المحتويات [إظهار]
هل يمكننا أن نعول على التجارب الفكرية؟ أو أي شيء آخر؟ وهل يساعدنا ذلك على التفكير بوضوح في المعضلات الأخلاقية أم لا؟
الكثير من الأعمال الحديثة في الفلسفة التحليلية تعلق آمالها على التعلم من الحالات التخيلية. وانطلاقاً من المساهمات الأساسية التي قدمها فلاسفة مثل روبرت نوزيك وديريك بارفيت، فإن هذا العمل يبادر إلى استخدام تجارب الفكر.
تجربة الفكر أو Gedankenexperiment (من الألمانية) تنظر إلى فرضية أو نظرية أو مبدأ بغرض التفكير خلال عواقبها. وبالنظر إلى هيكل التجربة، قد يكون اجراؤها ممكناً أو غير ممكن، وفي حالة كونه ممكنًا، يتعين ألا تكون هناك أية نية من أي نوع لإجراء التجربة قيد النظر فعلًا. ويكمن الهدف المشترك لتجربة الفكر في استكشاف العواقب المحتملة للمبدأ قيد النظر.
من الأمثلة الشهيرة للتجربة الفكرية الفكر قطة شرودنغر، الذي يوضح عدم التعيين الكمي خلال التلاعب في بيئة محكمة الغلق وكمية قليلة من مادة إشعاعية، وعفريت ماكسويل، الذي يحاول إظهار قدرة حدود افتراضية على انتهاك القانون الثاني للديناميكا الحرارية.
وتكاد هذه التجارب يتم تقديمها تقريباً خالية من السياق ، وغالبًا ما تكون بعيدة تمامًا عن السياقات اليومية التي يتم فيها تكوين القناعات الأخلاقية وممارستها. وأكثر هذه التجارب شهرة ــ تجارب الفكر بشأن جواز التسبب في وفاة عدد أقل من الناس لإنقاذ عدد أكبر من عربة هاربة (أو قطار خرج عن مساره) أو ما يمكن تسميته (معضلة العربة). ولكن هناك آلافات التجارب الأخرى، مع بعض التجارب التي تحتوي فى مضمونها على ما يصل إلى 10 معضلات منفصلة.
وفي حين أن التجارب الفكرية قديمة قدم الفلسفة ذاتها، فإن الأهمية المعطاة لها في الفلسفة الحديثة شيئ ملفت للإهتمام. وحتى عندما تكون السيناريوهات غير واقعية إلى حد كبير، و يُعتقد أن الأحكام المتعلقة بها لها آثار واسعة النطاق على ما ينبغي القيام به في العالم الحقيقي. ونحن نفترض هنا هو أنه إذا استطعنا أن نظهر أن نقطة ما من المبادئ الأخلاقية تنطبق على حالة مصممة بدهاء، حتى لو كانت غريبة، فإن هذا يخبرنا بشيء مهم. وقد رفض العديد من غير الفلاسفة هذا الافتراض. ولنتأمل هنا معضلة "عازف الكمان"، وهي قضية نوقشت كثيراً في دفاع جوديث جارفيس تومسون عام 1971 عن الإجهاض:
تستيقظ في الصباح وتجد نفسك في السرير مع عازف كمان فاقد الوعي. فى وقت سابق، عازف الكمان الفاقد للوعى الشهير قد تبيَّن أن لديه مرضاً كلوياً مميتاً، وقد فحصت جمعية محبي الموسيقى كل السجلات الطبية المتوفرة ووجدت أنك وحدك تملك فصيلة الدم المناسبة للمساعدة. لذلك اختطفوك، وفي الليلة الماضية تم توصيل جهاز الدورة الدموية لعازف الكمان بجهازك، لكي تتمكن كليتاك من استخراج السموم من دمه ومن دمك أيضاً. يقول لكم مدير المستشفى الآن: "انظر ، نحن آسفون أن جمعية محبي الموسيقى فعلوا هذا بك - لم نكن نسمح بذلك أبدًا لو علمنا بذلك. لكن مع ذلك ، لقد فعلوها ، وعازف الكمان دورته الددموية متصلة بك الآن. لفصله سيكون عليك قتله. لكن لا تهتم ، إنها فقط لمدة تسعة أشهر. بحلول ذلك الوقت ، سيكون قد تعافى من مرضه ، ويمكن فصله عنك بأمان ".
ومن المفترض أن يقرر القراء أن عازف الكمان، على الرغم من حقه في الحياة مثله كمثل أي شخص آخر، لا يملك الحق في استخدام جسد وأعضاء شخص لم يوافق على هذا ــ حتى ولو كان هذا هو السبيل الوحيد لبقائه على قيد الحياة. ومن المفترض أن يعني هذا ضمناً أنه حتى إذا كان من المسلم به أن للجنين الحق في الحياة، فإن ذلك لا يعني بعد أن له الحق في استخدام وسائل البقاء على قيد الحياة إذا كان ذلك ينطوي على استخدام جسد شخص آخر بغير رضاه.
من منظور الفلاسفة، فإن النقطة هنا واضحة، حتى ولو كانت النتيجة التى توصلت إليها تومسون مثيرة للجدل. في الحالات القليلة التي تم فيها استخدام هذه التجربة الفكرية في تدريس علم الأخلاق للأطباء، وجدوها في الغالب مثالاً سيئاً ومربكاً. مشكلتهم أنهم يعرفون الكثير فهم يرون أن هذا المثال غير معقول من الناحية الفسيولوجية والمؤسسية، ومبهم على نحو إشكالي في التفاصيل ذات الصلة حول ما حدث وكيف حدث. (لماذا يمكن لجمعية محبي الموسيقى الوصول إلى السجلات الطبية السرية؟ هل من المفترض أن تكون العملية قد تمت في المستشفى، أم أن لديهم مرفق عمليات خاص بهم؟) فضلاً عن ذلك فإن الأطباء يجدون هذه التجربة الفكرية غريبة في افتقارها التام إلى الاهتمام بالبدائل الأخرى المعقولة في العالم الحقيقي، مثل الغسيل الكلوي أو زرع الأعضاء. ونتيجة لهذا فقد يفشل الأطباء المتميزون حتى في رؤية تشابه تلك المعضلة مع حالات الحمل ، ناهيك عن إيجاده مفيداً في منطقهم الأخلاقي بشأن الإجهاض.
وفي مقابل أشخاص لا "يقتنعون" بمثل تلك التجربة الفكرية، فإن الفلاسفة المغروون بمثل تلك التجارب يتلخص قولهم بأن هؤلاء الناس ليسوا بارعين بالقدر الكافي في عزل ما هو مهم أخلاقياً. فمن الواضح أن مثل هذه الاستجابة تخاطر بتحقيق مصالح ذاتية، وتميل إلى حجب سؤال مهم: كيف ينبغي لنا أن نحدد ما هي السمات ذات الصلة أخلاقياً لأي موقف؟ لماذا، على سبيل المثال، ينبغي للفيلسوف الجالس على كرسي مسند أن يكون في وضع أفضل لتحديد السمات ذات الصلة أخلاقياً لـ "عازف الكمان" من شخص يعمل فعلياً مع آلاف المرضى؟
ورغم أن الفلاسفة لا يتحدثون عادة عن هذا، فمن الواضح أنهم يفترضون أن تفسير تجارب الفكر لابد أن يخضع لاتفاقية تتضمن تأطير أخلاقي موثوق به. أو بعبارة أخرى، تدور التجارب حول ما يعتزم المؤلف أن تكونه ولا شيء غير ذلك، تماماً كما فعل لويس كارول في شخصيته "هامبتي دامبتي"، الذي استخدم تلك الكلمات لتعني ما يريد أن يعنيه. ولزيادة توضيح الاتفاقية الضمنية، يحدد مؤلف التجربة الفكرية، بحكم وضعه، جميع العناصر الأخلاقية ذات الصلة بالقضية.
وغالباً ما يحاول مصممو التجارب الفكرية المدروسة خداع المشكلة من خلال صوت مؤلِّف كلي العلم يستمد الأحداث من جوهريته ويرويها بنظرة سريعة. إن الصوت قادر على أن يقول بوضوح وإيجاز ما يستطيع كل من الفاعلين في التجربة الفكرية أن يفعلوا، وما هي أحوالهم النفسية ونواياهم. وكثيراً ما ينص صوت المؤلف على أن الاختيارات يجب أن تتم من قائمة قصيرة تم تحديدها مسبقاً، مع عدم القدرة على تغيير شروط المشكلة. على سبيل المثال، قد يُعرَض على القارئ خياران فقط، كما هي الحال في مشكلة عربة القطار الكلاسيكية: إما أن تسحبة العتلة لتغير إتجاه القطار أو لا تسحبها و تتركه فى مساره.
كل هذا يجعل التفكير في التجارب الفكرية مختلفاً بشكل لافت عن التفكير الأخلاقي الجيد في حالات الحياة الواقعية. في الحياة الواقعية تكمن المهارة والإبداع في التفكير الأخلاقي بشأن القضايا المعقدة في إيجاد الطريقة الصحيحة لتأطير المشكلة. إن المفكرين الأخلاقيين المبدعين ينظرون إلى ما هو أبعد من القائمة الضئيلة من الخيارات الواضحة و يتخطوها للكشف عن أساليب جديدة تسمح على نحو أفضل بالتوفيق بين القيم المتنافسة. فكلما زادت المعرفة والخبرة السياقية لدى المفكر، ازداد الاعتماد عليهما في اتخاذ قرار حكيم.
ان التجارب التي يجريها الفكر الاخلاقي تنجح على افضل وجه عندما يكون الذين يقرأونها مستعدين لمجاراة الشروط التعسفية التي يضعها مؤلف التجربة. فكلما كانت الخبرة السياقية لدى المرء أكبر، كلما كان أكثر احتمالاً أن يعاني من مشكلة "المعرفة الزائدة" عندما يواجه تجارب فكرية تشتمل على وقائع وظروف لا معنى لها في ضوء تجربة الفرد الخاصة بالمجال. لذا، ففي حين يميل الفلاسفة إلى الافتراض بأنهم يتخذون خيارات أخلاقية أكثر وضوحاً وصرامة من خلال دفعهم إلى منطقة مجردة وخالية من السياقات، فمن المرجح أن يختبر هؤلاء الذين يتمتعون بالخبرة الواقعية ذات الصلة مثل هذه المكاسب باعتبارها خسائر واضحة.
ومن السهل أن تتحول مثل هذه الاختلافات إلى مواجهات فكرية. إن الطريق المسدود يلوح في الأفق حيث يستخدم كل جانب معايير مختلفة من التفكير الجيد و السليم، وحيث ينتقد الطرف الآخر لفشله في الوفاء بالمعايير التي لم يكن يحاول الوفاء بها. ولكي نحرز تقدماً، من المفيد أن تفهم لماذا يعتقد أولئك الذين تختلف معهم أن وجهات نظرهم مقنعة. كيف يحتاج العالم إلى أن يكون، لكي تكون التجارب الفكرية وسيلة جيدة لإحراز التقدم في مجال الأخلاق؟ سأبحث اقتراحين: أولاً أن التجربة الفكرية نوع من التجربة العلمية، وثانياً أنها مجرد جذب خيال. وكما سنرى في أي من القراءتين، فإن التجارب الفكرية عُرضة للخطأ و غير معصومة إلى حد كبير، ويتعين علينا أن نكون حذرين في التعامل معها لتوفير رؤى ثاقبة في المشكلات الأخلاقية في العالم الحقيقي.
يعتقد بعض الفلاسفة أن تجارب الفكر الأخلاقي إما أن تكون تجارب علمية أو لها صلة قوية بها. وعلى هذا المنوال فإن التجارب الفكرية، مثلها في ذلك كمثل التجارب الأخرى، عندما تكون جيدة التصميم من الممكن أن تسمح ببناء المعرفة من خلال اختبار دقيق وغير متحيز للفرضيات. وكما هي الحال في تجارب العينة العشوائية التي يتم فيها اختبار مستحضرات دوائية جديدة، فإن الظروف وأنواع التحكم في التجارب الفكرية قد تجعل الموقف مغايراً تماماً للمواقف اليومية، ولكن هذه فضيلة وليست رذيلة، من حيث أنها تسمح باختبار الفرضيات الأخلاقية بكل دقة.
وإذا كانت التجارب الفكرية ــ بالمعنى الحرفي للكلمةــ تجارب، فإن هذا يساعد في شرح كيف يمكن أن توفر رؤى حول الطريقة التي يكون عليها العالم. ولكن هذا يعني أيضاً أن التجارب الفكرية سترث التحديين المنهجيين المتعلقين بالتجارب بشكل عام، والمعروفين بالصلاحية الداخلية والخارجية. وتتعلق الصلاحية الداخلية بمدى نجاح تجربة ما في تقديم اختبار غير متحيز لمتغيرمستقل أو فرضية معنية. وتتعلق الصلاحية الخارجية بمدى ترجمة النتائج في البيئة الخاضعة إلى سياقات أخرى (بيئة، أشخاص، بمرور الوقت)، وخاصة سياقاتنا. وتمثل الصلاحية الخارجية تحدياً كبيراً، لأن السمات ذاتها التي تجعل البيئة خاضعة للرقابة و التحكم فى المتغيرات ومناسبة لنجاح الصلاحية الداخلية تجعلها في كثير من الأحيان مختلفة بشكل إشكالي عن البيئات غير الخاضعة للمراقبة التي تحتاج إلى تطبيق التدخلات فيها.
وهناك تحديات كبيرة فيما يتعلق بكل من الصلاحية الداخلية والخارجية للتجارب الفكرية. ومن المفيد مقارنة نوع الرعاية التي يصمم بها الباحثون الطبيون أو علماء النفس التجارب ــ بما في ذلك التحقق من صحة الاستبيانات، والتعمية المزدوجة للتجارب، و التحكم فى العلاج الوهمي، وحسابات الطاقة لتحديد حجم العينة العشوائية المطلوبة، وما إلى ذلك ــ مع النهج الأكثر اعتدالاً الذي يتبناه الفلاسفة عادة. وحتى وقت قريب، لم تكن هناك محاولة منهجية في إطار الأخلاقيات المعيارية لاختبار الاختلافات في الصياغة المختلفة للتجارب الفكرية، أو التفكير في الآثار المتعلقة، أو أحجام العينات ؛ ) أو مدى كون النتائج من التجربة الفكرية شاملة أو يمكن أن تتأثر بمتغيرات مثل نوع الجنس أو الطبقة أو الثقافة. ويكمن الغموض الرئيسي فيما إذا كان قراء التجارب الفكر الأخلاقي ينبغي أن يكونوا مجرد أي شخص، أم فلاسفة آخرين ؛ وكنتيجة طبيعية، ما إذا كان من المفترض أن تكون الأحكام التي يتمخض عنها حكم خبراء، أو حكم بشر عاديين. وبما أن الغالبية العظمى من التجارب الفكرية الأخلاقية لا تزال في الواقع محصورة في المجلات الأكاديمية، ولا تُختبر إلا بشكل غير رسمي على فلاسفة آخرين، فإنها في الواقع لا تُختبر إلا على ذوي الخبرة في بناء النظريات الأخلاقية، بدلاً من العينات التمثيلية عموماً أو تلك ذات الخبرة في السياقات التي تهدف التجارب الفكرية إلى وصفها.
و مشاكل الصلاحية الخارجية أكبر بكثير. والسؤال الحاسم هو: حتى لو افترضنا أن التجربة الفكرية لها صلاحية داخلية، ماذا ينتج عن صحة الأحكام الصادرة في عالم التجربة الفكرية بشأن قضايا أخرى؟ وإذا وافقتم على السماح بسحب العتلة في مشكلة العربة الأصلية، الأمر الذي قد يؤدي إلى إنقاذ خمسة أشخاص وموت واحد، فهناك مجموعة متنوعة من الاستنتاجات التي قد تتلو ذلك. وفي الأماكن الأكثر حصرا، يمكننا أن نستنتج أن النتيجة لها انعكاسات فقط على الحالات التي تنطوي على قطارات هاربة مع ترتيبات معينة للتغيير. وعلى الطرف الآخر، يمكن أن تكون للنتيجة آثار بعيدة المدى فيما يتعلق بجواز إلحاق الضرر بالبعض في سياق منع الضرر لأعداد أكبر من الآخرين. ويواجه القضاة المنتمون إلى تقاليد القانون العام سؤالاً مشابهاً هيكلياً عند إصدار الحكم. ويتعين عليهم أن يقدموا حججاً منطقية لدعم قرارهم أى كان، والتي يمكن
ملء أجزاء منه على أنها نسبة القرار (الأساس المنطقى القرار) من قبل القضاة
المستقبليين. تعطي النسبة أفضل تقدير تقريبي للقاضي لاتساع السابقة القضائية التي
تحددها القضية.
السابقة القضائية في الأنظمة القانونية الأنجلو-ساكسونية هي قضية قانونية سابقة أسست مبدأ أو قاعدة يكون للمحكمة أو أي جهاز قضائي آخر الحق في الاستفادة منها عند وجود قضية متشابهة في المسائل والوقائع. وتُعرف السابقة بأنها "قاعدة قانونية وَضعت للمرة الأولى من قبل المحكمة لقضية من نوع خاص وبالتالي فهي تحدد أي قضايا متشابهة."
وكلما اتسع نطاق السوابق التي قد تضعها التجارب الفكرية، كلما كانت أكثر قوة للفكر الأخلاقي. وبالمقابل، فإن اتساع السوابق التي تضعها التجربة الفكرية يعتمد على مدى الضوابط الموجودة في التجربة الفكرية، والتي تسمح باختبار الفرضية بشكل نظيف، أو ضمنياً أو متوافقاً مع الطموح الأوسع للمبدأ الأخلاقي المترتب على التجربة. وهذا ليس بالأمر البسيط، وهو في حد ذاته موضوع اعتراض متكرر.
يعتقد بعض الفلاسفة ان التجارب الفكرية التي يتم التحكم فيها جيدًا تسمح باستخلاص تأثيرات واسعة النطاق. في عام 1975، أنشأ الفيلسوف جيمس راشيل حالتي قتل تتعلقان بأحد الأقارب الذين يعتزمون قتل ابن عمه الصغير للحصول على ميراث، لكي يُظهِر أنه لا يوجد فرق جوهري بين القتل و السماح بالقتل.
في حالة (راشيل) الأولى، (سميث) قتل ابن عمه بإغراقه في الحمام، وجعل الأمر يبدو كحادث. في غضون ذلك ، يعتزم جونز إغراق ابن عمه وجعل الأمر يبدو وكأنه حادث. يتسلل إلى الحمام ليفعل هذا بالضبط ، ولكن بالصدفة ينزلق الصبي ويضرب رأسه ويسقط وجهه لأسفل في الماء ويغرق من تلقاء نفسه. يقول راشيل أن قتل ابن عمه وتركه يموت مكافئان من الناحية الأخلاقية ؛ وبالتالي، إذا لم يكن هناك فرق أخلاقي بين القتل والسماح بالموت في هاتين الحالتين المتطابقتين، فليس هناك فرق جوهري بينهما. ومن المفترض أن يمتد هذا إلى العالم من الخيارات الأخلاقية الحقيقية وتلك التي من المحتمل أن تؤثر على السياسات. لكن أيفعل ذلك؟
والآن يُقال على نطاق واسع إن مثل هذه الاستدلالات ــ من تجربة فكرية مبسطة إلى حالة واقعية ــ بأنها غير آمنة. وأن ها السياق سيحدث فرقاً في بعض الأحيان أو في كثير من الأحيان، ولا توجد طريقة خوارزمية للتوصل إلى ما سيكون عليه هذا الفرق مسبقاً. ليس من الصعب، على
سبيل المثال ، التفكير في زوج من الحالات المتطابقة بدقة حيث لا يكون
القتل والسماح بالموت متكافئين من الناحية الأخلاقية. لو كان السياق الذي
كان فيه قاتل مأجور يستعد لإطلاق رصاصة خفية على هدف ، وتوفي الهدف بعد ذلك
بسبب سكتة قلبية مفاجئة حيث ظل القاتل بعيدًا عن الأنظار ، فليس من الواضح
أن القتل والسماح بالموت سيكونان بنفس السوء.
والسؤال الأعمق حول الصلاحية الخارجية هو ما إذا كانت التجارب الفكرية تعطي نظرة ثاقبة إلى صورة ثابتة واحدة يمكن إعادة بنائها تدريجياً، أو ما إذا كانت التجارب الفكرية الجيدة التصميم توفر معلومات أكثر تجزؤاً وتغييراً وتعدداً. تختلف المجتمعات اختلافاً كبيراً من حيث السمات مثل الثروة، وعدم المساواة، وحجم السكان، والتنوع العرقي واللغوي والديني، والتقدم التكنولوجي، والهيكل الاقتصادي، وسهولة الاتصال والسفر، والقدرة على تحصيل الضرائب والحفاظ على النظام دون عنف. وعلاوة على ذلك، فإن المجتمعات تتغير باستمرار من حيث هذه المتغيرات البنيوية، وفي بعض الأحيان تتغير بسرعة، على سبيل المثال من خلال عمليات التصنيع أو التحول بعيداً عن الشيوعية. لقد أظهر تفشي COVID-19 بوضوح الطرق التي تكون بها المعايير والهياكل الاجتماعية أكثر مرونة مما نفترض.
وليس من المعقول الاعتقاد بأن وصفات السياسة المثلى الفعلية ستكون هي نفسها، بغض النظر عن السياق المجتمعي. وليس من الواضح، على الرغم من هذا التنوع المتعدد الأبعاد، ما إذا كان من الأفضل التمسك بالاعتقاد بأن هناك مبادئ أخلاقية عالمية لا تتغير يتعين علينا اكتشافها، أو ما إذا كان من الأفضل البدء من الافتراض بأن المبادئ الأخلاقية تنشأ عن محاولات حل مشاكل العيش معاً، وينبغي على الأقل افتراض أنها مبادئ محلية إلى حد ما وقابلة للتغيير مع تغير هذه الظروف. ومن بين الأسباب التي تجعلنا نشك في أن المبادئ الأخلاقية الصحيحة لا تتغير أن العديد من القضايا الأخلاقية التي تبدو على قدر كبير من الأهمية أصبحت حديثة بلا جدال، وكانت بالكاد مفهومة لأولئك الذين عاشوا قبل 100 عام - أسئلة مثل المسؤولية الفردية لمنع تغير المناخ ، وتحديد الهوية الذاتية للجنس، وطبيعة الأصالة في ظل رأسمالية المراقبة، وحوكمة صنع القرار الآلي القائم على الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك فإن العديد من الفلاسفة يريدون أن يقولوا إن المبادئ الأخلاقية الصحيحة لا تتغير. ومع ذلك، وحتى لو كان هذا صحيحاً، فأعتقد أن تلك المبادئ لن تكون كافية لتقديم مشورة مفيدة، وأن العمل الحقيقي للتفكير الأخلاقي سيكون في تفسير أو تحديد هذه المبادئ. قارنوا حالة تذهبون فيها الى شخص ما طلباً للنصيحة، ويتبين فى الآخر أنكم تحصلون تماما على النصيحة نفسها التي يحصل عليها الآخرون، بغض النظر عن تفاصيل حالتكم.
وهناك رأي بديل للتجارب الفكرية من شأنه أن يقلل من أهمية علاقتها بالتجارب العلمية، وأن يعترف بأنها، على حد تعبير دانييل دينيت، "مضخات حدسية": أدوات للإقناع من خلال التفكير الخيالي في الاحتمالات. إن التفكير في التجارب الفكرية على أنها خيالات مقنعة لن يؤدي إلى تجنب مشكلة الصلاحية الخارجية، ولكنه قد يسمح لنا بإعادة صياغتها.
ويقدم أرسطو طريقة للتفكير من خلال الكيفية التي يمكن بها للخيال أن يقدم نظرات أخلاقية، زاعما أن الدراما المأساوية "فلسفية وأكثر جدية من التاريخ"، لأنها تتحدث عن العوالم، بينما لا يتحدث التاريخ إلا عن التفاصيل. وسوف يخبرنا التاريخ بما حدث بالفعل، ولكن هذا غير مرضٍ وعشوائي في كثير من الأحيان. فالحياة كما نعيشها، والأحداث كما تتكشف، غالبا ما تكون غير منطقية -ولكن هذا النوع من صنع المعنى والشعور بالضرورة هو الذي يجعل القصص تتردد أصداؤها عالمياً ؛ وهذا يأتي من البناء العقلاني. ويميل الكتاب المسرحيون والروائيون إلى التكثيف والتخفي فى عناصر لا صلة لها بنوع القصص التي يريدون سردها. وكما زعم المؤلف آيريس مردوخ في عام 1970، عندما تعمل الرواية بشكل جيد:
وتقدم لنا صورة صادقة عن حالة الإنسان بشكل يمكن تأمله بشكل مطرد ؛ فالواقع أن هذا هو السياق الوحيد الذي يستطيع الكثيرون منا أن يتأملوا فيه على الإطلاق.
فكرة أن الخيال يمكن أن يقدم رؤى أخلاقية تبدو صحيحة ؛ ولكن لا يتبع ذلك أنهم يفعلون ذلك بشكل موثوق أو بطريقة تسمح بنقل الرؤى الأخلاقية بسهولة من سياق إلى آخر. والسؤال المهم هنا هو ما هي العلاقة بين قصة جيدة السرد وقصة حقيقية، أو ذات بصيرة أخلاقية. يناقش كاتب السيناريو وليام جولدمان في كتابه مغامرات في صناعة الشاشة (1983) كيف يمكن للمرء أن يتطرق إلى كتابة فيلم يتعين على الشخصية الرئيسية أن تكون في نفس الغرفة مع أشهر امرأة في العالم. ربما كنت لتكتبه في فيلم سرقات كلاسيكي، مع تكريسه لنصفه الأول للعقل المدبر الذي ابتكر الخطة وجمع الفريق ــ مما يتضمن بلا شك محتال ثقة، وخبير إلكترونيات لهزيمة الأنظمة الأمنية وسائق هروب. وسيشهد النصف الثاني انكشاف الخطة ووقوع الأخطاء، ثم إجراء أي تعديلات ضرورية.
ثم يقارن جولدمان هذه الفكرة بالكيفية التي دخل بها مايكل فاجان غرفة نوم الملكة في عام 1982. ثم قفز فوق درابزين القصر وسار عبر مجموعة الطوابع الملكية عبر سلسلة من الحوادث والحراس الذين لم يلاحظوا الانذارات، و تسلق انبوبا لتصريف المياه، وخلع صناديله وجواربه ليتسلق عبر نافذة مفتوحة. وما ان دخل فاجان القصر حتى تجول في المكان دون ان يوقفه احد مدة ١٥ دقيقة حافياً، ثم وجد نفسه في غرفة نوم الملكة. حتى يومنا هذا، من غير الواضح لماذا أراد أن يفعل هذا. وكما قال جولدمان : "مهما كانت الحقيقة، إذا سلمته كنص سينمائي، فستجد نفسك مطروداً ككاتب خيالي غير مبدع".
وسواء في عمل الشرطة أو في طب الطوارئ أو في الحرب، فإن طريقة عرض الأشياء في الخيال غالبا ما تكون مبسطة ومشوهة، إلى درجة قد يكون فيها من المزعج جدا مشاهدة ما إذا كانت الدراما تركز على مجال خبرتكم. على سبيل المثال، من المرجح أن ينجح الإنعاش في المسلسلات التلفزيونية أكثر من نجاحه في الحياة الحقيقية. وكما وجدت العالمة في مجال الصحة العامة جاكلين بورتانوفا وزملاؤها في عام 2015، فقد نجح ما يقرب من 70% من محاولات إجراء الإنعاش القلبي الرئوي في دراما تلفزيونية، مع بقاء 50 في المائة من المرضى على قيد الحياة لكي يخرجوا من المستشفى. في الواقع، يبلغ معدل التخرج الناجح بعد التنفس الاصطناعي في المستشفيات الأمريكية 25%، لذا فإن استخدام الخيال كوسيلة للتأمل الأخلاقي -سواء في التجارب الفكرية أو في الروايات -سيميل إلى إثارة نفس التساؤلات حول الخبرة والتفكير التجريدي و "المعرفة الزاخرة" التي فكرنا فيها سابقا عند مناقشة عازف الكمان لتومسون.
والواقع أن هذا الانتقاد قديم قدم التأمل الفلسفي في الفن من بعض النواحي. في جمهوريته، اشتكى أفلاطون من أن الشعراء لا يعرفون شيئاً عن الأشياء التي يكتبون عنها، سواء كانت حرب أو صناعة أحلام، ولكنهم قدموا صوراً قد يجدها غيرهم من الجاهلين مقنعة. وقد لا ينطبق هذا الانتقاد على المسلسلات التلفزيونية فحسب، بل وأيضاً على التجارب الفكرية.
في المجمل، تُعَد التجارب الفكرية الأخلاقية طرقاً غير معصومة من الخطأ لبناء نماذج مبسطة ترسم خريطة للعالم على نحو غير كامل، وقد تشوه بقدر ما تضيء. فهل ينبغي لنا إذن أن نتخلى عنها باعتبارها مصادر للبصيرة الأخلاقية؟
إن التفكير المسؤول يتطلب معايرة مستويات مصداقيتنا مع معولية أدواتنا الفكرية. من الواضح أن التجارب الفكرية الأخلاقية ليست أدوات يعول عليها بشكل خاص. ولكن هذا لا يعني أننا نملك أدوات أخرى أكثر موثوقية. و "الحس السليم" الأخلاقي قبل النظري عرضة للتشويهات الناجمة عن التحيز والقوة وعوامل أخرى كثيرة، والسبب الذي يدفعنا إلى اللجوء إلى الأخلاق الفلسفية في المقام الأول هو أنه من غير الواضح كيفية حل الواجبات الأخلاقية المتنافسة التي تنشأ على مستوى ما قبل النظريات. إن التفكير الأخلاقي صعب، وحتى أفضل أدواتنا للقيام بهذا ليست جيدة. ينبغي ان يكون التواضع هو شعارنا.
إرسال تعليق