تاريخ الإنفلونسر، من شكسبير حتى إنستجرام

تاريخ الإنفلونسر، من شكسبير حتى إنستجرام

المحتويات [إظهار]



في أواخر العام الماضي، حددت صحيفة ديلي ميل رالفي وابلنجتون بأنه "أصغر انفلونسر بالسوشيال ميديا في بريطانيا". رالفي -الذي يبلغ من العمر عامين- لديه عشرون ألف متابع على (إنستجرام). وفي معظم حياته القصيرة، يعمل كموديل لملابس الأطفال وغيرها من أدوات الرضع. ويقوم والداه بتصويره وفقاً للمنتجات التي يتلقونها من شركاء تجاريين للإعلان عنها؛ ويجب على أفراد أسرته الحصول على موافقة والديه قبل نشر صورهم الخاصة مع رالفي، خشية أن تضر صورة خارج السياق بعلامته التجارية.

رالفي لطيف جداً بلاشك. ولكن لطافته و جاذبيته  تلك تضاعف شعورنا بعدم الارتياح الذي نشعر به كلما تأملنا في الانفلونسرز (المؤثرين) ومهنتهم. الـ "إنفلونسر (المؤثر)" هي عبارة  تجارية تصف الشخص الذي يقوم فى معظم الأحيان بتحويل الشخص الذي يقوم بمتابعته على الإنترنت إلى نقود للشركات من خلال ترويجه و تأييده لمنتجات أو خدمات بعينها، فهو -المتحدث المشهور- في عصر وسائل الإعلام الاجتماعية. ومع ذلك كلمة "إنفلونسر" تبدو شريرة بعض الشيء.. فيمكن أن يكون الإنفلونسر هو باتمان، جنباً إلى جنب مع الجوكر. وليس من قبيل المصادفة أن يدخل المصطلح المعجم في نفس اللحظة التي أصبح فيها التأثير سلاحا جيوسياسياً ذا أبعاد غير مسبوقة. إن الإنفلونسر لديه شخصية مزدوجة مخيفة أحدهما تعمل سراً على إختراق وصياغة الخطاب السياسي للمجتمع. وكلا الشخصيتين تزدهر في عالمنا المترابط بشكل متزايد، حيث التأثير الرقمي سلاح ذو حدين وسلعة قابلة للبيع تهدد ديمقراطيتنا، وأيضاً حلم تجاري وكابوس سياسي.

التواصل هو الأساس للدور المتزايد الذي يلعبه التأثير الآن في حياتنا. فالتكنولوجيات الرقمية تمسح الحدود بين الناس تخلق إمكانية الاختراق إلى حياتنا و بيوتنا، وهو الشئ الذي يعتمد عليه الإنفلونسرز. كلمة "تأثير - influence" مشتقة من الكلمة اللاتينية التي تعني "التدفق - inflow"، والتي تقدم لنا صورة للطريقة التي تتدفق بها أفكارنا بعقول بعضنا البعض في كل ثانية. ونفس الصورة تثير قلقنا إزاء اختراق دول أجنبية معادية لدفاعاتنا. التأثير يشكل تحدياً للسيادة، السياسية والشخصية على حد سواء ؛ أن نعترف بأننا متأثرون هو أن نتخلى عن الفكرة الجذابة التي توهمنا ، كأفراد أو مجتمعات، بأننا مستقلون تماماً.

وطبيعة التأثير المراوغة -وهي الصعوبة التي نواجهها عندما نحاول تحديد مصادره او قياس آثاره- مزعزعة للإستقرار أيضاً. إن التأثير يعمل بشكل أفضل عندما يتم استخدامه بشكل غامض ، في الظلال وخلف الكواليس ، وهذا له عواقب إجتماعية واضحة على المجتمع المنخرط في بناء إقتصاد ذو تأثير رقمي. وبناءً علي الأدلة المتاحة، يبدو الأمر وكأننا لا نستطيع بناء اقتصاد تأثير بدون أن نؤجج ثقافة جنون الشك. والخوف أيضاً من التأثر يؤثر في إدراكنا للواقع وقدرتنا على الثقة بأحكامنا الخاصة بشأن ما هو صحيح. إن قراصنة الانتخابات والمؤثرين التجاريين يسعون إلى تحقيق أهداف مختلفة إلى حد كبير، ولكن كليهما يساهم في عقيدة عصرنا غير الواقعية ، حيث أصبحت لغة الزخرفة والتضليل والخنوع أساسية في تفسير العالم.

التأثير كان مقلقًا حتى قبل أن يصبح رقميًا بوقت طويل. تظهر كلمة "التأثير" في ربع مسرحيات ويليام شكسبير، حيث نادراً ما تكون حالة التأثر سعيدة أو كريمة. وبدون إستثناء  تقريباً، كان شكسبير يخلق فى حالة التأثر فلك ظلامي محيط به. في مسرحية "العين بالعين"، يجادل فينسنتو بأنه من المضلل الخوف من الموت، لأنه لا مفر بأن تكون الحياة البشرية "خاضعة لكل التأثيرات السماوية" التي "تصيب هذه الأرض كل ساعة". ومن ناحية أخرى، كثيراً ما يسخر الفانون المؤثرون من أولئك المعرضين للتأثير. بارولز ، الجندي المبتذل، الذي لا يمكن الثقة به أو الاعتماد عليه في مسرحية "العبرة بالخواتيم"،  يشجع الكونت الشاب برترام على استغلال منصبه في المحكمة، المكتظة بالمشاهدين، كما يقول بارولز، من قِبَل أولئك الذين "يأكلون ، يتحدثون ، ويتحركون ، تحت تأثير النجم الأكثر شهرة". "(اليوم، كما نعلم، لا تزال كلمة" نجم "تصف شخصا يمتلك تأثيراً غير عادي.)

قد يبدو تصوير شكسبير للتأثير عفا عليه الزمن، ولكن له صدى مقلق في حقيقة أن التأثير على الإنترنت، في نواح عديدة، ليس موجهاً من قبل بشر. إن الخوارزميات التي تملي مقاطع الفيديو الموصى بها من قبل يوتيوب ، أو المحركات الخفية التي تعطي الأولوية لبعض مواقع التواصل الاجتماعي على غيرها، تشكل المعادل الرقمي لتأثيرات شكسبير البعيدة "السخوية". حيث أجندة أعمالها غير معروفة وقابلة للتغيير في أى وقت؛ وحتى المؤثرين على وسائل الإعلام الاجتماعية يخضعون لأهواء الخوارزميات ، كما لو كانوا يخدمون آلهة ذوو مزاجات متقلبة.

 عند شكسبير، التأثر مرتبط بنوع من الخنوع اللاعقلاني. والواقع أن رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غراي" التي صدرت عام 1890، تتبني وجهة نظر مقلقة أكثر. إن المؤثر غير المسؤول في الرواية ، اللورد هنري، الذي أقنع دوريان بالعديد من "النظريات الخاطئة ، الرائعة ، السامة ، المبهجة" ، يعترف أيضاً بأن " التأثير هو عمل غير أخلاقي… للتأثير على شخص هو أن تعطيه روح شخص آخر. فهو لا يفكر بأفكاره الطبيعية، ولا يحترق بعواطفه الطبيعية. وفضائله ليست حقيقية بالنسبة إليه، خطاياه -إذا كان هناك أشياء مثل الخطايا- هي مستعارة".  في رواية وايلد، أن تكون متأثراً هو أن تكون مهميناً عليك من قبل شخص آخر. و هو بتعبير آخر أن تعانى من حالة كسوف لشخصيتك الحقيقية ككسوف الشمس عندما يحجبها عنّا القمر.

ومن بين أمور أخرى، تدعونا "صورة دوريان غراي" إلى التفكير في الكيفية التي يمكن بها للتأثير، مع تزايد انتشاره، أن يخلق جواً أوسع من الخنوع. ويصف اللورد هنري الشخص المتأثر بأنه شخص لم تعد له هوية حقيقية؛ فدوافع هذا الشخص غير حقيقية وغير طبيعية لأنها ناشئة عن شخص آخر. ولكن الديناميكية الحميمة التي تتكشف بين المؤثر والمتأثر تعني أن كلا الطرفين يصبحان، بمعنى ما، غير حقيقيين. قد يحترق الشخص المتأثر بعواطف شخص آخر، ولكن أصالة المؤثر تصبح موضع شك أيضاً. من الممكن نظريًا لممارس لرياضة التزلج على اليوتيوب أن يحب ويعلن عن نوع معين من ألواح التزلج في آن واحد، ولكن في الواقع العملي، مجرد وجود الدافع المالي لا يساعد إلا في إعادة ضبط أو كبح أي حماس حقيقي قد يكون موجوداً. وبهذا المعنى، يؤثر المؤثرون على أنفسهم.

في عام 2017، أصدرت لجنة التجارة الفيدرالية مبادئ توجيهية تدعو مؤثري وسائل الإعلام الاجتماعية إلى أن يصبحوا أكثر شفافية بشأن علاقاتهم مع الشركات. واقترحت اللجنة "تجنب الوسم الغامض مثل #شكراً، #SP أو #collab أو #سفير"." فالشفافية مهمة. ولسوء الحظ، تتناقض الشفافية مع أغراض التأثير، الذي هو قوي تحديداً لأنه غامض. ويترتب على هذا الغموض، في المجالين السياسي والتجاري، أثر مزعزع. فبدأنا نطرح على أنفسنا أسئلة مثل: هل لمحت هذه القصة في آخر الأخبار من مصدر موثوق به؟ هل تمت كتابة توصية المنتج بواسطة مستهلك حقيقي أم متحدث مشهور مدفوع له من الشركة؟ لماذا أريد ما أريد؟ لماذا أتمسك بالمعتقدات السياسية التي أتمسك بها؟ وهذه الامور المجهولة بدورها تثير تساؤلاً أكثر حيرة: ماذا يعني أن يكون لدينا رأي غير ناضج و لكنه حقيقي وصادق؟ إن المعرفة بأن التأثير هو المحرك الرئيسي للحياة العامة تزيد من سخطنا تجاه الآخرين وتجاه أنفسنا.

في الآونة الأخيرة، بدأت ظاهرة التأثير في التحول بطرق مفاجئة. ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، نشرت صحيفة ذا أتلانتيك تقريراً عن أشخاص يستخدمون محتوى وسائل الإعلام الاجتماعية الخاصة بهم على النحو الذي يجعله يبدو وكأن شركات ترعاهم. فهم يلتقطون صورهم لخلق وهم توظيف تلك المنتجات لهم، على أمل أن تساعد تلك العلاقات الوهمية مع العلامات التجارية في بناء الحالة المطلوبة لتأمين وتوفير علامات تجارية حقيقية. يقلدون فى محتواهم نبرة الحماس الفريدة للمؤثر المتعاقد مع أحد الشركات بالفعل، والتي تضخ هواء من الامتنان المفاجئ في ترويج منتج تم التفاوض عليه بعناية. ومن الأمثلة على ذلك في مقال ذا أتلانتيك هي سيدني بوخ، أحد المؤثرين على نمط الحياة، التي تصف التقاط صورة للقهوة التي اشترتها للتو، ثم تعلق عليها بإعلان حب قهوة ألفريد.

ومن ناحية أخرى، في العام الماضي، بدأت تقارير إخبارية تظهر حول قيام مخترقين\هاكرز يستولون على حسابات المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ويتقاضون منهم مبالغ مالية مقابل إسترجاعها. البلوجر كاسي غاليغوس فقدت السيطرة على صفحتها الشخصية على إنستجرام في واحدة من هذه الهجمات. ولم تتمكن إنستجرام من التدخل، لذا فقد دفعت ما يزيد قليلاً على مائة دولار لهؤلاء القراصنة، الذين اختفوا بعد ذلك، فضلاً عن حسابها الذي يقرب من ستين ألف متابع. فتاريخيا، كان التأثير يُنظَر إليه باعتباره قوة غامضة وغير ملموسة،  ولكن بالنسبة للتأثير على وسائل الإعلام الاجتماعية ، فإنه ملموس بشكل مدهش. وهو موجود في أرشيف من الصور والفيديوهات والنصوص ، التي يتم ربط المتابعين القيمين بها رقميا. التكنولوجيات التي سهلت ازدهار التأثير و بلورته، حولته أيضاً إلى جوهرة رقمية يمكن سرقتها

لقد أصبحت فكرة التأثير و النفوذ أكثر صلابة بالنسبة لبقيتنا أيضاً. من خلال تطور فهمنا، نحن على يقين من أن الناس والشركات القوية تحاول التأثير علينا. وكرد فعل، قد نميل إلى تعزيز شعور باستقلال شرس، شعور لا تغيره الأجندات الخارجية. لكنَّ المشكلة هي أن مقاومة تأثير الآخرين بإخلاص يمكن أن تتحول إلى نوع من الإستبداد الروحي. عند شكسبير، الشخصيات غير السارة، مثل بارولز، هي التي تسخر من انطباعات الآخرين. ففي مسرحية "الملك لير"، يقول الابن غير الشرعي إدموند إن إلقاء اللوم على التأثيرات الفلكية عن السلوك السيئ أمر "أحمق". يقول: "كان ينبغي لي أن أكون أنا كذلك". ويقول، "حتى لو كان أطهر النجوم هو الذي يتلألأ فى السماء ساعة حملتنى أمى لكنت كما أنا عليه فى كل شئ" هناك غرور في هذا الرأي بشأن تقرير المصير المنعزل، وهو التعنت الذي هو السمة المميزة لمناخنا السياسي المستقطب.

في أحد تغريداته، وصف البابا فرانسيس السيدة مريم العذراء بـ "المؤثرة الأولى"، مشجعاً الآخرين على إتباع قدوتها المباركة من خلال نشر كلمة الله. وكما يذكرنا تعبير فرانسيس العصري المميز، فإن التأثير ليس من الضروري أن يتماشى مع مصالح الشركات. هناك طرق إيجابية للتأثير على الناس. الإستغلال التجاري للتأثير لا يفتأ أن يشكل إفساداً حتى للعمليات الأكثر رفعة التي يمكننا من خلالها أن نؤثر ونلهم بعضنا بعضاً. والتحدي المستمر الذي يواجهنا يتمثل في التفاوض على صفات عدم الأصالة والسخرية من حاجات الآخرين المتأصلين في اقتصاد التأثير، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قدرتنا على أن نكون حقيقيين وواقعيين، وربما أن نتغير إلى الأفضل ،  بفضل الأفكار الغريبة للآخرين.

مترجم من مجلة نيويروكر للكاتب لورانس سكوت 


قد تُعجبك هذه المشاركات