فرساي: الرغبات العربية و المستقبل العربي

فرساي: الرغبات العربية و المستقبل العربي

المحتويات [إظهار]
فرساي: الرغبات العربية و المستقبل العربي



"حدود  مصطنعة"... تلك الجملة التى نسجت حولها كثير من الحكايات في إشارة لتآمر القوى الغربية لتقسيم المقاطعات العربية التى كانت تحت وصاية الامبراطورية العثمانية، أشهر جملة فى الشرق الأوسط، فنحن نقول أن فرنسا وبريطانيا "اختلقا" دول جديدة ليس لها أساس في التاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة والتي كانت حدودها مجرد "خطوط على الرمال".

 و في هذا القول، كانت دول مثل لبنان وسوريا والعراق مجرد إبداعات غربية مضطربة -مثل وحوش فرانكشتاين- التي تم الترويج لها بصورة الدول القومية، التى كانت فى الواقع ليست لها سلطة مستقلة تماماً، علاوة أنها ستواجه فقط الاضطرابات الداخلية والفوضى. إن تلك التجمعات البشرية المصطنعة، التي لم تكد تولي أي اعتبار للتماسك الديني أو العرقي، كانت على حد تعبير المفكر السياسي المحافظ إيلي كيدوري، عبارة عن هياكل "متداعية"، مصيرها أن تنهار عاجلاً أم آجلاً.  ففي هذه الهندسة الاجتماعية الحرجة، لم يلعب سكان المنطقة أي دور؛ فبعد أن كانوا يلعبون معاً دوراً غير عادي في تاريخهم، وجدوا أنفسهم مواطنين في دول جديدة لا تعني لهم شيئاً. بل لقد قيل لنا إن إقناعهم حينها بذاك المعنى كان ليصبح مستحيلاً: فقد أصر كيدوري على أن تلك التجمعات كانت "غير متجانسة للغاية" ؛ وظل الدين، على حد تعبير ديفيد فرومكين، "أساس الحياة السياسية" للأغلبية؛ و مثلت لهم الحداثة الغربية فى فكرهم تلك القوى الأجنبية المهددة لهم.

ولكن ماذا لو استبعد سرد كهذا الرغبات الحقيقية لشعوب المنطقة حينها؟  ماذا لو نجحت دول مثل لبنان وسوريا والعراق ـ في نظر البعض على أقل تقدير ـ في تحقيق طموحات سياسية حقيقية ومطالب بتقرير المصير؟ باختصار، ألم يحن الوقت لكي نتساءل عن العوالم الممكنة في عامي 1919 و 1920 عندما اجتمعت القوى العظمى في باريس لتحديد نتائج التسوية في مرحلة ما بعد الحرب، ووضع نظام دول جديدة للشرق الأوسط؟ وعلى وجه الخصوص، ما هي أشكال المجتمع السياسي التي تصورها سكان المنطقة في هذه اللحظة الحاسمة؟

أريد أن أقدم إجابة واحدة على هذه التساؤلات من خلال العودة إلى لجنة كنج كرين، التي أوفدها وودرو ويلسون إلى بلاد الشام في منتصف عام 1919، لدراسة آراء سكانها، والطرق التي فهمت بها الأجيال اللاحقة من المؤرخين والمعلقين السياسيين النتائج التي توصلت إليها اللجنة. فقد نظر إليها أغلب الناس باعتبارها علامة على ما قد يكون -لو لم تنصاع الولايات المتحدة إلى التوسع و الخداع الامبريالى الفرنسي والبريطاني- وتذكِرة بالآمال المتغطرسة وخيبة الأمل الساحقة لما أطلق عليه المؤرخ إيريز مانيلا "لحظة ويلسون" ـ حين كانت آمال الشعوب المستعمرة في مختلف أنحاء العالم معلقة على نحو غير مشروع على الرئيس الأميركي، الأمر الذي جعله لفترة وجيزة "رمزاً" للنضال ضد الاستعمار.

هناك طريقة أخرى لفهم تقرير لجنة كنج كرين. فأظن أن الالتماسات التي تلقتها اللجنة تشكل أرشيفاً غنياً بفكر السكان في هذه اللحظة التاريخية. وفي مطالبهم الحازمة بتقرير المصير، تشكل هذه الالتماسات رداً قوياً على هؤلاء الذين ما زالوا يصرون على أن دول المنطقة ليست أكثر من مجرد حدود مصطنعة، جُمعت قبل مائة عام على أيدي إداريين إمبرياليين من جماعات عرقية وطائفية كانت تملك -ولا تزال تملك- القليل من القواسم المشتركة.

وحين نادوا بإنشاء دول سورية أو عراقية أو لبنانية، فإن الموقعين على هذه العرائض لم يكونوا دمية بين أيدي مفوضي أوروبا. وهم لم يتبنوا ببساطة "خطاب ويلسون بشأن تقرير المصير"، كما اقترح مانيلا. بل إن مطالبهم كانت تدور حول خلاصة مناقشات مطولة حول شكل المجتمع السياسي، وكما قال المؤرخ حسين عمر مؤخراً في رده على مانيلا: "طبيعة و معنى" مفهومي الحرية والاستقلال فى نظرهم. كما أثبت علماء مثل كارول حكيم، وجيمس جيلفين، وسارة بورسلي، أن العراق وسوريا و لبنان لم يعودوا من اختراعات المغامرين الأوروبيين والمنظرين الاستعماريين، و لكنها فى نفس الوقت كانت مطالب العرب بتقرير المصير المستمدة من نقاط ويلسون الأربع عشرة.

لذلك، يجب علينا أن ننظر ليس فقط إلى ما قيل وقرر في فرساي ولكن أيضا -وعلى نفس القدر من الأهمية -إلى ما كان العرب أنفسهم يطالبون به، وشكل المستقبل الذي تصوروه لأنفسهم.

المعروف رسميًا باسم القسم الأمريكي للجنة الانتدابات بين الحلفاء في تركيا، وقد ترأس اللجنة الباحث هنري تشرشل كنغ، جنباً إلى جنب مع رجل الأعمال والمؤيد الديمقراطي تشارلز آر كرين. وقد وصل أعضاؤها إلى يافا، ثم إلى فلسطين المحتلة من قبل بريطانيا، في 10 يونيو 1919. ثم تم إرسالهم إلى بلاد الشام من قبل حكومة الولايات المتحدة "للحصول على معلومات دقيقة ومحددة قدر الإمكان بشأن الظروف والعلاقات ورغبات جميع الشعوب والطبقات المعنية من أجل أن يتصرف الرئيس ويلسون.. بعد معرفة كاملة بالحقائق.

و لأكثر من خمسة أسابيع، سافر أعضاء اللجنة عبر سوريا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة وجنوب تركيا. وأثناء مرورهم على 36 بلدة ومدينة على طول الطريق، تلقوا 1863 عريضة، خطية وشفوية، من رؤساء البلديات والمجالس البلدية، ومجالس القرى، و "اللجان المسيحية و الإسلامية"، والنقابات المهنية والتجارية، و "نوادي الشباب"، ووفود متنوعة أخرى.

ووجد المفوضون أن أكثر من ألف من هذه الإلتماسات تدعو إلى إنشاء دولة سورية موحدة، والتي كانت تشمل حدودها فيما هو معروف حاليا بـ سوريا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة. (كانت هذه المناشدات بمثابة تكرار لما أطلق عليه المفوضون "برنامج دمشق": اتلك لمطالب التي حددها المؤتمر العام السوري، في الجمعية التأسيسية للدولة العربية الجديدة التي تأسست في دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1918). وحرصاً من أن يعكس تقريرهما رأي الأغلبية، أيد كينج وكرين هذا البرنامج لإنشاء دولة سورية موحدة، وحددا أنه، كما طلب، ستتخذ هذه الدولة شكل "ملكية دستورية على أسس ديمقراطية" وسيحكمها أمير فيصل الهاشمي.

في هذه الدولة السورية الجديدة التي تصورها المفوضون، لن يكون للبنان أو فلسطين وجود مستقل، على الرغم من أن لبنان كان سيكون لديه "قدر كبير من الحكم الذاتي المحلي". وجادل المفوضون بأن هذه الدولة الجديدة يجب أن توضع تحت ولاية أمريكية محدودة من حيث صلاحياتها ومدتها. وعلاوة على ذلك، أوصت اللجنة "بتعديل خطير للبرنامج الصهيوني المتطرف لفلسطين للهجرة غير المحدودة لليهود، والسعي في النهاية إلى جعل فلسطين دولة يهودية بامتياز".

و لكن بعد ابتلاعه في أحشاء البيروقراطية الأميركية، نُشِر تقرير كنغ كرين بعد عامين في عام 1922. و لكن فى ذلك الوقت كان قد فات الأوان. وحتى لو كان قد التزم ويلسون بنصرة أفكار التقرير -و هذا لا يعنى أنه كان لديه النية لنصرته- فحينها كان قد ذهب ويلسون من المشهد. أصيب بسكتة دماغية، وكان قد تقاعد من منصبه في عام 1921.

وخلال ذلك، ضغطت فرنسا وبريطانيا على خططهما الخاصة للمنطقة. في أبريل 1920، في مؤتمر سان ريمو، تم تخصيص ولايات محددة لدولة سوريا الجديدة وبلاد ما بين النهرين وفلسطين. في يوليو هزمت القوات الفرنسية قوات المملكة العربية السورية في ميسلون على مشارف دمشق. وفي 1 سبتمبر من نفس السنة، تم إعلان إنشاء دولة لبنان الكبرى، لتصبح أهم المقاطعات التي قسم بها الفرنسيون سوريا. وأخيراً، في ديسمبر 1922 أصدرت عصبة الأمم شروط الانتداب البريطاني لفلسطين. وو أعلنت مسئوليتها عن تنفيذ "وعد بلفور"، الذي يعلن التزامه بـ"إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين".

في كل النواحي تقريباً، كان تقرير (كنج كرين) مجرد حبر على ورق. ولم تتحقق الدولة السورية الكبرى المستقلة التي دعت إليها. وبدلاً من ذلك، تم استبدال الدولة المقترحة بوحدات سياسية أصغر تحت الحكم الأوروبي. (كانت سوريا ذاتها، التي وضعت مثل لبنان تحت الانتداب الفرنسي، مقسمة حتى منتصف عشرينيات القرن العشرين إلى دويلات على أسس طائفية أو إقليمية). وبالمثل، تم تجاهل مخاوف التقرير بشأن الأنشطة الصهيونية في فلسطين. وربما ليس من المستغرب في ضوء كل هذا أن يرى العديد من المؤرخين اللاحقين التقرير مثالاً لآمال وإخفاقات سنوات ما بعد الحرب.

بعد قرن تقريباً منذ نشر التقرير لأول مرة، كان أكثر ما يزعج قراء التقرير هو مسألة "دقته"، التي شكلت أهمية مركزية بالنسبة لطموحات المفوضين العلمية. فانتشرت الإتهامات ضد بعض مؤلفيه كـ تشارلز كرين على وجه الخصوص بمعاداة السامية والعداء الواضح تجاه الأفعال الأوروبية والصهيونية التي شوهت تقديراته.

غير أن آخرين قرأوا التقرير بشكل مختلف إلى حد ما. كالمؤرخ اللبناني الفلسطيني والناشط السياسي جورج أنطونيوس، كما عبر فى كتابه يقظة العرب (1938)، "المصدر الوحيد الذي يمكن للمؤرخ أن يقرأه كتحليل نزيه وموضوعي تماماً لحالة الشعور في الأوساط السياسية العربية" بعد الحرب العالمية الأولى. وعلى سبيل المثال، لا يشك أسامة مقدسي في أهمية التقرير ودقته. في روايته عن العلاقات العربية الأميركية في عام 2010، وصف مقدسي التقرير بأنه يقدم "تفاصيل غير عادية على وجه التحديد لما يريده الشعب السوري، بما في ذلك لبنان وفلسطين، في الغالبية العظمى من أفراده." وبالنسبة لهؤلاء المؤرخين، فإن تجاهل القوى العظمى لنتائج التقرير هو من أعراض العملية الأوسع نطاقا التي"تجاهلت و سرقت الديمقراطية من العرب" من قِبل الإمبرياليين الأوروبيين الذين لا يبالون بالمطالب المحلية.

بالنسبة لهؤلاء الباحثين، كما قال أندرو باتريك في كتابه "الملك كرين"، فإن عمل اللجنة يمثل "ماذا لو" عظيمة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث." ماذا لو كان الحلفاء قد استمعوا إلى العرب؟ و ماذا لو سمح مؤتمر السلام لفيصل بالبقاء على عرش مملكة عربية ديمقراطية ضمت لبنان وفلسطين؟ ماذا لو فعلت القوى العظمى المزيد لوقف الاستعمار الصهيوني، متجاهلة إعلان بلفور؟ و ماذا لو كانت الولايات المتحدة قد قبلت تفويضاً عبر المنطقة؟"

إن مثل هذه الافتراضات المقابلة، في نظر أنصار مدرسة "ماذا لو"، تقدم لنا لمحة مذهلة عن مستقبل آخر. فهي تقدم تاريخاً مختلفاً، حيث كان من الممكن تجنب قرن من الصراع الإقليمي، وربما كانت الولايات المتحدة قد لعبت حقاً دور الحَكّم العدّل.

ولكن حتى بعض المؤرخين في الشرق الأوسط اعتبروا هذه التساؤلات موضع جدل. كان عمل اللجنة، في استنتاجات جيمس جيلفين الواضحة، "محكوما عليه بالفشل منذ البداية." ومهما كانت آراء أعضائها، ومهما كانت آراء محاوريهم، لم تكن لديهم فرصة كبيرة لتغيير النظام الإقليمي الجديد الذي تم التوصل إليه بالفعل في مؤتمر السلام. فمن الأفضل إذن أن نركز على ما تنبئنا به هذه الواقعة عن وجهات النظر الأميركية في النظام الدولي، والعرق، وبناء الأمة، وعن فعالية اللجان الدولية

يقول جيلفين: "في الدبلوماسية، كما في الفيزياء، لا وجود لمراقبين محايدين."و بعبارة أخري، إن مجرد محاولات جمع الرأى تشكل ذلك الرأي ؛ فالأسئلة -وهوية السائل- تحدد الإجابات.

فقد افترض المفوضون الأميركيون والحكومة العربية في دمشق أن الرأي العام الوحيد الذي أُخذ في الاعتبار هو رأي شرائح المجتمع  المستنيرة " المجتمع المطلع". وقد أدى هذا الافتراض عن غير قصد إلى فشل تصورات المملكة العربية السورية. وبما أن فكر "النخب" القومية في سوريا كانت موجه نحو أوروبا و توصيات مؤتمر السلام … حيث صمموا مؤسسات وحملات دعائية بغرض تقديم صورة إلى الجمهور الخارجي عن مدى تطورهم و استنارتهم؛ ورغم ذلك فإن نفس أهل النخبة لم يكلفوا أنفسهم عناء القيام بالمهمة الأكثر صعوبة المتمثلة في إعطاء "غير المنتمين إلى النخبة" حصة ذات مغزى مشروعة "في مشروعهم القومي".

ومن ناحية أخرى، فإن السؤال الرئيسي بالنسبة لـ باتريك "ليس لماذا فشلت اللجنة أو حتى ما قاله محاوروها، بل لماذا توصل أعضاء اللجنة إلى النتائج التي توصل إليها كل منهم." و هو يجادل بأن هذا لم يكن له علاقة بما قيل لهم بقدر ما كان له علاقة بمواقفهم السابقة بشأن النظام الدولي، ومكانة الولايات المتحدة داخل ذلك النظام، وقدرة الشعوب غير الأوروبية على التحول إلى نظام الحداثة، وبالتالي إلى مستوى تولي مهمة السيادة على شؤونهم الخاصة.

ويُحسَب لـ باتريك أنه ينظر على الأقل إلى الالتماسات المقدمة إلى اللجنة على أنها تعبير عن "خيارات سياسية مشروعة." ولكن اهتمامه بالمعايير التي حملها المفوضون معهم قاده إلى تجاهل نصوص السكان الأصليين ببساطة. ويخلص إلى أن هذه لا تسفر في نهاية المطاف إلا عن "القليل من المعلومات الجديدة". إنه ليس وحده في التعبير عن هذا الرأي. حيث يرى المؤرخ الاجتماعي مايكل رايمر أن "خطاب الإلتماسات" كان موحداً بشكل يدعو للملل؛ فهي في أغلبها تقدم الأدلة فقط على قدرة الحكومة العربية "على تحقيق مظهر مبهر للجميع". ولكن من الممكن تماماً -كما أظهر عمل لوري آلن بشأن اللجان الدولية وقضية فلسطين -القبول بأن عمل هذه الهيئات يتشكل وفقا للميول المعرفية والإيديولوجية لأعضائها، مع أخذ ادعاءات المشاركين وحججهم بجدية. من ناحية، أظهر آلن، "أن العاطفة التى كانت مسيطرة" على هؤلاء الأعضاء "دليلاً حاسماً، و تقرأ لنا المؤثرات التى تعروا لها للتصرف على طريقتهم." و سعى أعضاء لجنة كنج كرين، شأنهم شأن أعضاء هيئات التحقيق اللاحقة،  للحصول علي أدلة مؤثرة. فقد شرعوا في قياس "التعاطف، والغضب، والشفقة، والمعاناة" بين الفلسطينيين والعرب، واستقصاء عمق "الحماسة القومية" المحلية.

على النقيض من ذلك، جادل آلن في موضع آخر، بسعى المحاورين العرب لتقديم مبادئ "سياسية" وأخلاقية "، وحجج معللة، وأدلة قانونية، وبيانات … " في عام 1919، حيث رفض المستجيبون العرب على وجه التحديد الاستعمار الصهيوني. ولقد فعلوا ذلك لأنهم اعتبروا أن التفرد اللغوي والثقافي والاقتصادي للصهيونية" يشكل خطراً على أخلاقيات التسامح الديني والشمولية الاجتماعية فى المنطقة" التي تكمن في صميم قوميتهم العربية، مع تأكيدهم على الوفاق الطائفي وحقوق الأقليات.

وعلى هذا، فعلى الرغم من كل النوايا الطيبة المزعومة لأعضاء لجنة كنج كرين، إلا أن نواياهم كانت في النهاية عبارة عن حوار للصمَ. وكان اهتمام أعضاء اللجنة ينصب أساسا بالموازنة بين  مشاعر"الأصالة" و "العمق" للسكان الأصليين؛ و على الجانب الآخر تبنى محاوروهم العرب جانب وعي ذاتي بلغة الحقوق والعقل.

والمسافة بين هذين الموقفين تساعد في تفسير الأسباب التي أدت إلى إحباط المطالبات العربية في كثير من الأحيان. وهذا يفسر أيضاً لماذا تم رفض مطالبهم باعتبارها غير عقلانية وتفتقر إلى أساس حقيقي في المشاعر الشعبية.

ربما هناك بعض المفارقة المريرة في حقيقة أن رواية "حدود مصطنعة" التي طورها أولاً المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون لرفض المطالب العربية بتقرير المصير، كان ينبغي إحياؤها من قبل المحافظين الجدد العازمين على إلغاء تسوية ما بعد الحرب وإنشاء شرق أوسط جديد. ولكن هذه المفارقة لا تقدم سوى القليل من العزاء في مواجهة جاذبية هذا السرد الذي يروق للمعلقين وصناع السياسات. ففي الواقع، يبدو أن هذا السرد الأخير جذاب لدرجة أنه لا يأبه بالأدلة المعروضة في الأرشيف، ليس أقلها تلك الخاصة بلجنة كينج كرين. فهنا يمكن العثور ليس فقط على مطالب "الاستقلال السياسي الكامل" وتوحيد سوريا - مثل ذلك من نادي عمان العربي - ولكن أيضًا التماسات لإنشاء دولتين عراقية ولبنانية مستقلتين.

وأحد الالتماسات، على سبيل المثال، تدعو إلى إنشاء دولة عراقية مستقلة، تحكم على خطوط "مدنية، دستورية، ملكية" وتشمل "محافظات ديار بكر، الموصل، بغداد، البصرة، ودير الزور، ضمن حدودها المعروفة في الماضي." وهذا يدل على أن العراق لم يكن مجرد اختراع إمبريالى مشؤوم لا سابقة له ولا معنى على الصعيد المحلي. وبنفس الأهمية، فإن هذا النص بمثابة دليل على أن تصورات السكان وقتها للدولة الجديدة يمكن أن تكون أكثر شمولية من تصورات المسؤولين البريطانيين في لندن وبغداد ودلهي، حيث امتدت الدولة المقترحة إلى أجزاء مما يعرف الآن بتركيا وسوريا.

وهناك التماس آخر، من أهالي قرية كورا، حيث فوضوا الممثلين اللبنانيين في مؤتمر السلام "بالمطالبة نيابة عنّا.. بالاستقلال الإداري والسياسي الكامل لجبل لبنان ضمن حدوده الجغرافية والتاريخية." ومثل نظيرتها العراقية، قدمت هذه العريضة مطالب وحدوية، مصرة على أن تعيد اللجنة وادي البقاع الخصيب، الذي يقع خارج حدود جبل لبنان العثماني، إلى الدولة اللبنانية الجديدة. لكنه يُظهر أيضاً فهماً معقداً للقوة العالمية وطريقة عمل النظام الدولي الجديد الذي نشأ في باريس.

يمكن رؤية هذا الفهم للنظام العالمي في النداء الذي وجهه الالتماس إلى "مؤتمر السلام"، و "عصبة الأمم"، و "اللجنة الدولية المرسلة إلى هذه البلدان" لتحديد حقيقة الأمر، تلك الإلتماسات الثلاثة التى غرضها الأساسي منح لبنان نفس وضع "كل البلدان المستقلة الأخرى" في مختلف أنحاء العالم. ومن الجدير بالذكر انه لم تتطرق أياً من تلك الإلتماسات الثلاثة -او حتى ذكَروا، ويلسون نفسه. بل لقد صوروا بدلاً من ذلك نظاماً دولياً مبنياً على المعايير والمثل العليا والمؤسسات، وليس على الجاذبية الكاريزمية والخطب الرنانة.

فعند قراءة أعمال لجنة كنج كرين قد يكسب المرء انطباعاً بأن رأي الأغلبية هو الرأي الوحيد الشرعي: وأن المطالب بدولة سورية كانت دستورية وأصيلة، في حين أن تلك المطالبة باستقلال لبنان كانت بطريقة ما نتاجاً لوعي زائف. لكن هذه الالتماسات، كما أقترح، تحكي قصة مختلفة. فهي في مجموعها تقدم شعوراً واضحاً لمجموعة الرؤى الوطنية التي كانت حية في الشرق الأوسط منذ قرن من الزمان.

هذه الالتماسات الثلاثة تعطينا لمحة عن مستقبل آخر، وذلك لأن رؤاهم لسوريا ولبنان والعراق لم تكن تلك الرؤى التي تحققت بالفعل. ولا تتحدث الإلتماسات الثلاثة عن اصطناع أو اشتقاق دول بل عن ارتباط السكان الأصليين العميق بتقرير المصير والاستقلال الوطني. لقد حان الوقت لكي نصغي بمزيد من الاهتمام.

المقال الثانى من سلسلة بعنوان " كيف شكلت معاهدة فرساى العالم الحديث" منشور في مجلة publicbooks.

قد تُعجبك هذه المشاركات