المحتويات [إظهار]
لقد رأيت أسراب هائلة من اليراعاتتبارك حديقتي كما لم يحدث من قبل، تقفزفي الهواء المطهر من جشعنا المتغطرس،توهجه كلمحة إلى الزمن الذي سبقنا،عندما كانت الأرض بدوننا،تذكير بأننا لسنا محصنين ضد الطبيعة.وأقول إن هذه قد تكون النهايةالتي احتجنا إليها دائماً للبدء من جديد …
-من قصيدة "قل هذه ليست النهاية" (2020) لريتشارد بلانكو
تتمثل الحقيقة الأساسية مرة أخرى في محاولة التغلب على العذاب الذي ينالنا من آثار الوباء العالمي والوحشية المستمرة للقمع العنصري. عمال الرعاية الصحية يخاطرون بحياتهم من أجل الآخرين، شبكة المساعدات المتفاعلة لتمكين الأحياء من مواصلة حياتهم، المزارعين الذين يوصلون الغذاء إلى الزبائن فى الحظر، الأمهات يشكلن خطوطاً لحماية الشباب من عنف الشرطة: نحن في هذه الحياة معاً. ونحن -صغاراً وكباراً، مواطنون ومهاجرون -نبذل قصارى جهدنا عندما نتعاون. والواقع أن سبيلنا الوحيد إلى البقاء هو أن يحافظ كل منا على الآخر بينما نحافظ على مرونة وتنوع هذا الكوكب الذي نسميه وطناً.
كنظرة ثاقبة، التى هى ليست جديدة، أو مفاجئة. لقد أخبرنا علماء الأنثروبولوجيا منذ أمد بعيد أن البشر، باعتبارهم نوعاً لا يتمتع بالقوة أو السرعة بشكل فريد، نجوا بسبب قدرتنا الفريدة على الإبداع والتعاون. "كل ازدهارنا متبادل" اقتباس الباحث إدغار فيلانويفا من السكان الأصليين الحكمة القديمة في كتابه إنهاء استعمار الثروة (2018). والجديد في الأمر هو المدى الذي أغفل به العديد من قادة الشركات و المدن ـ وثقافات كاملة في بعض الأحيان ـ أثمن صفاتنا الجماعية.
وترجع جذور هذه الخسارة إلى حد كبير إلى تراجيديا و مأساة فكرة الخاص. هذه الفكرة التي انتقلت في وقت قصير من الفكرة الغريبة إلى الإيديولوجيا إلى النظام الاقتصادي العالمي. وادعت أن الأنانية والجشع والملكية الخاصة هي البذور الحقيقية للتقدم. والواقع أن المفهوم الخاطئ الذي سمعه العديد من القراء على الأرجح تحت مسمى "تراجيديا المشاع" يرجع إلى افتراض مفاده أن المصلحة الخاصة هي الدليل الغالب بطبيعة الحال على التاريخ الإنساني. بيد أن المأساة الحقيقية لا تكمن في المشاع، بل في الخاص. ففكرة الخاص هو التي تنتج العنف والدمار والإقصاء. إن فكرة الخاص، التي تقف على رؤوس آلاف السنين من الحكمة الثقافية، تفصل بين الأشخاص الذين يعيشون في ظل منطقهم البارد وتستغلهم وترهقهم.
إن مصطلح تراجيديا المشاع أو مأساة المشاعات يصف حالة استنزاف مورد مشترك من قبل الأفراد الذين يتشاركون به بصورة مستقلة وعقلانية إنما وفقا للمصلحة الذاتية لكل منهم على الرغم من إدراكهم أن استنزاف الموارد المشتركة يتعارض مع المصلحة المشتركة للمجموعة على المدى الطويل. وهو مصطلح اقتصادي يستعمل في معظم الأحيان فيما يتصل بالتنمية المستدامة، الربط بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، وكذلك في النقاشات حول ظاهرة الاحتباس الحراري.
المنطق البارد هو مصطلح للمنطق الذي يفشل في مراعاة العوامل البشرية مثل الثقافة واللغة والديناميكيات الاجتماعية والشخصية والعاطفة.
في مجتمعات ما قبل الصناعة، كان التعاون يمثل ضرورة من أجل البقاء على قيد الحياة. و لم يتوقف إدراك تلك الثقافات لفكرة أن السد الكامل القوى أهم من أجزائه كجزء أساسى فى تكوينها. فهى فكرة تجسد أركان المسيحية بقدر ما تجسد العصر الذهبي للإسلام أو عصر التنوير أو العصر الجديد. ففي خضم الكساد العالمي، استحضر الرئيس الأميركي فرانكلين دي روزفلت "العهد الصناعي" ــ الالتزام بأجور المعيشة والحق في العمل للجميع. و فى خلال الستينيات، أعطى مارتن لوثر كينغ صوتاً للفكرة الأشمل عندما قال إنه لا أحد حر حتى نصبح جميعاً أحراراً. في يوم الأرض عام 1970، أعلن عضو مجلس الشيوخ الأمريكي إدموند موسكي أن المجتمع الوحيد الذي سينجو هو المجتمع الذي "لن يتسامح مع الأحياء الفقيرة للبعض و الأحياء الفاخرة للآخرين، والهواء النقي للبعض والقذر للآخرين". وينبغي لنا أن نسمي هذه الأفكار بأسمائها، رؤى حضارية مركزية. إن الرخاء الاجتماعي والاقتصادي يعتمد على رفاهة الجميع، وليس القِلة فقط.
فالثقافات التي ابتعدت جوهرياً عن هذا الإدراك لم تستمر للأمد البعيد، من الإمبراطورية الرومانية إلى النازية أو الستالينية. ولكن هل تكون التالية هي رأسمالية الليبرالية الجديدة؟ بدلا من الاعتراف بالتنوع اللامتناهي للأشياء التي كان لا بد من وجوده لجعل إنجازاتنا الفردية ممكنة، فإنه يقوم على الادعاء غير الناضج بأن امتيازاتنا "مكتسبة"، الإمتيازات التى أصبحت ممكنة في المقام الأول من خلال مبادرات خاصة مخطط لها مسبقاً.
ولكن ماذا عن الادعاء: أين سنكون بدون تعاون الآخرين ورعايتهم؟ بدون الطعام من الفلاح؟ بدون الكهرباء والسكن والطرق والرعاية الصحية والتعليم والحصول على المعلومات ومئات الأشياء الأخرى التي تقدم لنا، يوماً بعد يوم، و في كثير من الأحيان مجانا، وبشكل روتيني دون أن نعرف ما الذي جدّ إلى وجودها؟ بالنظر إلى أنفسنا على ما يبدو كأفراد يطوفون بحرية، فمن السهل والمريح الانغماس في الوهم بقول "أنا بنيته. لقد عملت لأجله، لقد استحقيته".
أما الوجه الآخر المؤلم فيتمثل في المليارات من أولئك الذين ، بدون أى خطأ من جانبهم، وجدوا أنفسهم فى صفقة مقدر لها الفشل. إما الذين ولدوا في البلد الخطأ، أو للآباء الخطأ، في المنطقة التى بها المدرسة الخطأ -فهم "مخطئون" لا لسبب سوى أن لون بشرتهم أو دينهم أو مواهبهم لم تكن المفضلة لدى البعض. وبوسعنا هنا أن ننظر إلى التركيز المحدود على الفرد باعتباره وسيلة لخدمة السلطة علناً: فإذا كان أولئك الذين يتمتعون بالامتيازات والثروات من المستحق أن يكتسبوها، فإن أولئك الذين يعانون من الألم والصعوبات يستحقونها أيضاً.
كباراً وصغاراً، فى هذه الأثناء، يشعرون بفقدان التراث الثقافي الذي يتجاوز التراث الخاص، وهو هدف يتجاوز التسويق للذات. ونحن نخشى على الارجح، لسبب وجيه، أننا لم يعد بإمكاننا الاعتماد على الآخرين ليكونوا هناك من أجلنا، ليزوِّدونا بعمل ثابت، أو مجتمعاً مستقراً، وقليل من المحبة واللطف. إننا نخشى تغير المناخ، وهو النتيجة النهائية لاستهلاكنا الشره. نخشى الوحدة والإكتئاب، الكثير من العمل، فقدان الوظائف، والديون. ونحن نشعر، وكثيراً ما نشعر، بأن كل من يبحث عن الحقيقة بنفسه يبرز ما فينا من سوء -أنا ضدكم، وقبيلة ضد قبيلة أخرى. العديد يعتبروا ذلك ببساطة كـ"ثقافة في محنة".
إن التفكير الاقتصادي القياسى يعمل على تغذية الخوف الكامن من خلال التوجيه بأننا جميعاً في سباق للتنافس على الموارد المحدودة. تستند معظم تعريفات الاقتصاد السائد على نسخة من تعريف ليونيل روبين لعام 1932 بأنه "التخصيص الفعال للموارد النادرة". لا شك أن الإجابة على الندرة مقترنة برغبة الناس المفترضة في المزيد تتلخص في الاستمرار في إنتاج الأشياء. وليس من المستغرب أن تكون تلك الفكرة هى النجم الذي يسترشد به الكثير للنجاح، سواء صناع القرار السياسي أو خبراء الاقتصاد في مختلف أنحاء العالم، المقياس الخام و إن كان ملائماً ــ الناتج المحلي الإجمالي ــ الذي لا يفعل شيئاً غير إحصاء الناتج النهائي بشكل عشوائي (نريد المزيد من الأشياء)، بصرف النظر عما إذا كانت تلك الأشيا شيئاً طيباً أم سيئاً، وما إذا كان يخلق الرفاهة أو الضرر، وبرغم من أن ذلك النمو المستمر غير مستدام.
تجبرنا النظرية الاقتصادية القياسية على التفكير في الاقتصاد من منظور السعي وراء الربح فقط ، والذي يشير إلى تعظيم الميزة الفردية. ... يفتح التحليل الاقتصادي للمنفعة المتبادلة الطريق لنظرية اقتصادية متبادلة كبديل للنظرية الاقتصادية القياسية.
إنه استدلال دائري: (1) الندرة تجعل الناس لديهم احتياجات لا نهاية لها، لذا فإن الاقتصاد يحتاج إلى النمو ؛ (2) لكي ينمو الاقتصاد، يحتاج الناس إلى أن تكون لديهم احتياجات أكثر من أي وقت مضى. والواقع أن مثل هذا التفكير يهيمن على مجال الاقتصاد، وجزء كبير من الثقافة المعاصرة: فالرجل (أجل، تأتي هذه الأفكار في الأغلب الأعم من الرجال) باعتباره الشخص الذي لا ينتهي من تفاؤل المصلحة الذاتية ؛ خفض تصنيف الناس إلى منتجين ومستهلكين ؛ وجميع جوانب الحياة التي تتجاوز فكرة تراكم الأشياء كـ -الأخلاق والفرح والرعاية -تقتصر على رياض الأطفال والخيال ودرس الأخلاقيات الذي يجري أحيانا في المدرسة الثانوية أو الكلية. والنتيجة هي ما أطلق عليه نيكولاس كريستوف في صحيفة نيويورك تايمز وصف "قصر النظر الأخلاقي" الذي يهدد بالانهيار تحت كومة متصاعدة من الأشياء.
الاستدلال الدائري (يعرف أيضًا باسم المنطق الدائري) هو مغالطة منطقية يبدأ فيها الاستدلال بما يحاول استنتاجه. غالبًا ما تكون مكونات مراحل الاستدلال الدائري صحيحة منطقياً لأنه إذا كانت الفرضية صحيحة فيجب أن تكون النتيجة صحيحة. الاستدلال الدائري ليس مغالطة منطقية رسمية بل هو خلل واقعي في الحجة المطروحة حيث تكون الحجج بحاجة إلى إثبات أو دليل بقدر النتيجة المطلوبة، ونتيجة لذلك تفشل الحجة في إثبات المطلوب منها. من الطرق الأخرى للتعبير عن المغالطة هي أنه لا يوجد سبب لقبول الحجج ما لم يعتقد المرء مسبقًا بالاستنتاج، أو أن الحجج لا تقدم أي أساس مستقل أو دليل على الاستنتاج. ترتبط مغالطة المصادرة على المطلوب ارتباطًا وثيقًا بالاستدلال الدائري، وتشير الاثنتان في الاستخدام الحديث عمومًا إلى نفس الشيء
وأوجه الاختلال فى الكثير من الأشياء المهمة مثل تغير المناخ والعنصرية وعدم المساواة ليست غير مترابطة وهي من سمات الحياة الطبيعية. بل إن الأمر على العكس من ذلك، فهي تستند إلى أوهام وإخفاقات "فكرة الخاص" الذي تحول فيما بعد إلى أنظمة تحكم حياتنا الآن.
وفي الواقع، فإننا نتعاون وننظم معا ونظهر الحب والتضامن -كما وثقت إلينور أوستروم الحائزة على جائزة نوبل في كتابها "حكم العموم" (1990) -في عملية وضع قواعد وقيم مشتركة لتنظم الحياة المجتمعية على نحو ثابت. نحن نعتمد على المجتمع، والأسرة، يوماً بعد يوم. ورغم هذا فإن الانفصال المأساوي بين واقعنا الذي عشناه (ولو كان محرجاً في بعض الأحيان) والإيديولوجية المهيمنة التي تحتفل بـ "الخاص" في الكتب المدرسية والصحف وأفلام هوليوود، كثيراً ما تكون بعيد المنال. فعندما تحتاج الشركات الضخمة، التي يديرها أشخاص مبشرين باستراتجيات السوق والمكاسب الخاصة، إلى عامة الناس لإنقاذها، فإن قِلة من أهل السلطة يطرحون السؤال الأكثر وضوحاً: لماذا تحتاج إلى المال العام لإنقاذك إذا كان من المفترض أن تنقذ نفسك؟
وقد يكون السؤال الأعمق هو: لماذا ينبغي إنقاذ الثروة والامتيازات -المبنيتين إلى حد كبير على الاستهلاك الحر للطبيعة والأجر الرخيص للعمال -عندما تقع في ورطة، على يد نفس الأشخاص الذين يعتبرون، خلافاً لذلك، "مؤهلين لاستهلاكهم"؟
من المرجح أن تعود أصول النسخة الخاصة من فكرة "تمجيد الخاص" إلى الإمبراطورية الرومانية. وهو يأتي مع مفهوم السيادة المطلقة -التي تدل على حق المرء في السيطرة الكاملة على ممتلكاته. في البداية، كانت هذه السيادة تمارس من قبل رب الأسرة الذكر، على كل من الأشياء والرعايا ــ أو بتعبير أكثر دقة، على الأشياء، ولكن أيضاً على الرعايا الذين أصبحوا في ما قد يكون أول انتزاع للسلطة القانونية باسم الخاص، يُعرَفون بالأشياء كـ (الأطفال والعبيد).
وعندما قُتل جورج فلويد في 25 أيار/مايو 2020، ظهرت مرة أخرى على الصعيد العالمي أن معظم الناس -الفقراء، والشباب، وكبار السن، والسود، والبنيون، وغير الذكور -لايظلون في النظام الذي يخدم المصالح الخاصة. وفي كثير من الأحيان تُنتهك هذه المصالح باسم الملكية الخاصة الذي يكاد يكون متخفياً، على أيدي المكلفين بالدفاع عنها، وهم الشرطة. كان الخطأ الذي ارتكبه المخربون في المظاهرات الأخيرة، كما أشار الساخرون، أنهم لم ينهبوا باسم شركات الأسهم الخاصة. وبعبارة أخرى: لكي لا يضع القانون حذائه على رقبتك، يجب أن تأتي سرقتك على مقياس الياقات البيضاء و بموافقة السلطة.
مأساة الخاص، باختصار، لا تأتي من الخاص كفرد، ولكن من الخاص كملكية، كالسيطرة على الأرض والموارد وغيرها. فالامتلاك لا يتعلق دائما بحماية الذات بقدر ما يتعلق باستبعاد الآخرين. على هذا النحو، فإنه انتهاك منطقي "للذات الأخرى" أو، في الواقع، للنفس الأخرى. أنت ضدي مكسبك هو خسارتي
على سبيل المثال لا الحصر: لم يخلق حدث واحد، باستثناء الحرب، نفس القدر من البؤس في بلد مثل إنجلترا عندما قام أولئك الذين لديهم القدرة على استخدام العنف (الأسلحة والقوانين والثروة) بخصخصة و وضع سياج في الأرض التي يحتاجها الناس للبقاء على قيد الحياة. أصبح يعرف باسم "سياج المشاع" ولكنه يمثل سرقة واسعة النطاق ودموية، مما يسمح لنسبة ضئيلة من الناس باستبعاد الأغلبية من الوصول إلى التراث المشترك. ومنذ ذلك الحين تم تجنيس النتيجة وتكرارها في جميع أنحاء العالم وتقديسها في القانون باسم "حقوق الملكية الخاصة".
ولم تتعرض أي جثة للانتهاك أكثر من أولئك الذين عوملوا بوحشية كعبيد أو أقنان، وكل ذلك باسم الربح -وكما وثَّق المؤلفون مثل كيدادا ويليامز بتفصيل شديد -وقدسها نظام شرس من الملكية الخاصة. والعنصرية، كما يذكرنا المفكرون من سي إل جيمس إلى أنجيلا ديفيس إلى باربرا وكارين فيلدز، هي لبنة أساسية في نظام رأس المال الخاص.
ولم ينهب أي شكل من أشكال الحكم، سواء كان اجتماعياً أو اقتصادياً، الموارد التي توفرها الطبيعة بقدر ما نهب نظام الملكية الخاصة.
ولا يوجد ظرف واحد يقوض الحقوق والحريات السياسية اليوم أكثر من الفقر -الإقصاء العنيف من حقوق الإنسان الأساسية: الحصول على العمل والدخل والموارد الحيوية.
وبالتالي فإن فكرة الخاص باعتبارها هيمنة على الممتلكات تنتهك حتماً فكرة الخاص المتمثلة فى الحرية الشخصية. فالبشر يتحولون إلى أدوات ــ و يقال عبدي، و العامل الخاص بى ، وطفلي ــ ويحرمون من الوصول إلى أساسيات الحياة. وبحرمانهم من الاستقلال، تقلص فكرة الخاص من حرية الأغلبية، وكل من لا يستطيعون الحصول على رأس المال الكافي، نتيجة الخيارات الضيقة التي يوفرها السوق لخدمة الملكية الخاصة فقط. فهم حسب قول أمارتيا سين، محرومون فعلياً من "القدرة على تحقيق كامل إمكاناتهم كإنسان".
وعلى مر الأجيال، أصبحت السرقة العلنية للتراث المشترك متخفي تحت ستار الملكية الخاصة، ومتخفي وراء العقود القانونية والخيال الفاتر بأن المال ثروة خاصة. ويشير هذا التاريخ إلى أن المرء يتعود على العادات، حتى ولو كانت هذه العادات تتحدى الفكر العقلاني. كان المناضلون الأصليون من أجل الحرية ضد سياج الأراضي المشتركة، جماعات مثل "الحفارون"، أقل غموضاً بشكل لافت من المواطنين المعاصرين: كما أعلنوا في عام 1649 "لا أحد حر حتى يحصل الفقراء على حرية التنقيب وعمل فى مجلس العموم". وكان توماس جيفرسون (المناضل من أجل الحرية، وليس صاحب العبيد) ليفهم المنطق ــ كما كان ليفهم توسان لوفرتور أو نيلسون مانديلا.
حركة الحفارون هى حركة راديكالية بروتستانتية سعت الحركة إلى مقاومة الفقر وسيطرة رجال الكنيسة الكاثوليكية على مقدرات الشعب، وكانت تنادي هذه الحركة الثورية بأن الأرض هي ملك للجميع وبإلغاء المال وتوزيع الثروات الطبيعية على الشعب بالتساوي وزراعة الأرض في نظام اشتراكي وتقديس العمل الجماعي ولهذا فقد دُعيت بحركة الحفارين، وقد قامت الحركة فعلاً بالاستيلاء علي الأراضي وزراعتها على تل سانت جورج وليتل هيث وويلنبرج وايفر، وتعد هذه الحركة هي أول حركة أناركية اشتراكية في العصر الحديث.
من الناحية القانونية، تم إطلاق سراح العبيد و لكن بدلاً من ذلك تم تحويل المعدمين إلى حالة من الفقر المدقع حيث أصبحوا بدلاً من لفظة "عبيد" إلى "الجماهير" غير الراغبة التي تسكن المصانع الشيطانية في وقت مبكر من يومهم، فأصبحت الحرية كخيار بين البؤس أو الموت.
وكان عذر القسوة المتمثل في استبعاد الآخرين واستغلالهم باسم الملكية الخاصة هو عذر واحد دائماً: ألا وهو آفاق مستقبل أفضل للجميع. واليوم، ينبغي أن نتساءل: هل نجحت؟ إنه سؤال أصعب كثيراً في الإجابة عليه مما يريد المتعذرون المعاصرون من أمثال ستيفن بينكر أن نصدقه. صحيح أن الرأسمالية (القائمة على الملكية الخاصة) نجحت بالمقياس المتاح في توليد قدر غير مسبوق من الثروة والمعرفة.
بيد أن هذا الانفجار في خلق الثروة كان وما زال يتأتى، بثمن غالى و تضحيات مرتفعة ومطردة الارتفاع. وهو يستنزف الكوكب ويحرقه، مدعوماً بالوقود الأحفوري. إن التقدم الرأسمالي، الذي يقوم على أساس الاستخراج والاستغلال، يحمل في طياته العنف والدمار المتصاعدين. ويبدو الوجه الآخر للحضارة، على حد تعبير والتر بنجامين، "وثيقة همجية". النمو والتوسع والتنمية -إن الكفاح من أجل التغلب على الندرة قد أعطى وأخذ إلى حد كبير من أولئك الذين سكنوا أرضنا. ربما حان الوقت أخيراً للاعتراف بالمذبحة التي خلقت الثروة
كمثال للتشبيه.. في مستهل الأمر، نجحت الاقتصادات الحديثة في توفير المزيد من السعرات الحرارية لمريض يتضور جوعاً. واستناداً إلى هذا النجاح الأولي، خلصت مهنة الاقتصاد (التي أثبتت إدعاءاتها بلا شك بنماذج رياضية متطورة) إلى أن المزيد من السعرات الحرارية من شأنه أن يؤدي إلى تحسين الصحة إلى الأبد. والآن في التعامل مع مريض يعاني من السمنة المفرطة، فإن زعماءنا ومستشارينا الاقتصاديين يقاومون بعناد الاعتراف بالسؤال الواضح: إذا واصلنا العمل بنظام متزايد على نحو غير عادي من السعرات الحرارية، ألن نعجز المريض ــ بأنفسنا، إن لم يكن نقتله؟
وقد قيل الكثير عن كيف أن السباق المتواصل من أجل المزيد، كالأكبر والأسرع أدى أيضا إلى أزمة المعنى والغرض، ما وصفه كينج جونيور "الموت الروحي" المتسع من العيش في "المجتمع الموجه نحو الأشياء" بدلا من "المجتمع الموجه نحو الأشخاص"، أو ما وصفه د. ه. لورانس ببساطة "ثعبان الجشع الآلي".
ولكن سواء كان الموت راجعاً إلى الروح أو المعنى، أو الموت الفعلي للطبيعة والبشر، فإن كل هذا ينبع من جذور مشتركة: القصة المنفردة المتمثلة في المصلحة الذاتية، ومظهرها المنطقي، أو القصة الخاصة. "ليس علينا أن نهرب من الأرض"، كما تحثنا الناشطة البيئية فاندانا شيفا في كتاب الأوحد ضد 1% (2019)، "علينا أن نهرب من الأوهام التي تستعبد عقولنا …"
إننا نعيش في عالم مختلف الآن وكل ما كان يمكن تبريره في الماضي للتغلب على الفقر والندرة لم يعد قائماً. واليوم، نواجه تحديا مختلفاً تماماً. ليس القليل جداً، ولكن الكثير جداً. ليس الندرة، بل الوفرة.
في العالم الحديث، الأكثر هو في الواقع أقل. والواقع أن تكاليف النمو الاقتصادي بدأت في تجاوز فوائدها، وهو ما يتجلى في نهب البيئة وتفاقم التفاوت. فلم نعد بحاجة إلى المزيد، بل إلى توزيع أفضل وأكثر إنصافاً، بغية توفير الرخاء للجميع. ونحن، جماعياً، ننتج وننمو بما يكفي ليتمتع كل طفل وامرأة ورجل بحياة طيبة وكريمة أينما كانوا. ونحن كمجتمع عالمي نعرف أكثر ونخلق أكثر مما نعرف كيف نعالجه. إنه إنجاز ضخم. وينبغي لنا أن نحتفل بها ونستمتع بها معاً، بدلاً من أن نظل على الطريق المؤسف المتمثل في وضع واحد ضد الآخر في سباق إلى الأبد، يموت واحد من توافر أكثر مما ينبغي للعيش، ويموت الآخر من وجود أقل مما ينبغي للعيش.
ورغم هذا فإن أنظمتنا الاقتصادية المهيمنة لا تزال تتبع نظام الاستبعاد الاستعماري، في إطار هذه العملية التي أدت إلى خلق مشكلتين وجوديتين مترابطتين عضوياً: استمرار الفقر (بل وتفاقمه في بعض الحالات)، وانتهاك الحدود الفيزيائية الحيوية لكوكبنا. يا لها من مفارقة مأساوية أن أقسام الاقتصاد في التعليم العالي على مستوى العالم ما زالت، في أوائل القرن الحادي والعشرين، ترشد بعض ألمع عقولنا إلى نماذج اقتصادية مبسطة حول التخصيص الفعّال للموارد النادرة، بدلاً من كيفية بناء الحياة الطيبة على نحو مستدام استناداً إلى وفرة من المعرفة والموارد.
وللتأكيد على ما يلي: إننا، ونحن نلاحق بعبع الندرة، قد تجاوزنا الآن عتبات تاريخية مخيفة، ونغير بنية الحياة ذاتها ونخلق مستقبلاً غير مستدام لأطفالنا وأحفادنا. إنها الهمجية فى نسختها الثالثة.
وأتساءل عما إذا كانت المأساة الحقيقية في فكرة الخاص تكمن في فصل ما لا يمكن أن يعمل إلا إذا كان معا، في عملية الاستبعاد، والتدمير، والإقصاء، وبالتالي تقويض الإبداع والمرونة الفطريين لنظام معقد بالضرورة من التفاعل -بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة.
نحن نعيش في وسط تحول تاريخي. وقد يكون من حسن حظنا في هذه المرحلة أنه ما زال أمامنا خيار: إما أن نستيقظ أو نواصل التشكك في مسارنا الحالي. وإذا اخترنا الخيار الثاني، كما يقول لنا معظم الخبراء من جميع أنحاء العالم، "سيكون من الصعب للغاية تجنب الانهيار".
ومن المؤكد أن تاريخ كيفية وصولنا إلى هنا، وخيارات تغيير المسار، بالغة التعقيد. ولكن السبب الذي يجعل من الانهيار أمراً مؤكداً إذا واصلنا السير على مسارنا الحالي بسيط للغاية في واقع الأمر: أكثر مما ينبغي.
إن نقطة الضعف في الاقتصادات الحديثة تتلخص في الطبيعة الأسية للنمو الاقتصادي. واستنادا إلى ما يعتبره الاقتصاديون معدل نمو "صحي" يبلغ حوالي 3%، سيتعين على الاقتصاد أن يتضاعف إنتاجه كل 23 سنة تقريباً. وإذا كان من الصعب أن نتخيل مثل هذا النمو، فهذا لأنه أمر سخيف. ولنتخيل اقتصاد مثل الولايات المتحدة حيث بلغ الناتج 16 ضعف الناتج في مائة عام، أو 256 ضعف الناتج في مائتي عام فقط، أو 5000 ضعف الناتج في ثلاثمائة عام فقط. كتبت كيت روورث في اقتصاديات الدونات (2018) أن هناك مخططًا واحدًا في النظرية الاقتصادية "خطير للغاية بحيث لا يتم رسمه أبدًا في الواقع: المسار الطويل الأجل لنمو الناتج المحلي الإجمالي".
بدلاً من ذلك، يجب أن نسأل، ما الذي نقدره حقاً؟ وكيف نقيس ذلك؟ عندما يكتب المؤلفون عن الاقتصاد من أجل الصالح العام، أو من أجل رفاهة الجميع، فإنهم يسلطون الضوء على مجموعة مختلفة تمام الاختلاف من القيم التي تهيمن على الاقتصادات الحديثة اليوم، والتي تعتمد على الملكية الخاصة والمكاسب الخاصة وليس الكفاءة بل الصحة والمرونة ؛ ليس الحد الأدنى بل الرفاهية الجماعية. وهي تقوم على الادعاء الأخلاقي الأساسي، كما يقول الباحث القانوني جيديديا بوردي في هذه الأرض أرضنا (2019)، "العالم ينتمي من حيث المبدأ إلى جميع الذين ولدوا فيه".
فأغلب التقاليد الحضارية تتفق على أن كل من يُجلَب إلى هذا العالم لابد وأن يتمتع بمطالب متساوية في الازدهار. وإذا اتبعنا هذه التقاليد، يجب أن نستنتج أن الثقافات "المقسمة بالفعل" بين الملكية الخاصة والثروة هي ثقافات مفلسة أخلاقياً. إنهم يقدرون الممتلكات الخاصة أكثر من الإنسان
في كتابها "قيمة كل شيء" (2019)، تشير الخبيرة الاقتصادية ماريانا مازوكاتو إلى عيب كامن في التفكير: "حتى الآن، خلطنا بين السعر والقيمة". لقد نجح خبراء الاقتصاد وصناع القرار السياسي في إنشاء نظام منفصل عن العالم الحقيقي الذي يميز معاملات السوق على حساب رفاهتنا الشخصية وعلى كوكب الأرض. وهذا أيضاً منطق دائري معتدل: فالأرباح مبررة لأن شيئاً ما تم إنتاجه ويفترض أن له قيمة ؛ القيمة، في المقابل، يتم تحديدها من خلال مقدار الأرباح.
ولعل هذا هو جوهر عصرنا التكنوقراطي: فنحن نقّيم ما نقيسه. فعندما نقيس الأشياء الخاطئة، تكون النتيجة خاطئة. واليوم، فإن أكثر ما يهم حياتنا المزدهرة لا يحتسب على الإطلاق في مؤشرات أدائنا الاقتصادي. لا يوجد مؤشرات قياس لبيئة طبيعية ستستمر في تزويدنا بالهواء النقي والماء النقي والتربة الغنية -دون احتساب. والمجتمعات التي تعلم وترعى أفرادها -لا تؤخذ في الحسبان أيضاً. أشكال الحكم التي تتسم بدرجة ثابتة من المساءلة و الحساب لا يتم قياسها كذلك. في النهاية: إن قدرتنا على مواصلة الحياة على الأرض (المقصود بكلمة الاستدامة) لا تحسب. يقول لورينزو فيورامونتي في كتابه اقتصاد الرفاه (2017): "لدينا نظام اقتصادي، لا يرى قيمة في أي مورد بشري أو طبيعي إلا إذا تم استغلاله. والنتيجة هي ما تسميه المؤرخة الطبية جولي ليفينغستون "النمو الملتهم للذات". والتحديات الثلاث لتغير المناخ والأوبئة والعنصرية المنهجية تسلط الضوء على العيوب المنهجية الأعمق.
ربما كان من غير الواقعي إذن أن نتوقع من الأفراد أن يتخذوا خيارات أكثر ذكاءً، في حين يكافئهم المنطق الاقتصادي المهيمن على تحركهم في الاتجاه الخطأ. أرى هذا كل ربيع عندما يواجه الطلاب الموهوبون خيارات محدودة لمستقبلهم: قانون الشركات، الاستشارات، التمويل، الطب المتخصص للغاية. فهل نستطيع أن نبني إلى الأمام على نهب المستثمرين، وإدمان المستهلكين للمزيد من المنتجات، أو احتراف ممارسة مهنة الكذب على عامة الناس، ولكن في نفس الوقت نجعل من المستحيل تقريباً على أولئك الذين يسعون إلى مستقبل مستدام وحياة متوازنة أن يسددوا فواتير معيشتهم؟
بل إن الحاجة الملحة الآن قد تتطلب تغييراً في منطق التشغيل، وهو نظام يدعم القيم الأساسية التي تشكل كل أشكال الحياة المزدهرة -الصحة والتنوع والمرونة. يمكن للمرء أن يطلق عليه "الازدهار المشترك داخل الحدود البيوفيزيائية" أو، كما قال راورث، "اقتصاد الدونات".
وأياً كان ما نسميه فنحن في احتياج إلى اقتصاد يركز على الازدهار المشترك، وليس على وهم مفاده أن المزيد من المال سوف يوصلنا على نحو أو آخر ذات يوم وبطريقة سحرية إلى هناك. إنه اعتراف بسيط و صعب الإدراك بالواقع.
أبعد من ذلك، يجب أن نسأل ما نريده حقا. ولعل أعمق مأساة في فكرة ملكية خاصة لا تكمن حتى في تدمير بيتنا باسم المصلحة الذاتية، بل في إهدار أعظم فرصة في التاريخ، وعدم إدراك ما لم يكن بوسع مفكري الماضي أن يحلموا به إلا: حياة متحررة من العوز والندرة. وعلى حد تعبير جون ماينارد كينز في عام 1930، فإن الثقافة حيث "حب المال كملكية" سيتم الاعتراف بها على ما هو عليه، و هو اعتلال مقزز إلى حد ما. "المستقبل، كما لخصته فاندانا شيفا، حيث" عملة الاقتصاد ليست المال، بل الحياة ".
وإنه لمن دواعي الأسف الشديد أن الثقافات الحديثة، في أغلبها، لم تعد تسمح لنفسها بأن تحلم وتسعى إلى حياة أفضل. فبدلاً من تمجيد بعض عظمة الماضي أو الواقعية الزائفة التي لم تكن من قبل قط، لماذا لا نتخيل شخصاً بالغاً ناضجاً يتمتع بصحة جيدة ولم يعد أسيراً لنظام من "السعرات الحرارية المتزايدة" ــ عقلاً تحرر من "حب المال" الذي تصوره الخبير الاقتصادي للاستدامة تيم جاكسون في كتابه الازدهار بدون النمو (2009). ومع ذلك يمكن أن يكون أكثر من ذلك. الازدهار من دون سجن عقلي وثقافي، وبدون كدح العمل المأجور، والتخفيض الكئيب للحياة إلى تحليلات التكاليف والفوائد ــ الحياة، على حد تعبير الشاعر لانغستون هيوز، "حيث لم يعد الجشع يستنزف الروح".
يمكن أن تكون حياة كما يتخيلها المنظرين مثل أدريان ماري براون في الاستراتيجية الناشئة (2017) والناشطين الشباب من المجلس الدولي لشباب السكان الأصليين، حركة من أجل حياة السود، أيام الجمعة من أجل المستقبل، حركة شروق الشمس أو تحالف اقتصاد الرفاه. فالناس في مثل هذه المجموعات يتخيلون الحياة داخل مجتمعات مستقرة وصحية، وتحترم الاختلاف. فهم يتخيلون اقتصادات متجددة وخالية من الكربون، ومجتمعات تقدم عملاً ذا مغزى لكل من يريد ذلك العمل. فقد صاغوا مقترحات سياسية معقدة، وألفوا روايات مفصلة عن اقتصاد الرفاهية المحتمل. وهم يناضلون من أجل ما أطلقت عليه الباحثة القانونية أمان أكبر في صحيفة نيويورك تايمز نظام الحكم "الذي يكون ولاؤه الأساسي لاحتياجات الناس وليس الربح". وباختصار، يمكننا، من خلال إيجاد سيادتنا الشخصية والجماعية، وبالتضامن فيما بيننا، أن نبني مجتمعا مزدهرا من أجل الصالح العام، وليس لقلة مختارة فحسب.
وفي ضوء حالتنا العالمية الراهنة، فإن الإغراء يتمثل في تجاهل كل هذه الأفكار باعتبارها مثالية وساذجة. ورغم هذا، فإذا انتبهت كثيراً، فإن علامات الحياة تتصدع كالمسنين في كل مكان. وكما تذكرنا المُنظِّرة الاجتماعية باتريشيا هيل كولينز، "هناك دوماً خيار وقوة للعمل، مهما كان الوضع قاتماً".
وقد دعا جيل الألفية الألمان كبار السن من خلال رسالة Ihr habt keinen Plan (2019)، أو "ليس لديك خطة"، ثم شرعوا في بناء رؤية واعدة للأجيال المقبلة. المفكر العام روتجير بريجمان يطلب منا أن نتوقف أخيرا عن الدفاع عن ما لا يمكن الدفاع عنه. يستند كتابه يوتوبيا للواقعيين (2017) إلى إدراك عميق: العديد من اليوتوبيات هي أكثر واقعية من الواقع الحالي، بغض النظر عن مدى الدفاع عن هذا الأخير باعتباره الخيار الوحيد من قبل أولئك الذين لديهم الدعاوى، والدرجات الجامعية الرائعة والحسابات المصرفية الكبيرة.
ونحن بحاجة إلى إجراء حوار ديمقراطي واسع النطاق بشأن مزيج من السياسات التي قد تعمل على أفضل وجه في تعزيز الصالح العام، وفي التغلب على مأساة القطاع الخاص. فالحرية الجديدة لا بد أن تندمج في واقع الطبيعة وحقوق الآخرين. وسوف يعاد اكتشاف الحدود باعتبارها ضرورة أساسية للحرية. وسوف يتطلب هذا تحولات صعبة ــ كالابتعاد عن الوقود الأحفوري و استهلاك اللحوم المنتجة بكميات ضخمة و قبول التفاوت المتفشي. صحيح أن مستقبل الرفاهة المستدام من شأنه أن يجعل العديد من المهارات والمهن عتيقة، ومن المرجح أن يستبعد المزيد من الوظائف مقارنة بما يحل محله، وأن يفتح الفرص أمام أسابيع عمل أقصر للجميع. ومن بين المسارات العديدة الممكنة للمضي قدما، ستكون السمات الأساسية التالية أساسية:
- الأنظمة المحلية والوطنية والدولية التي تمنع انتهاك العتبات الإيكولوجية الحرجة ؛
- إصلاح أفظع حالات فشل السوق عن طريق محاسبة التكاليف الحقيقية، وتقييم العمل (الأعمال) الأساسية تقييماً سليماً، وإنهاء خصخصة المكاسب وتعميم التكاليف، والتعويض عن خدمات النظام الإيكولوجي الأساسية واقتصاد الرعاية (يمكن لمحاسبة التكلفة الكاملة للبنزين، على سبيل المثال، أن ترفع السعر إلى 16 دولاراً للغالون) ؛
- توفير الخدمات الأساسية والدخل الأساسي للجميع (يمكن أن نسميها "حقيقة بديهية أن جميع سكان الأرض لهم حق غير قابل للتصرف في الشروط المسبقة للحياة والحرية والسعادة") ؛
- حصول الجميع على العمل، لأن الجميع يستحقون فرصة تقديم إسهام مجد ؛
- اعتراف أخلاقي أساسي بأن لا شيء -لا عرق ولا أمة ولا جنس ولا مساهمات شخصية ولا رمز بريدي -ينبغي أن يكون على الإطلاق سبباً مشروعاً للفقر المدقع أو الثروة المفرطة ؛
- والأهم من ذلك، اعتراف أساسي بأننا لا نمتلك أو نتحكم في هذا الكوكب، بل نستعيره ببساطة 'من الجيل السابع' -أولئك الذين يأتون بعدنا. وينبغي أن يكون المبدأ دائما، كما هو الحال بالنسبة للكثيرين الذين يتعلمون في رياض الأطفال: "اتركوها كما هي، أو أفضل مما وجدتموها".
أجل، حان الوقت لإعادة كتابة السيناريو. فالمناخ الذي يسود فيه أزمة عميقة، ووباء عالمي، وعنصرية شاملة، وعدم مساواة، كلها جزء لا يتجزأ من نفس السيناريو السيئ، أي مأساة القطاع الخاص، التي يزيد من تفاقمها عجز النخبة (أو عدم رغبتها؟) عن التفكير في مستقبل أفضل.
ورغم أن الأنانية الضيقة، حين ارتقت إلى إيديولوجيات في خدمة القطاع الخاص، كانت سبباً في دفع العالم على نحو متكرر إلى حافة الكارثة، إلا أننا نجحنا حتى الآن إلى حد كبير في البقاء بفضل قدرتنا الأساسية على التعاون. وقد حان الوقت الآن لجعل قدرتنا البشرية الاستثنائية على إنشاء هياكل حكمنا والتعاون معها جزءا من منطق عمل المجتمعات الحديثة. وربما يكون بوسعنا آنذاك أن نجلب إلى الحياة ما لا يستطيع الآخرون إلا أن يتصوروه: نظام يركز على رخاء البشر وكوكب الأرض، فيحرر قدراتنا الفردية والجماعية.
مقال مترجم لديرك فيلبسن هو مؤرخ اقتصادي ومدافع عن اقتصاد الرفاهية ، يدرّس السياسة العامة والتاريخ في جامعة ديوك في نورث كارولينا. وهو أيضًا زميل أقدم في معهد كينان للأخلاقيات. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "الرقم الصغير الصغير: كيف جاء الناتج المحلي الإجمالي ليحكم العالم وماذا تفعل حيال ذلك" (2015).
إرسال تعليق