المحتويات [إظهار]
حققت حبكة الموسم الثالث من مسلسل "Westworld " الذي تبثه شبكة HBO قفزة غير متوقعة: فبالانتقال من عالم المنتزه المليء بالمستضيفين من الروبوتات المسمى باسم المسلسل إلى العالم الخارجي الحقيقي، لم نجد الرأسمالية في حالة من الفوضى نتيجة تأثير تلك الثورة السيبرانية عليها كما توقعنا، بل وجدنا ذلك العالم يسيطر عليه نظام خفى من التخطيط والإدارة شبه الشاملة. ليس التخطيط الاقتصادي فحسب، بل التخطيط لحياة كل إنسان على حِدة: وهذه هي مهمة نظام ذكاء اصطناعي يحاول أن يتشبه بمهام الإله يسمى Rehoboam أو رحبعام، الاسم المستوحى من أحد ملوك يهوذا في الكتاب المقدس. ومن خلال عرض مطول في آخر حلقة من المسلسل، قيل لنا إن رحبعام هو الاختراع التكنولوجي لشقيقين، بعد أن أدركا أن البشرية كانت تمضي في طريقها بسرعة نحو الانقراض، فتبنيا فكرة هايدجر التي كثرت انتقادها بأن "الله وحده قادر على إنقاذنا" كتحد يجب أن ينفذوه. ولكن ما انشأوه بدلاً من ذلك كان عبارة عن كتلة متجانسة سوداء تحوي ما كان هايدجر يخشاه أكثر من غيره: السجن التكنولوجي المطلق، حيث يتم تأطير ومراقبة وتنفيذ الحياة بكاملها وفقاً لأقسى معايير العقلانية الخاضعة للذكاء الاصطناعي.
وإذا كان أول
موسمين من Westworld قد لمحا، في نقاط
مختلفة، إلى مطاردة العالم الخارجي من أشباح الحدود المغلقة في المتنزهات التي أنشأتها
الشركة، واستمرارية القاعدة الميكانيكية والاقتصادية الباردة التي تتخبط في دوامة
ما بعد الحداثة الهائجة، فإن ما يفعله هذا الموسم الثالث يتلخص في الانزلاق هذه
المرة بالكامل إلى سياق عصر ما بعد الحداثة.
Posthistoire (ما بعد
التاريخ/نهاية التاريخ): يعود هذا المفهوم الى اعمال المؤرخ الالماني المحافظ أرنولد
غيلين، الذي عزا هذا المفهوم بدوره إلى كتابات عالم الرياضيات الفرنسي أ.
أ. كورنوت. فالمجتمع، من باب المحاباة، يتجه نحو "عالم حيث يتم اختزال
التاريخ في نصوص الجرائد الرسمية لتسجيل البيانات الإحصائية … ومن ثم لا يعود
تاريخاً بالمعنى المعتاد للكلمة …بل هو مرحلة جديدة يكون فيها الناس ... قادرين
على حساب النتائج الدقيقة لآلية عمل الساعة. كانت هذه الرؤية نابعة من الحماس المنتشر
للتقدم المنتظر في القرن التاسع عشر، وكانت الكلمات التي اختارها كورنوت لوصف
مستقبله المتصوَّر يمكن إيجادها بسهولة في كتابات القديس سمعان. ولا تختلف
نهاية التاريخ عنده كثيراً عن نهاية التاريخ لدى ماركس، الذي يقول بالتصفية
التدريجية للدولة وتحويلها إلى هيئة رسمية تعمل فقط كمثابة "إدارة
الأشياء" وسماها بالدولة الحارسة. ولكن في نظر غيلين، لم يكن تاريخ كورنوت
إلا كابوساً لعالم متجمد خالي من الأحداث إلى الأبد. ولم يكن التاريخ في حد
ذاته أكثر من مجرد مرحلة انتقالية بين عصر "الحياة البدائية" أو (الوقت
الأثري) حيث الحياة التي ليس لدينا أي دليل مباشر على تصورها بالكامل من خلال
النصوص لصعوبة حصولنا عليها، و من ناحية أخري عصر (ما بعد التاريخ) و هو
الوقت الذي لا ينتهي؛ فقد كتب في مقاله لعام 1963 "حول التبلور الثقافي"
أن "تاريخ الأفكار قد تم تعليقه، ووصلنا الآن إلى مرحلة ما بعد التاريخ… في
الحقبة التي يصبح فيها من الممكن رؤية ومعرفة الأرض كلها وتقريرها، في حين لا يمكن
أن يمر أي شيء دون أن يلاحظه أحد، كأنها خريطة تتكشف أمامك فجأة بدون مناطق مظلمة
لم تستكشفها بعد، فالأرض (المكان)في هذا الصدد خالية من المفاجآت".
وقد رددت
كتابات المهندس المعماري الألماني المولد رودريك سيدنبرغ الحجج التي ساقها غيلين
في الولايات المتحدة. كان اقتراح سيدنبرغ، الذي أوجز شرحه في كتاب
إنسان ما بعد التاريخ في 1950: التحقيق، بمثابة استكشاف غير اعتذاري للحتمية
التاريخية التي بنيت حول مفهوم التنظيم كمبدأ عالمي. فتزايد مبدأ
التنظيم -كدليل مباشر على نقص في الأنتروبيا -هو السمة
المميزة للذكاء، وبينما يحرر الذكاء نفسه من قبضة تلك الغريزة الأساسية الساعية
إلى الأنتروبيا، فهو يولِّد مستوى أكبر وأكثر تنظيماً في العالم. وفي نهاية
المطاف، يصبح التنظيم كلياً وشاملاً، محدداً، وخاضعاً للسيطرة. وعلى هذا، فتماماً
كما كانت قراءة غيلين لمخطط كورنوت، فإن المخطط العريض الذي وضعه سيدنبيرج
يتسم بثلاث مميزات في طبيعته. أولاً، عصر الغرائز ثم التاريخ
الذي نسعى فيه تفكيك الذكاء عن الغريزة. وأخيرا، ما بعد التاريخ، وهو حكم
الذكاء النقي الذي يُخضّع الغريزة لإملائه الخاص.
وتحت زخم هذا الاتجاه العالمي، سيجد الفرد نفسه في واقع الأمر متقلصاً إلى جسيم أصغر حجماً من أي وقت مضى، إلى ذرة أخيرة غير قابلة للتقليص في النظام الاجتماعي. وبما أن أهمية الفرد في هذه الحالة تتضاءل على هذا النحو بشكل مطرد، فإن مركزه وهويته يجب أن يقتربا بالضرورة من المتوسط الإحصائي لجميع البشر، في حين أن الكتلة ستصبح في الوقت نفسه متراصة ومهيمنة في شكلها الجديد والمخيف. وتحت ضغط هذا التحول سنكون قد تجاوزنا عتبة عصر الجماعية. غير أن معنى هذا التحول لا ينبغي أن يشمله الاستعمال المعاصر لمصطلح «الشمولية» -فهو في الوقت نفسه أبسط وأعمق وأكثر تجذراً في الزخم العميق للتطور التاريخي للإنسان. إنها ظاهرة عالمية تتحرك تحت زخم اندفاعها العارم نحو تكوين أوسع وأشمل نطاقاً للشؤون العالمية.
ويمكن
استدعاء أسماء اخرى لملء معبد أنبياء والداعين إلى عصر ما بعد التاريخ. هندريك
ديمان، المهرطق الاشتراكي الذي وصف نفسه بأنه "توماس القرن الثالث
عشر"، الذي شخص فكرته في مقالته (التي نشرت في عام 1950، وهي نفس السنة التي
نشر فيها كتاب سيندبيرغ) "عصر الهلاك"، وهي "حالة استقرار
ودوام" مقبلة تقوم على أساس التقبل والتقليد على النقيض من العمل و
"إنتاج صفات جديدة". كارل شميت، مع تصوره المخيف لـ
"التكنولوجيا الشاملة" التي "لم يعد بإمكان الطاغوت أن يترك عليها
انطباعاً شريراً". أو ذلك الشخص الذي وضعه شميت في اعتباره عندما كتب
هذه الكلمات، هو إرنست يونغر، مع انشغاله الشامل لجميع حكومات العالم بالانغماس
في توليد التيارات الكهربائية النابضة التي تتسم بالتعبئة الكاملة ــ "كلما
زاد التحول المتنامي للطاقة في جميع نواحي الحياة، كلما زال ذلك المحتوى المتزايد
لجميع الروابط الملزمة …".
وقبل كل شيء، كان أليكساندر كوجيف هو الذي أعطى شكلاً لفكرة ما بعد التاريخ. فمن خلال قراءاته الخاصة لهيجل (التي تم ربطها، غالبًا بالخفاء، بفلسفة اللاهوت الروسي فلاديمير سولوفيوف)، اعتقد كوجيف أنه قد أدرك بدايات عصر ما بعد التاريخ في القرن التاسع عشر. لقد جلبت الحروب النابليونية فكرة نهاية التاريخ، ليس في شكل نهاية العالم ما قبل الحداثة، ولكن تحت رعاية الدولة "المتجانسة" والعالمية -العالمية بمعنى أنها توسعت لتشمل كل oecumenon، والمتجانسة لأنها قد وصلت إلى قمة التطور، دون الحاجة إلى المزيد من التحول. لكن الأمر سيستغرق قروناً حتى نصل إلى هذه الحالة: ففي نظر كوجيف كان الاتحاد السوفييتي تحت زعامة ستالين هو الذي أعطى شكلاً تاريخياً لحالة نهاية التاريخ. كان ستالين أشبه بميلاد نابليون من جديد، ولكن الدولة التي قادها تولت مهمة "إدارة نهاية التاريخ". ولم يكن هناك استفزاز كبير بالنسبة لكلمات كوجيف: ففي عام 1957، كتب أن الاتحاد السوفيتي "تميز بغياب حزب شيوعي" -ليس بمعنى أن الحزب الشيوعي لم يكن موجوداً (بطبيعة الحال كان هو الحزب الوحيد في البلد)، ولكن ما قصده أن الحزب قد أنجز مهمته التاريخية، ولم يعد بالتالي أكثر من مجرد "تشكيل في ما بعد التاريخ".
في تفسير كوجيف
لتلك الجدلية، ينكشف التاريخ -كتقدم الروح- من خلال العمل، وهو إنكار الإنسان
المستمر للطبيعة. وفي النهاية، عندما يعرف الروح نفسه، ينتهي العمل «بالمعنى القوي
للكلمة». ومع الإنكار الكامل للطبيعة، ينكر الإنسان نفسه؛ ويكتب كوجيف:
"إن جوهره الذي لا يتغير الآن، يتحول إلى مخلوق فيما بعد التاريخ:
حيوان". وكما يشير سيارهي بيريشيك، فإن ستالين ذاته يتوقع بعض
مناورات كوجيف الفلسفية في مقاله الذي نشر في عام 1907 تحت عنوان "الفوضى أوالاشتراكية؟".
يحدد مفهوم فصل أو عدم مصادفة الظروف المادية والوعي كشرط من شروط ما قبل الاشتراكية، أي الزمن التاريخي. بيد أن هذه الفجوة لا تظل ثابتة، ولكنها قد تزداد أو تنقص من حيث كثافتها: فالوعي يتغير في اللحظة التي يتصاعد فيها هذا الانشقاق إلى أعلى مستوياته. ويكتب ستالين واصفاً الشروط المادية ب "المحتوى" (التعبير المادي لنفس الكلمة) ويصف الوعي بـ "الشكل" (التعبير المثالي لنفس الكلمة): "من المستحيل أن يكون المحتوى بدون شكل، ولكن في الحالة التي يكون فيها هذا الشكل أو ذاك، نظراً لتأخره في محتواه، لا يتطابق تماماً أبداً مع هذا المحتوى، وبالتالي فإن يجب على المحتوى الجديد 'إجباري' في الوقت الحاضر أن يُخفي في شكل قديم، مما يؤدي إلى نشوب نزاع بينهما". وفي حين أن الظروف المادية قد تتغير، فإن الوعي لا يتطابق معها، مما يشكل إمكانية حدوث تغيير تاريخي. وعندما يصبح من غير الممكن استمرار الصراع القائم بين المحتوى الجديد والشكل القديم، فإن حدثاً ما يحدث (نفي جذري، أي ما يسميه كوجيف "القتال"). يكتب ستالين: "الثورات تحدث بالضبط لهذا السبب".
في زمن
الشيوعية، كان آخر عمل عظيم يُـنفـذ تحت ستار الثورة، الأمر الذي أدى إلى توحيد
الصفوف بعد طول انتظار بين الوعي والظروف المادية. ولأن الوقت التاريخي هو وقت
العمل والقتال والإنكار وما إلى ذلك، فإن هذا التزامن الكلي يشير إلى النقطة التي
يتبخر عندها الزمن التاريخي ذاته. وبقراءة المواد الستالينية على هذا النحو يتبين
لنا أنها تشبه إلى حد غير عادي المخطط التاريخي الثلاثي الذي قدمه غيلين وسيدنبيرج،
حيث يتكشف التقدم إلى ما بعد التاريخ ــ الهالة البلورية للإدارة الكلية ــ
من خلال هروب الذكاء أو الوعي إلى الأعلى في تناقض مع الغريزة الدونية وعدم
التوازن الجذري في الأساس مع الظروف المادية السائدة.) (ويبدو ستالين أكثر
من كونه مثل كورنوت: "من الواضح بديهياً أنه لأغراض إدارة الشؤون
العامة لا بد أن يكون هناك في المجتمع الاشتراكي، بالإضافة إلى المكاتب المحلية
التي تجمع جميع أنواع المعلومات، مكتب إحصائي مركزي يجمع المعلومات عن احتياجات
المجتمع بأكمله، ثم يوزع أنواع العمل المختلفة بين العاملين وفقاً لذلك".
ورغم هذا فإن روسيا السوفييتية لم تكن المنطقة الوحيدة التي كان من الممكن أن يُـنظَر إليها كمكان يمثل نهاية التاريخ. حيث كتب كوجيف في حاشية مقدمة كتابه "مقدمة لقراءة هيجل" أن "الولايات المتحدة قد وصلت بالفعل، من وجهة نظر معينة، إلى الحالة النهائية للشيوعية الماركسية، إذ يري، عملياً، أن جميع أعضاء "المجتمع غير الطبقي" يمكنهم من الآن فصاعداً أن يحصلوا لأنفسهم على كل ما يبدو جيداً لهم، دون أن يعملوا أكثر مما يمليه عليهم قلبهم". وهنا، ليست التجربة السوفيتية هي التي تدفع بنفسها إلى هذا المستقبل الغريب: بل "أسلوب الحياة الأمريكي" هو الذي يوفر شكلاً لـ "نمط الحياة الخاص بفترة ما بعد التاريخ"، بينما "الوجود الفعلي للولايات المتحدة في العالم [يتصور]" الحاضر الأبدي "للبشرية جمعاء". وكان السوفييت والصينيون، من جانبهم، يسلكون هذا الطريق نفسه، مثل "الأميركيين الذين ما زالوا فقراء ولكنهم سرعان ما يسبقون في اكتساب المزيد من الثراء" نهاية التاريخ آنذاك، تمثل تقارب الهوية البنيوية للعمليات التنموية المتميزة والعرضية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم.
ورغم هذا فإن روسيا السوفييتية لم تكن المنطقة الوحيدة التي كان من الممكن أن يُـنظَر إليها كمكان يمثل نهاية التاريخ. حيث كتب كوجيف في حاشية مقدمة كتابه "مقدمة لقراءة هيجل" أن "الولايات المتحدة قد وصلت بالفعل، من وجهة نظر معينة، إلى الحالة النهائية للشيوعية الماركسية، إذ يري، عملياً، أن جميع أعضاء "المجتمع غير الطبقي" يمكنهم من الآن فصاعداً أن يحصلوا لأنفسهم على كل ما يبدو جيداً لهم، دون أن يعملوا أكثر مما يمليه عليهم قلبهم". وهنا، ليست التجربة السوفيتية هي التي تدفع بنفسها إلى هذا المستقبل الغريب: بل "أسلوب الحياة الأمريكي" هو الذي يوفر شكلاً لـ "نمط الحياة الخاص بفترة ما بعد التاريخ"، بينما "الوجود الفعلي للولايات المتحدة في العالم [يتصور]" الحاضر الأبدي "للبشرية جمعاء". وكان السوفييت والصينيون، من جانبهم، يسلكون هذا الطريق نفسه، مثل "الأميركيين الذين ما زالوا فقراء ولكنهم سرعان ما يسبقون في اكتساب المزيد من الثراء" نهاية التاريخ آنذاك، تمثل تقارب الهوية البنيوية للعمليات التنموية المتميزة والعرضية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم.
إن مصطلح ما بعد التاريخ أو نهاية التاريخ يبدو كمفهوم له تاريخ متشابك، متغير ومنحدر وفقاً لأولئك الذين يحاولون دعم شكله الغريب وغير المتماسك ــ ومختلف المسارات الفكرية (الوضعية، والبيرجونية _مستمدة من هنري بيرجسون-، والهيغلية، والماركسية، إلخ) يتم صياغتها لتوضيح تصورها للك المصطلح. ومن المهم، إذن، أن توضع في مجموعة متزامنة من المواضيع والمفاهيم المتداخلة التي تتداخل معها، وأن نبرز بينها. ثلاثة مرشحين رئيسيين في هذه الكوكبة:
(1) نهاية
التاريخ المنتصرة: على الرغم من تراجع الفهم الستاليني للشيوعية ومغالاة كوجيف،
فإن نظريات ما بعد التاريخ تميل إلى الابتعاد عن الروايات
"المنتصرة" لنهاية التاريخ. كانت الصورة الكلاسيكية لنهاية التاريخ في الماركسية
الكلاسيكية ــ أو نهاية ما قبل التاريخ ــ جزءاً لا يتجزأ من التغلب النظري على
فلسفة هيجل في الدولة، كما أوضح هنري لوفيفر في كتابه "هيجل،
ماركس، نيتشه". على مستوى النظرية، ينتقل المرء من الدولة إلى الأشكال
الاجتماعية التي تحاول الدولة يائسة تعليقها في توازن غير مناسب. إن الزمن
التاريخي يفيض ويغمر جدران الدولة العالمية بدكتاتورية البروليتاريا، ثم يُضعف
الدولة ذاتها. يرى لوفيفر أن هذا هو حقاً ما هو وضعه كارل ماركس على
المحك في رسالة نقد برنامج جوثا: حيث رسم خط
في الرمال ضد أولئك الذين ينهضون بالاشتراكية باسم الإدارة الكلية (ورغم هذا فإن
الصورة تبدو أكثر تعقيداً: هل الإدارة، والخطة المشتركة مع بنيتها الأساسية
المطلوبة، هي على وجه التحديد ما زالت قائمة على الرغم من انهيار شكل الدولة؟).
على أية حال،
فإن فكر ما بعد التاريخ يعكس النمط المنتصر من خلال منظور مظلم: فالدولة
العالمية المتجانسة تمتلئ بالجزء الأكبر من الشمولية وتصبح الأفق المطلق للزمن،
وعندها يختفي الزمان ذاته. ليس هناك شيء لنتبعه في التاريخ أو ما قبل التاريخ من
حيث العمل. وقد توجد الحرية على مستوى الشكل الخارجي فقط، ولكنها تحتها أيضاً يتم
إداراتها بالكامل (و هو الخوف الأعظم لـ غيلين، المعبر عنه بشكل جيد بما
فيه الكفاية في Westworld). الحرية كآلية
محددة آنياً، وتفوق المكان على الزمان، ووقف العمل في عالم كبير غير متحرك. إن
النمط المنتصر يرى أن نهاية التاريخ هي بداية كبرى لعالم جديد؛ وفكر ما بعد
التاريخ يرى في ذلك حلقة مغلقة لا تتزعزع.
(2) ما
بعد الحداثة: ان التاريخ الفكري الدقيق لما بعد الحداثة سيميِّز بسرعة أصل هذا المفهوم
في الفكر بعد انتهاء الحداثة. إن أوجه التشابه عديدة: ففي عصر ما بعد التاريخ، لا
وجود للتطور التاريخي، وفي عصر ما بعد الحداثة، يتم التعامل مع فكرة التاريخ
باعتبارها مجرد وهم. وعلى نحو مماثل، يرى كل فكر سواء ما بعد التاريخ أو ما بعد
الحداثة تفوُّق المكان على الزمان بمرور الوقت، الأمر الذي يؤدي إلى تبخير أي قدرة
على التوجه الزمني. فهما يعتبران طبيعتهما الأبدية أمراً مسلماً به، حتى عندما تمر
فكرة الطبيعة بسهولة إلى الفراغ.
التشابه
ينتهي عند هذا الحد. والواقع أن ما بعد الحداثة، بما تنطوي عليه من تجزؤ كلي لكل
شيء، ترفض ثبات الشكل الذي يستولي عليه الفكر في ما بعد التاريخ. فعالم ما
بعد الحداثة يجد، في دوامته المبهرة من السطح والانعكاس، ترتيباً حاراً من
الحداثة، ‹ الاختلافات الجميلة والمتحدة › من أجل الاختلاف الذي سخر منه ديلوز،
والذي من خلاله ينشأ هويته الذاتية -وهذه هي الشيء نفسه الذي حجب "ما بعد التاريخ
“عن مناظره الطبيعية المتجمدة. وأخيراً، نظام ما وصفه جاك إيول بـ
"التقنية": هذا مطلق تماما لنظرية ما بعد الحداثة، التي ستحدد فقط كسرة
أخرى في المتوالية من أجل إنكار تفوقها المفترض.
(3)
الانحطاط:
يوجد تحت سطح ما بعد الحداثة شعور بالانحطاط: نهاية التقدم، وانهيار الزمان
لأجل المكان، والتكاسل المنهك، ورقص الماضي إلى أنقاض العصر الحديث. وبالتالي فإن
الانحطاط وفقاً لهذا المنظور يتداخل في بعض المواضع مع فكر ما بعد التاريخ:
في كل من تقليص الزمان إلى المكان، واختفاء التقدم، والتصور لحدوث سكون جليدي. وما
يختلفان فيه هو أن الانحطاط ليس مجرد حالة تاريخية، بل هو عملية تتحرك، وتقود
نفسها إلى حالة خاملة نهائية، مثل التدرج من الأنتروبيا التي تتحول إلى موت حراري في
شكل لانهائي من التنظيم. إنه تبديد أوهام التقدم ورفض الأساطير المؤكدة ذاتياً؛
ووفقاً لتفسير آخر فإن هذه الاستجابة الطبيعية للتقدم في حد ذاتها، مثل مرض أو
حالة مستحثة بالزخم المحموم للحداثة.
وهذا قد يجعل
الأمر يبدو وكأن الانحطاط هو العملية التي تؤدي إلى ما بعد التاريخ، حيث
يكون ما بعد التاريخ هو الحالة الثابتة التي تستحضر أعمار الانحطاط. ولكن ما
بعد التاريخ ليس إفناء للتقدم التاريخي بنفس الطريقة التي حدث بها الانحطاط ــ
فهو ليس إنهاكاً بل إتماماً (حتى ولو كان ذلك الإنجاز أشبه بحالة "الرجل
الأخير" في العصر النيتشوي المتصور وليس بخاتمة السياسة العظيمة). إن هذا
التباعد يمر عبر سجل زمني: ففي الانحطاط، يشهد زمن التقدم والزمان التاريخي
تباطؤاً عميقاً، حيث تستغرق الثورات من عقارب الساعة وقتاً أطول فأطول للتحرك عبر
دائرتها الكاملة. على النقيض من ذلك، في فكر ما بعد التاريخ، يتكشف الوقت
قبل الأبدية الإدارية بوتيرة متسارعة. سيدنبرج:
تسرع الآلة من ظهور التنظيم في كل منعطف ومرحلة من الحياة؛ في تعابيره الدقيقة ما لا يقل عن أكثر جوانب براءات الاختراع الخاصة به، في أقواس أوسع نطاقاً وأعماق أكثر اختراقًا؛ إن هذا التحول في تقنيتنا الإجرائية الأساسية، المتسارعة والمتجسدة في الآلة، سينعكس مع الوقت، تحت ضغط طابعه الضروري، في تحويل عالمي للقيم في كل جانب من جوانب الوجود -في غاياتنا وأهدافنا، وفي تطلعاتنا ومفاهيمنا، وفي عقائدنا ومعتقداتنا. فالمجتمع الذي يتشكل بشكل تدريجي تحت قيود الإجراء المنظم سيختلف عن المجتمع الذي يعمل ككيان عضوي بحت …
هناك ميول
أخرى تختلط معها في مرحلة ما بعد التاريخ على مستوى عميق. وأول هذه المفاهيم،
النابع من فهم الحالة العامة للتنظيم الذي يجري تحقيقه، والمعادلة الخاصة، التي
وضعها كوجيف، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، هي أطروحة
"المجتمع الإداري". وفي أثناء وجود عظماء في مجموعة من المفكرين
المعتادين (سان سيمون، وماركس وفقاً لقراءة معينة)، فإن موقع نظرية التطور
التاريخي هذا صادره جيمس برنهام. كان برنهام، وهو أحد كبار
التروتسكي الأميركيين في ثلاثينيات القرن العشرين قبل أن يكسر هذا الميل في فجر الأربعينيات،
وكان برنهام عضوًا في فصيل يدور حول ماكس شاختمان يسمى حزب العمال. فقد
انشق حزب العمال عن حزب العمال الاجتماعيين في نزاع حول الطريقة السليمة لفهم
انجراف الاتحاد السوفييتي تحت قيادة ستالين. بالنسبة إلى الشاختمان، لم يكن
الاتحاد السوفياتي "دولة عمالية متخلفة"، كما يرى سكان التروتسكي، بل
نظاما قائما على "الجماعية البيروقراطية"، حيث افتتحت البيروقراطية
الستالينية صعود "طبقة جديدة" تتجاوز الطبقة البروليتارية والبرجوازية.
ولا يمكن فهم هذه الطبقة الجديدة من خلال اللجوء إلى علاقات الإنتاج الموجودة في
الماركسية الكلاسيكية، من خلال السيطرة السياسية على وسائل الإنتاج.
كان كتاب برنهام
في عام 1941 بعنوان "الثورة الإدارية"، والذي أشار إلى انفصاله
الصريح عن الماركسية، سبباً في تكثيف أطروحة الطبقة الجديدة. إن الستالينية في
الاتحاد السوفييتي لم تكن مجرد انحراف، بل كانت تشير إلى تحول جديد في مسار
التنمية الصناعية نحو التفوق التكنوقراطي الإداري. كان التحليل الذي قدمته نظرية Berle-Means في الكتاب الصادر في عام
1932 بعنوان "الشركات الحديثة والممتلكات الخاصة"، والذي يؤكد أن
الانفصال كان ينشأ بين ملكية الشركات والرقابة الداخلية (وهو الأمر الذي أدركه
ووصفه ماركس في المجلد الثالث من رأس المال)، بالغ الأهمية بالنسبة لبرنهام،
ولكنه ذهب إلى أبعد من ذلك. كشفت هياكل الصفقة الجديدة التي كانت حديثة العهد
آنذاك عن أن العملية نفسها التي كانت تجري في الاتحاد السوفيتي كانت تحدث في
أمريكا أيضاً؛ وعلى الرغم من وجود فوارق في معالم هذه الأوامر الجديدة المتسقة مع مناطق
وتاريخ كل منها، فقد حدث تقارب على مستوى رسمي. وفي جميع أنحاء العالم، كان يجري
إنشاء إدارة كاملة، وهي النتيجة الثانوية الضرورية للتركيز المضاعَف للصناعة
والأعمال التجارية تحت إشراف المديرين الذين "يميلون بطبيعة الحال إلى …
التفكير من حيث التنسيق والتكامل والكفاءة …".
و
"فرضية التقارب" هذه، حيث يتم التغلب على تناقضات التاريخ من خلال حكم
طبقة إدارية تكنوقراطية جديدة بغض النظر عن التوجهات الإيديولوجية الداخلية للبلد،
من الواضح أن لها صدى واضح لمفهوم ما بعد التاريخ -وتمضي في تناسق وثيق مع كتابات كوجيف.
ولكن هناك روابط أعمق. وأحد هذه القيود يأتي من خلال تحذيرات "محمية
الرفاه" الناشئة للفيلسوف برتراند دي جوفينل؛ وكان جوفينيل قارئاً
نهماً لكوجيف وزميله المسافر هندريك ديمان، وقد رأى هذا الهيكل يبرز
بالتحديد من خلال التقاء مسارات حكومية متعددة في هذه المنطقة المشتركة. على حدقول لوتز نيثمر،
ستتوافد الجماهير طوعاً لخدمة تلك المحمية وإطاعتها؛ وفيه اعتقد دي جوفينل أنه رأى اندماج هياكل الفاشية والصفقة الجديدة والستالينية. وفي نظر دي جوفينل، عكست هذه النظم آثار انفراج الحكم الاستبدادي والقيود الهيكلية التي يفرضها. واعتبر دي جوفينل اختفاء الحرية التقليدية التي تتمتع بها النخبة الحاكمة بمثابة مرحلة انتقالية على مسار التاريخ.
وأشار سيدنبرغ،
من جانبه، إشارة مباشرة إلى برنهام والثورة الإدارية، مشيراً إلى أنه
"في حين أن هذه الرحلات التجريبية محدودة وغير كافية"، فإنها مع ذلك
"تعكس اتجاه ميولنا الأساسية وتعطينا فكرة، مهما كانت مشوهة، لنظرة شخصية عن
أشياء قادمة"
أما الاتجاه
الفكري الثاني الذي يشكل قوسًا مع فكر ما بعد التاريخ فيبدأ بشكل طبيعي من
"أطروحة التقارب" هذه: وهي التشخيص الذي قدمه هربرت ماركوزه
"لمجتمع أحادي البُعد"، والذي يتوج بظهور مستوى أعلى من التطور الصناعي
في ظل نظرة الدولة القوية القائمة على التدخل. كتب ماركوزه في مستهل الفصل
الثاني من "الإنسان
ذو البعد الواحد" (عنوان مناسب هو "انغلاق العالم السياسي") أن
"مجتمع التعبئة الكاملة، الذي يتخذ أشكالاً في أكثر مناطق الحضارة الصناعية
تقدماً، يجمع في اتحاد منتج بين خصائص دولة الرفاهية والدولة الحربية".
ويتابع:
والاتجاهات الرئيسية مألوفة: تركيز الاقتصاد الوطني على احتياجات الشركات الكبيرة، مع دور الحكومة كقوة محفزة وداعمة بل ومسيطرة في بعض الأحيان ؛ ربط هذا الاقتصاد بنظام عالمي للتحالفات العسكرية والترتيبات النقدية والمساعدة التقنية وخطط التنمية ؛ الاستيعاب التدريجي للسكان ذوي الياقات الزرقاء والياقات البيضاء، وأنواع القيادات في الأعمال التجارية والعمالة، والأنشطة الترفيهية والتطلعات في مختلف الطبقات الاجتماعية ؛ تعزيز التناغم القائم مسبقاً بين المنح الدراسية والغرض الوطني ؛ غزو الأسرة المعيشية الخاصة بتضافر الرأي العام ؛ فتح غرف النوم لوسائل الإعلام الجماهيري.
وفي حين أن
نص الإنسان ذو البعد الواحد يهتم في المقام الأول بهياكل الرأسمالية داخل الولايات
المتحدة وأوروبا الغربية، فمن الواضح أن إطاره قد اتسع. ورغم أن رأس المال يشكل
أهمية محورية في خطابه، فإنه يعرض أيضاً الإطار الموازي لمجيء "الحضارة
الصناعية المتقدمة" ــ وبالنظر إلى أنه اعتبر هذا العمل رفيقاً لنقده
للستالينية في الماركسية السوفييتية، فيبدو هنا أيضاً أن شيئاً ما أشبه بأطروحة
التقارب بدأ يتبلور. وفي الواقع، يصف كل من الغرب والاتحاد السوفيتي، في الإنسان
ذو البعد الواحد، بأنهما محتجزان تحت تأثير "العقلانية التكنولوجية"،
التي يصفها في مكان آخر بأنها تحويل العقلانية "من قوة حاسمة إلى قوة للتكيف والامتثال".
إن العقل نفسه، تلك القوة المقدسة في التقليد الهيغلي -الماركسي، يفقد أي استقلال
ذاتي ويبدأ بالتحليق نحو الهبوط قبل أن يجد "مكانه الراكد في نظام المراقبة
والإنتاج والاستهلاك الموحد".
ولكن ما يجر
"الإنسان ذو البعد الواحد" إلى منطقة فكر ما بعد التاريخ، هو الطريقة
التي ينظر بها ماركوزه إلى التاريخ ذاته باعتباره معلقاً في اللحظة التي
يصل فيها إلى هضبة التنظيم، لهذه "الحضارة الصناعية المتقدمة". ويصل
الصدام الكبير بين الطبقات، البرجوازية والبروليتارية، إلى نهايته عند استهلاك
الطبقة العاملة في تداول هذه الآلة: "إن عالم العمل التكنولوجي الجديد … يفرض
ضعفاً في الموقف السلبي للطبقة العاملة: فالطبقة العاملة لم تعد تبدو متناقضة مع
المجتمع القائم. ويتعزز هذا الاتجاه من خلال تأثير التنظيم التكنولوجي للإنتاج على
الجانب الآخر من السياج: على الإدارة والتوجيه. حيث الهيمنة تتحول إلى إدارة
". إن المحرك الجذري للتاريخ قد توقف هنا، ولم يعد هناك شيء يمكن الاعتماد
عليه للعمل كما كان يفعل من قبل. ولكن في حين ان أنبياء ما بعد التاريخ الآخرين -ستالين
وكوجيف، على وجه التحديد - يرون في هذه اللحظة اكتمال رقصة الجدلية
الدائرية، وإنها إتمام مظلم عند هيغل، وبالنسبة لـ ماركوزه أنها معلقة فقط
هناك، متجمدة في زمان ومكان قصيران.
_____________
في البداية،
قيل إن الموسم الثالث من Westworld، الذي يعرض نظاماً للإدارة والتخطيط الكاملتين، كان قصة ما بعد
التاريخ. ولكن هذا ليس صحيحاً تماماً: فهو أيضاً قصة نهاية مرحلة ما بعد التاريخ.
يُوضَح أنه رغم طموحاته الجامحة، لا يستطيع رحبعام العظيم أن يستولي على كل
شيء. إنه دائماً يواجه ثغرات وأخطاء، شذوذات صغيرة تسقط من خلال شبكته
الإلكترونية. وبسبب العمى البسيط لهذا التمرد، فإنه لا يدرك (على حد علمنا حتى
الآن) التمرد الذي ينمو تحته، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى إزاحة البشرية
عن 'حلوقها' وإنهاء الحالة غير المنظورة التي أنشأها والتي لا تنتهي. لم يتضح بعد
لأية غايات تم تنفيذ هذا الفعل: هل هو لتحرير البشر، وإعطائهم نوع من الاختيار؟ أم
أن الهدف هو توجيه الامور نحو الاستنتاج أن رحبعام صُمِّم أولاً ليمنع خطر
الانقراض التام الذي يلوح في الافق؟
تحمل معظم
مفاهيم ما بعد التاريخ في داخلها، بطريقة أو بأخرى، طريقة تصل فيها فترة ما بعد
التاريخ إلى نهايتها. وفي حالة ماركوزه، قد يكون المجتمع الصناعي المتقدم
هو الذي يولد هذا العصر الجديد، ولكن في العالم التجريبي، فإن رأس المال ذاته هو
الذي كان يضحك أخيراً. وكما يؤكد بول ماتيك في انتقاده لـ ماركوزه،
فقد استخف مفكر مدرسة فرانكفورت بفكرة أن زواج الدولة ورجال الأعمال كان سبباً في
التغلب على التناقضات التي أدت إلى اندلاع أزمة رأسمالية، وفشل في إدراك الكيفية
التي قد تعمل بها هذه الميول الاقتصادية ذاتها على تقويض عمليات الدولة. ويرجع هذا
إلى قبول ماركوزه بأن التحفيز الاقتصادي للطلب من الممكن أن يستمر بلا
هوادة، حيث كان الحد الأقصى لهذا الحد يكمن في التدفقات النقدية التي تستطيع
الدولة الحصول عليها في هيئة ضرائب، مشروطة في حد ذاتها بمعدل الربح. فإذا كان
معدل الربح ينهار، كما كان متوقعاً ان يحدث كآلية -الأساس الذي يقوم عليه هذا
الشكل الاجتماعي -فإن البناء كله سينهار. وفي حين يبدو من المرجح أن يساهم هذا
حقاً في انهيار "الرأسمالية المنظمة" في أميركا، فقد اقترن ذلك بسلسلة
من الأحداث العالمية التاريخية الأخرى: النتائج الكئيبة لمغامرات البلاد
الإمبريالية في جنوب شرق آسيا، وعودة ظهور التكتلات التجارية التنافسية ودخول
الصين إلى السوق العالمية، وما أعقب ذلك من انهيار بريتون وودز الذي أدى إلى إنهاء
كل شيء. ولعل من عجيب المفارقات أن هذا أيضاً كان سبباً في إغلاق الباب أمام مجتمع
برنهام الإداري: فمع استنزاف رأس المال الصناعي واحتلال رأس
المال المالي محله، جاء دور الإدارة في التحول، وكما جادل جيرارد دومنيل ودومينيك
ليفي، حيث كان التوتر والصراع قائمين بين الإدارة والرأسمالي ذات يوم، نشأ
الآن نظام من التعاون الذي استمر بفعل الظروف الجديدة السائدة.
ماتت فكرة ما
بعد التاريخ السوفيتية بعد وفاتها عدة مرات، بعد أن تحول وفاة ستالين إلى صراع بين
الفصائل التي كانت تريد الاستمرار في إطاره وبين أولئك الذين عارضوه ــ ولكن في
النهاية أدت أحداث غير متوقعة (مثل صدمات النفط) إلى تمزيق التجربة السوفييتية
وإنهاء الحرب الباردة. ومع ذلك فإن القراءة الأكثر إثارة للاهتمام يقدمها بوريس
جرويس في مدونة Post
سيناريو الشيوعية: ففي نظر جرويس فإن نهاية فكرة عصر ما بعد التاريخ كانت
مبرمجة سلفاً من قِبَل ستالين ذاته، ومكرسة في المادة 17 من "الدستور
الستاليني" ــ "تحتفظ كل جمهورية اتحادية بالحق في الانفصال بحرية عن
الاتحاد السوفييتي". في هذا التفسير، ينتهي ما بعد التاريخ برؤية شبه
نيتشوية، مع حشد كبير من دولة متجانسة عالمية. كان من المفترض أن يبدأ النقاش
الجدلي من جديد، والذي حدد جرويس أنه حدث في لحظات الانهيار السوفييتي
المأساوية:
كانت الوقاحة الحقيقية للاشتراكية الستالينية تتلخص في معاداة المدينة الفاضلة، أي تأكيدها على أن المدينة الفاضلة تحققت بالفعل في الاتحاد السوفييتي. فالمكان القائم فعلاً الذي أنشئ فيه المعتقل الاشتراكي أُعلن أنه لا مكان للمدينة الفاضلة … ومن المستحيل أيضاً رفض الادعاء الشهير "أنه يتم" من العالم مرة واحدة وإلى الأبد بمجرد الإشارة إلى أوجه الظلم والقصور في الواقع، كما أنه من المستحيل تبديد العقيدة التي لا تقل شهرة "atmanis brahmanالروح هى المطلق" أو بالمثل "samsara is nirvana" لأنها تنطوي على هوية متناقضة لمناهضة المدينة الفاضلة والمدينة الفاضلة ذاتها، والجحيم والجنة، و الفقد والخلاص. والواقع أن التحول الهائل من المفارقة الذي لا يقل عن ذلك في إعادة الخصخصة أعطى أخيراً حدث الشيوعية شكله التاريخي. وبهذا لم تعد الشيوعية في واقع الأمر مدينة فاضلة، فقد اكتمل تجسيدها على الأرض. مكتمل هنا يعني مكتمل وبالتالي أطلق سراحه كعرضة للتكرار.
وماذا عن
(كوجيف)؟ ومن المعروف أنه قام بتعديل نطاق إمكانيات ما بعد التاريخ في طبعات أخرى
من مقدمة لقراءة هيجل، موضحاً سلسلة من التأملات بشأن اليابان ـ ولكن ما لم يكن
معروفاً على نطاق واسع، كما زعم آنجرو آروز، هو أن هذا ربما كان راجعاً إلى
نفوذ تلميذه الأكثر شهرة، فيلسوف التغاضي الفرنسي جورج باطاى. وفي سنة ١٩٣٧
كتب باطاى رسالة الى كوجيڤ للتحقيق في تعقيدات الإغلاق الجدلي، مع
ان هذا التحقيق سرعان ما صار اعترافا، وعويل من الالم عندما وقع في شرك التاريخ.
كتب باطاى "أتخيل حياتي، والأفضل من ذلك أن إجهاضها هو الجرح المفتوح
الذي يشكل في حد ذاته دحض نظام هيجل المغلق". ورغم أن هذا قد يبدو غامضاً
ناتجاً عن جنون العظمة، إلا أن ما فكر فيه باطاى كان الثبات، أو بقايا شيء
ما وراء الإغلاق الجدلي. والسؤال الذي صاغه هو: "إذا كان الفعل ('العمل')
-كما يقول هيغل - سلباً، فإن السؤال الذي يطرح نفسه عما إذا كانت سلبية الشخص الذي
'ليس لديه ما يفعله' تختفي أو تبقى في حالة 'سلبية عاطلة'".
وكان رد كوجيڤ،
كما وصفه آروز، "أن هذه السلبية التي لا طائل من وثاقها غير مقبولة من
وجهة نظر فلسفية"، ولكنه وجد على وجه التحديد شيئا من هذا القبيل معروضاً في
اليابان. وفي حالتي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، رأى أن "العمل
بالمعنى القوي" قد بدأ يجف، وفي اليابان كان "العمل بالمعنى
الضعيف" هو الذي أفسح المجال لعصر آخر من أيام ما بد التاريخ، عصر لا يصبح
فيه الإنسان حيواناً. كان "التعجرف" هو مخرج النجاة: في هذه اليابان
الأسطورية، قد يتحول البشر إلى "أشكال نقية"، وهو ما يسمح لهم بالتمييز
بينهم وبين الآخرين. وتمنع هذه "الاختلالات" الشكل السلس لما بعد التاريخ
الذي يعثر عليه في الأقطاب الرئيسية للنظام السياسي العالمي -ولكن الأهم هنا عندما
يتم النظر إليه في سلسلة متصلة، يتم تعديل ما بعد التاريخ لكوجيف باستمرار. من
الإدراك الهيغلي لنهاية التاريخ النابليوني في جينا إلى صعود روسيا الستالينية، ثم
إلى التطور المتسارع للرأسمالية الأمريكية الفوردية، وأخيرًا إلى اليابان -هناك
استثناءات، ويضاف إلى ذلك أن الصورة تتغير. وعند أي نقطة يبدأ الموت نفسه في
الاهتزاز، حيث تهدد سلسلة من الاختلافات بإطلاق العنان للتاريخ مرة أخرى؟ ولكن على
نفس المنوال، ألا يعني هذا أيضاً احتمال وجود لحظات ما بعد التاريخ كامنة في
تيارات الوقت؟ وكما قال جرويس فإن الدولة السوفييتية الاشتراكية تنغلق لكي
تتحقق من جديد.
في النهاية،
ربما كان هنري لوفيفر قد لخص ذلك على أفضل نحو في مقاطعه على هيجل والدولة
عندما سعى إلى رسم ملامحه للديون المزدوجة لماركس وانهياره للمعلم:
التاريخ، الذي وفقا ل هيجل اكتمل، لا يزال مستمرا لماركس. فالوقت غير المكتمل لا يتجمد في الفضاء أو في مجال العلاقات التجارية أو الإنتاج الصناعي أو سيطرة الدولة … هل هيجل محق؟ نعم، ولكن من جميع الجوانب هناك ظواهر انفصام يمكن رؤيتها، ظواهر الفساد وتعفن الدولة المركزية؛ ففي كل مكان هناك جاذبية واختلافات ولا مركزية. فهياكل الدولة في كل مكان تهتز ثم يعاد بناؤها. ولكن إذا كان بوسعنا أن نرى في كل مكان من العالم ميلاً نحو ما أعلنه ماركس، فإن هذا الميل لا يشير إلى أي شيء غير إلى مسار سيئ وأفق غامض. ومن هنا كانت خيبة الأمل الهائلة التي شعر بها ماركس نفسه: "Dixi et salvavi animam meam".
إرسال تعليق