخص
العمالة وأدنى الضرائب.
كل شيء يبدو
جيدا ولكن هناك بديل: ألا وهو اليمين المتطرف. وبوسع الأحزاب "الاجتماعية المعادية
للمهاجرين"
أن تستولي
على السلطة من خلال تأجيج هستيريا جنون الشك والاضطهاد ضد الأجانب والأقليات
والمهاجرين، جزئياً من خلال تحويل هذه الأحزاب إلى كبش فداء بسبب المشاكل
الاقتصادية. ومنذ عام 2008، استولت الأحزاب الاستبدادية أو حتى شبه الفاشية على
السلطة في مختلف بلدان العالم، من الولايات المتحدة إلى المملكة المتحدة إلى
الهند. والواقع أن فيكتور أوربان -رئيس المجر- استغل مؤخراً أزمة فيروس كورونا في تحويل المجر إلى نظام دكتاتوري صريح، ولو أنه تراجع جزئياً في وقت لاحق.
وكما يلاحظ بيكيتي فإن الأحزاب
اليمينية من غير المرجح أن تكون قادرة على التعامل مع أزمتي الخلل الاقتصادي وتغير
المناخ المتلازمتين. وبما أنها تعتمد عموماً على دعم الأثرياء
للغاية، فمن غير المرجح أن تهاجم مشكلة عدم المساواة بجدية، بل إنها سوف تتحول
بدلاً من ذلك إلى التعصب المسعور للحصول على الدعم الجماهيري. وسوف تتطلب إعادة
هيكلة التجارة العالمية، وخاصة التعامل مع تغير المناخ، تعاوناً دولياً مستنيرا ــ
وهو ما يتعارض تماماً مع كراهية جناح اليمين للأجانب من الخبرات العلمية. ومن
ناحية أخرى، يمثل ساسة مثل جو بايدن وإيمانويل ماكرون الجمر المحتضر
لملكية "الطريق الثالث"
الجديدة، ولكن حتى لو فاز بايدن
في نوفمبر/تشرين الثاني، فلن يكون بوسعه إلا أن يؤخر ما لا مفر منه. فقد تحطمت
القدرة الإيديولوجية والوظيفية للرأسمالية غير الخاضعة للتنظيم. وفي نهاية المطاف،
إما أن يستبدل مكانها اليمين أو اليسار.
اليسار يمكنه فعل هذا إن أيديولوجيته
القائمة على المساواة تشمل الإنسانية جمعاء باعتبارها تشكل أهمية أخلاقية، وهي
تنظر عن حق إلى الاقتصاد باعتباره إبداعاً جماعياً يمكن إصلاحه وتوجيهه، وليس مجرد
كيان ذاتي التنظيم سابق للسياسة. كل ما يتطلبه الأمر هو … طفرة غير مسبوقة في التنظيم
السياسي عبر عشرات البلدان في نفس الوقت.
إنها مهمة قاسية بالفعل لكن بينما يقود (بيكيتي) للمنزل مراراً
وتكراراً، لا يوجد شيء محدد مسبقًا. إن لحظات الأزمة توفر الفرصة لرسم مسار جديد،
ومع تسبب الوباء في قلب الاقتصاد العالمي رأساً على عقب، فإن هذا هو الوقت الأفضل
لليسار منذ تسعين عاماً على الأقل للكفاح السياسي والإيديولوجي. وبالنسبة لنقطته الرئيسية المتمثلة في الضرورة الوحشية لولادة يسار دولي من
جديد، فإن بيكيتي محق بلا جدال. وببساطة، إنها الاشتراكية أو البربرية -لذلك يجب علينا بالتأكيد أن نحاول.
***
إرسال تعليق