المحتويات [إظهار]
سافر أفلاطون إلى بلاط سرقوسة التي مزقتها الصراعات ثلاث مرات ، خاطر بحياته لخلق ملك فيلسوف.
في عام 388 قبل الميلاد، كان أفلاطون يناهز الأربعين. عاش أفلاطون انقلاباً أثينياً عام 411 ق.م من النخبة الأثينية على الديمقراطية تدعو لحكم القِلة معروفة بحكم الأربعمائة، ثم حضر عملية استعادة الديمقراطية، وإعدام معلمه الحبيب سقراط على يد لجنة من زملائه الأثينيين. في شبابه، فكر أفلاطون بجدية في الدخول إلى السياسة المضطربة في أثينا، لكنه قرر أن إصلاحاته المتصورة لدستور المدينة والممارسات التعليمية كانت من غير المرجح لها أن تتحقق. كرّس نفسه بدلاً من ذلك للسعي نحو تحقيق الفلسفة، ولكنه احتفظ باهتمام جوهري بالسياسة ، وربما تطور الأمر في نهاية المطاف إلى أشهر صيغه: أن العدالة السياسية والسعادة البشرية تتطلب من الملوك أن يصبحوا فلاسفة أو فلاسفة لكي يصبحوا ملوكاً.. و مع اقتراب أفلاطون من سن الأربعين، زار ميغارا، مصر، قورينا، جنوب إيطاليا، والأهم من ذلك، مدينة سرقوسة الناطقة باللغة اليونانية، مدينة صغيرة في جزيرة صقلية.
في سرقوسة، التقى أفلاطون بشاب قوي وفلسفي التفكير يدعى ديون، صهر مستبد سرقوسة المنحط و المجنون ديونيسيوس الأول، سيصبح ديون صديقاً وصديق مراسلة مدى الحياة. وكان هذا الارتباط سبباً في توصل أفلاطون إلى البلاط الداخلي للسياسة في سرقوسة، وهنا قرر أفلاطون أن يختبر نظريته التي تقول إن تحويل الملوك إلى فلاسفة ـ أو تحويل الفلاسفة إلى ملوك ـ من الممكن أن يتسبب فى إزدهار العدالة والسعادة أخيراً.
اشتهرت سرقوسة بالفساد والفسق، وسرعان ما اصطدمت قناعة أفلاطون بحقائق الحياة السياسية في صقلية. كانت بلاط سرقوسة يعج بالشك والعنف والهيمنة. و مهووسًا بفكرة احتمالية اغتياله، رفض ديونيسيوس الأول أن يقص شعره بسكين، بدلاً من ذلك اختار أن يغذيه بالفحم. وأجبر الزوار -حتى ابنه ديونيسيوس الثاني وشقيقه ليبتينس- على إثبات أنهم كانوا غير مسلحين من خلال تجريدهم من ملابسهم بالكامل وتفتيشهم وإجبارهم على تغيير ملابسهم. لقد قتل القائد الذي كان يحلم بقتله، و قتل الجندي الذي أخذ رمح ليبتينس ليرسم خريطة على الرمال. وكان لهذا كله كان مرشحاً غير مناسب للفوز بلقب ملك فلسفي.
لم تنجح جهود أفلاطون. حيث أغضب ديونيسيوس الأول بنقده الفلسفي للحياة الفاحشة زيادة عن الحد للبلاط السرقوسي، قائلاً أنه بدلاً من العربدة والخمر، يحتاج المرء إلى العدالة والاعتدال لإنتاج السعادة الحقيقية. مهما كانت حياة الطاغية ، إذا سيطر عليها استيعاب لا ينضب من متع حسية شهوانية، فإنه يبقى عبداً لمشاعره. لقد علّم أفلاطون الطاغية أكثر من ذلك: إن الإنسان المستعبد لشخص آخر يمكن أن يحافظ على السعادة إذا امتلك روحًا عادلة وحسنة التنظيم. انتهت أول زيارة لأفلاطون إلى صقلية بمفارقة كوميدية سوداء: ديونيسيوس الأول باع الفيلسوف للعبودية. فقد تصور أنه إذا كان اعتقاد أفلاطون صحيحاً، فإن استعباده سيكون مسألة غير مهمة لأنه، على حد تعبير كاتب السيرة اليوناني بلوتارخ، "بالطبع، لن يؤذي ذلك أفلاطون، لكونه نفس الرجل الذي يمتلك روحاً عادلة مُرتّبة كما كان من قبل ؛ سيستمتع بهذه السعادة، على الرغم من أنه فقد حريته."
لحسن الحظ، سرعان ما تم افتداء أفلاطون من قبل أصدقاءه. و عاد إلى أثينا لتأسيس الأكاديمية، حيث يرجح وقتها أنه أنتج العديد من أعظم أعماله، بما في ذلك الجمهورية و المأدبة. لكن انخراطه في السياسة الصقلية استمر. عاد إلى سرقوسة مرتين، في محاولة منه للتأثير على عقل وشخصية ديونيسيوس الثاني.
غالباً ما نغفل هذه الرحلات الثلاث أثناء محاولة فهمنا لفلسفة أفلاطون أو يتم رفضها باعتبارها اختراعات لكتاب السيرة المتأخرين لغرض البيع. إلا أن هذا خطأ يتجاهل الأهمية الفلسفية لرحلات أفلاطون الإيطالية. والواقع أن رحلاته الثلاث إلى صقلية تكشف أن المعرفة الفلسفية الحقيقية تستلزم العمل بها؛ وتظهر قوة الصداقة الهائلة في حياة أفلاطون وفلسفته ؛ ويقترحون أن أطروحة الملك الفيلسوف لأفلاطون ليست كاذبة بقدر ما هي ناقصة.
يتم التعبير عن هذه الأحداث الرئيسية بشكل مقنع في الرسالة السابعة لأفلاطون التي غالباً ما يتم تجاهلها. أثبتت الرسالة السابعة أنها لغزاً للعلماء منذ عظماء علماء اللغة الألمان في القرن التاسع عشر على الأقل. في حين أن غالبية العلماء قد قبلوا أصالتها، إلا أن قلة منهم أعطوا نظرية العمل السياسي مكانة بارزة في تفسير أفلاطون و فلسفته. في العقود الثلاثة الماضية، تحرك بعض الباحثين لإستبعادها من الفلسفة الأفلاطونية، حيث وصفتها أكسفورد بأنها الرسالة السابعة الأفلاطونية الزائفة (2015). فكل عصر له أفلاطون خاص به، وربما كان من المنطقي، نظراً للسكينة غير السياسية التي يتسم بها العديد من الأكاديميين، أن يهمل الأكاديميون المعاصرون غالباً مناقشة أفلاطون للعمل السياسي. ومع ذلك، فإن معظم العلماء -حتى أولئك الذين أرادوا أن تكون الرسالة مزورة -وجدوا الرسالة أصلية، استنادا إلى أدلة تاريخية وأسلوبية السرد. إذا عدنا إلى قصة رحلة أفلاطون الإيطالية، التي يرويها أفلاطون بنفسه في الرسالة السابعة، سنتمكن من إحياء أفلاطون التاريخي الذي خاطر بحياته من أجل توحيد الفلسفة والسلطة
في حين تركز الرسالة السابعة على قصة رحلات أفلاطون الثلاث إلى سرقوسة، فإنها تبدأ بملخص موجز عن حياته المبكرة. ومثل معظم أعضاء النخبة الأثينية، كان طموحه الأول هو الدخول في السياسة والحياة العامة. ولكن في عشرينيات أفلاطون، شهدت أثينا سلسلة من الثورات العنيفة، والتي بلغت ذروتها باستبعاد الديمقراطية وإعدام معلمه سقراط في عام 399 قبل الميلاد. حيث كتب أفلاطون: "في حين كنت في البداية متحمساً للحياة العامة، عندما لاحظت هذه التغييرات ورأيت كم كان كل شيء غير مستقر، شعرت في النهاية بنفور شديد." قرر أن الوقت كان فوضوياً جداً للقيام بعمل ذي معنى، لكنه لم يتخل عن الرغبة في الإنخراط في الحياة السياسية. بدلاً من ذلك، على حد تعبيره، كان "ينتظر الوقت المناسب". وكان أيضاً ينتظر الأصدقاء المناسبين.
عندما وصل افلاطون أول مرة الى صقلية، رحلة استغرقت على الأرجح أكثر من أسبوع في البحر الابيض المتوسط الوعر والخطير، لاحظ على الفور طريقة حياة سكان الجزيرة الفاحشة بإفراط و صُدم منها. حيث مع الأعياد الإيطالية يقضى شعب الجزيرة حياته في تناول الطعام مرتين في اليوم ولا ينام أى منهم وحده في الليل. "فى حياة كهذه، لا يمكن لأحد أن يصبح حكيماً" كما قال أفلاطون، إذ كانت الحياة تلك تركز أساساً على المتعة الحسية. إن مذهب المتعة الذي يركز على الحالة الشهوانية يخلق مجتمعاً خالياً من أى أساس لصلب المجتمع، مجتمع حيث يتم التضحية باستقرار الإعتدال في مقابل تدفق من الفائض الشهواني. كتب أفلاطون:
ولا يمكن لأي دولة أن تنعم بالهدوء، مهما كانت قوانينها جيدة، عندما يعتقد رجالها أنه يجب عليهم أن ينفقوا كل ما لديهم على الملذات، وأن يكونوا متساهلين في كل شيء فيما عدا حفلات الشرب وملذات الحب التي يسعون إليها بحماس مضني. فهذه الدول تتحول دائما إلى طغيان، أو حكم قلة، أو ديمقراطيات، في حين أن الحكام فيها لن يسمعوا حتى الإشارة إلى دستور عادل ومنصف.
و على الرغم من أن الدولة الصقلية كانت في حالة فوضى، إلا أن ديون صديق أفلاطون قدم له فرصة فريدة للتأثير على ملوك صقلية. لم يشارك ديون في "الحياة السعيدة" في البلاط. بدلاً من ذلك، وفقا لأفلاطون، عاش "حياته بطريقة مختلفة"، لأنه اختار "الفضيلة التي تستحق الإخلاص أكثر من المتعة وجميع أنواع الرفاهية الأخرى". في حين أننا اليوم قد لا نربط الصداقة بالفلسفة السياسية، فإن العديد من المفكرين القدامى يفهمون الصلة الحميمة بين الاثنين. ويعبر بلوتارخ ، وهو قارئ بارع لأفلاطون ، عن هذه الصلة بلطف:
الحب، الحماس، والمودة … والتي، على الرغم من أنها تبدو أكثر وضوحاً من الأواصر المتينة الناتجة من الشدة، إلا أنها أقوى وأطول الروابط للحفاظ على حكومة دائمة.
رأى أفلاطون في ديون "حماسة وانتباهاً لم ألتقهما قط في أي شاب". الفرصة لتمديد هذه الروابط إلى قمة السلطة السياسية ظهرت بعد عشرين عاماً، بعد أن نجا أفلاطون من العبودية و بعد موت ديونيسيوس الأول.
ديونيسيوس الثاني، ابن الطاغية الأكبر، لم يبدو من المرجح أن يصبح ملكاً فيلسوفاً. على الرغم من أن ديون أراد من صهره ديونيسيوس الأول أن يعطي ديونيسيوس الثاني تعليمًا ليبراليًا، إلا أن خوف الملك الأكبر من الخلع جعله مترددًا في الامتثال لذلك. فَقَدْ خَافَ أَنْ يقوم ٱبْنُهُ بالإطاحة به إِذَا نَالَ تَعْلِيمًا أَدَبِيًّا سَلِيمًا و تحدث بِٱنْتِظَامٍ إِلَى مُعَلِّمِينَ حَكَمَاءَ وَمُتَعَقِّلِينَ. لذلك أبقى ديونيسيوس الثاني محاصراً وغير متعلم. وفيما كان يكبر، كان رجال الحاشية يسقونه بالخمر و يحيطونه بالنساء. حيث أنه فى وقت من الأوقات قضى 90 يوماً في حالة سكر ورفض القيام بأي عمل رسمي، حيث كتب بلوتارخ: "كان الشراب والغناء والرقص والهرج يحكم هناك بلا سيطرة".
ومع ذلك، استخدم ديون كل نفوذه لإقناع الملك الشاب بدعوة أفلاطون إلى صقلية وأن يضع نفسه تحت إشراف الفيلسوف الأثيني. بدأ ديونيسيوس الثاني بإرسال رسائل إلى أفلاطون يحثه فيها على الزيارة، فأضاف ديون بالإضافة إلى العديد من الفلاسفة الفيثاغورثيين من جنوب إيطاليا توسلاتهم الخاصة. إلا أن وقتها كان أفلاطون يبلغ من العمر ما يقرب من الستين، ولابد وأن آخر تجربة له في السياسة السرقوسية جعلته عازفاً عن اختبار مصيره مرة أخرى. والواقع أن عدم الالتفات إلى هذه المناشدات كان ليصبح خياراً سهلاً ومفهوماً.
كتب ديون إلى أفلاطون أن هذه هي اللحظة المناسبة للتصرف، "إن كل آمالنا سوف تتحقق من رؤية نفس الشخصيتين في وقت واحد ملك فيلسوف لإحدى الولايات العظمى" كان أفلاطون أقل تفاؤلاً من ديون حول إمكانية تحويل ديونيسيوس الثاني إلى ملك فيلسوف، مستشهداً بتهور الشباب: "إن رغبات الشباب تتغير بسرعة وبشكل متكرر في اتجاه معاكس." وهذا الشك دليل على الشجاعة الأخلاقية التي اختارها للاضطلاع بهذا المسعى. على الرغم من تقييم أفلاطون أن النجاح كان غير مرجح، إلا أنه سعى لجعل الواقع ًفي هذا العالم موقفاً فلسفيا مدروساً بعناية. في الرسالة السابعة، يشرح: "إنني أميل في نهاية المطاف إلى وجهة النظر القائلة بأننا إذا حاولنا أخيراً أن ندرك نظرياتنا فيما يتصل بالقوانين والحكومة ، فإن الوقت قد حان لتنفيذها"
وقد شعر بدوافعين إضافيين: الرابطة الأخلاقية لصداقته مع ديون وضرورة عدم تشويه سمعة الفلسفة بالتخاذل عن أداء المهمة. حيث كتب في الرسالة السابعة:
لقد خرجت من المنزل خوفاً من لوم نفسي أكثر من كل شيء، خوفاً من أن أبدو لنفسي مجرد نظرية ولا أي فعل يتم عن طيب خاطر … لقد وضّحتُ نفسي من الشجب من جانب الفلسفة، ورأيت أنها كانت ستتعرض للعار إذا، بسبب ضعف الروح والتساهل، تكبدت العار من الجبن …
وهذا يكشف عن مفهوم للفلسفة تتضرر فيه "النظرية" بسبب عدم وجود "فعل" مماثل. وتتطلب شرعية الفلسفة اقتران المعرفة بالفعل.
عندما هبط أفلاطون في صقلية للمرة الثانية، في 367 قبل الميلاد، تم استقباله على الشاطئ بمركبة ملكية غنية مزخرفة. ضحى ديونيسيوس الثاني للآلهة في سبيل وصوله. كما كان المواطنون يأملون في حدوث إصلاح شامل وسريع للحكومة. بلوتارخ يلمح إلى أن ديونيسيوس الثاني قد أحرز بعض التقدم في الفلسفة:
التواضع.. هو الذي يحكم الآن في الولائم. مستبدهم نفسه يتصرف بلطف و إنسانية في جميع مسائل الحكم التي ظهرت أمامه. كان هناك شغف عام بالتفكير والفلسفة، حتى أن القصر نفسه، كما يقال، كان ممتلئا بالغبار بسبب طلاب الرياضيات الذين كانوا يناقشون معضلاتهم الرياضية هناك.
من الصعب قياس مدى قرب ديونيسيوس الثاني من حدوث تغيير حقيقي ودائم في شخصيته. يوضح بلوتارخ أن رجال الحاشية والمنافسين كانوا قلقين من تأثير أفلاطون لدرجة أنهم بدأوا في الطعن في دوافعه، مما يشير إلى أن ديون كان يستخدم الفيلسوف ببساطة كأداة لإقناع ديونيسيوس الثاني بالتخلي عن السلطة. اشتكى آخرون في سرقوسة من أنه في حين فشل الأثينيون في غزو صقلية بجيش خلال الحرب البيلوبونيسية، فقد نجحوا الآن في غزو سري من خلال سفسطائية رجل واحد: أفلاطون.
لم يكن بوسع منتقدي أفلاطون وديون أن يفهموا الفلسفة إلا من حيث الجوانب المادية ـ كوسيلة لتحقيق غاية تأمين النفوذ السياسي. لقد افترضوا مسبقاً أن القوة هي الخير الأعظم الذي يستطيع البشر أن ينعموا به. في هذا توقع توماس هوبز إدعاء في اللفياثان (1651) أن البشر لديهم "رغبة دائمة وقلقة في السلطة جراء السلطة ، لا تتوقف إلا عند الموت". ولكن بالنسبة لأفلاطون فإن القوة تشكل وسيلة محتملة لتحقيق منفعة أعلى وليست غاية. كما هو واضح في قصة الكهف في كتاب الجمهورية، فإن الفلاسفة مفتونون بجمال الأشكال: فهم يريدون البقاء في عالم الدوام والنقاء الذي يجدونه فى برجهم العالي. ويجب إجبارهم على العودة إلى ظلام وظلال الكهف ليس لأنه سيزيد من متعتهم الفردية إلى أقصى حد ، بل لأنه يعزز قوة المدينة ككل. لكنّ حاشية سرقوسة ربحوا ذلك اليوم. بعد أربعة أشهر من إقامة أفلاطون، اتهم ديونيسيوس الثاني ديون بالتآمر ضد البلاط و قام بنفيه. ديونيسيوس الثاني قضى الأيام في محاولة لكسب مديح أفلاطون، لكنه فى النهاية فشل في غرس الرغبة في الفلسفة داخله. بكلمات أفلاطون نفسه:
لقد تحملت كل هذا ، متمسكاً بالهدف الأساسي الذي جئت من أجله ، على أمل أن يأتي بطريقة ما راغباً في الحياة الفلسفية ؛ لكنني لم أتغلب على مقاومته.
و يمكن أن نقول أن الفيلسوف نزل إلى الظلام لكن الطاغية لم يصعد إلى النور، قام أفلاطون برحلته الأخيرة إلى صقلية عندما كان في السبعين من عمره تقريبًا. ومرة أخرى، أجبرته فلسفته على العمل. وقد أتيحت له الفرصة لمساعدة ديون، الذي كان قد نفاه ديونيسيوس الثاني، وربما كان لا يزال يأمل في أن رغبة الملك في الفلسفة سوف تستيقظ. هذه المرة جاءت الدعوة أيضا من أرخيتاس من تارينتوم، فيلسوف من جنوب إيطاليا. بعد حياة من المتاعب في سرقوسة، من العجيب أن أبحر أفلاطون مرة أخرى إلى صقلية، متحديًا البحر والقراصنة، وتولى منصبه في بلاط ديونيسيوس الثاني. ظل الملك مندهشاً بهالة الفلسفة، حتى أنه كتب عملاً عن أفكار أفلاطون الفلسفية (وإن كانت مليئة بسوء الفهم والسرقة الأدبية).
ولمعرفة ما إذا كان ديونيسيوس الثاني قد استعد أخيراً للقيام بممارسة الفلسفة ، اختبر أفلاطون الملك بالتشديد على الصعوبة الجذرية وتحول نمط الحياة الذي تنطوي عليه الفلسفة الحقيقية:
فأولئك الذين ليسوا في الواقع فلاسفة حقاً ولكنهم لا يملكون سوى طلاء للآراء، مثل الرجال الذين تسْمر الشمس أجسادهم، عندما يرون كم التعلم المطلوب وكم العمل الهائل، وكم يجب أن تكون حياتهم اليومية منظمة لتتناسب مع الموضوع الذي يسعون لتحقيقه، يستنتجون أن المهمة صعبة للغاية ؛ وهم محقين في ذلك، لأنهم ليسوا مجهزين لهذا المسعى.
فشل ديونيسيوس الثاني في نهاية المطاف في الاختبار لأنه كان يرغب في استخدام الفلسفة كوسيلة أخرى للسلطة. يستند اختبار أفلاطون إلى إيمانه الراسخ بممارسة الفلسفة -وليس استخدامها -وهو السعي الذي يستلزم التخلي عن المتعة الجسدية والقوة من أجل ذاتها. يصف أفلاطون هذا المسعى بالتفصيل:
وفقط عندما … يتم فرك الأسماء والتعاريف والتصورات البصرية وغيرها من المفاهيم باختبار بعضها البعض، حيث يقوم التلميذ والمعلم بطرد الأسئلة والإجابة عليها بحسن نية ودون حسد، عندئذ فقط، عندما يكون العقل والمعرفة على أقصى درجات الجهد البشري، يمكن أن ينيروا طبيعة أي شيء
ومرة أخرى، كان التناقض بين أفلاطون وهوبز مفيداً إلى حد كبير. في حين أن هوبز يأخذ سوء النية و "الحسد" كسمات لا يمكن القضاء عليها من الطبيعة البشرية، يرى أفلاطون القضاء عليها كشرط مسبق لممارسة الفلسفة وبالتالي لازدهار الإنسان.
لذلك لم يصبح ديونيسيوس الثاني ملكاً فلسفياً، وفي نهاية المطاف هلك ديون في الحرب الأهلية الدموية التي استهلكت سرقوسة في نهاية المطاف. رغبة ديونيسيوس في استخدام الفلسفة جعلته يسعى للمعرفة كهدف للعرض الاحتفالي وأداة للهيمنة. ولكن عندما طالب الفيلسوف بدلا من ذلك بإصلاح شامل لحياته وشخصيته، رفض.
في النهاية، ترسم لقاءات الفيلسوف والملك في صقلية خريطة كاملة على المشهد المجازي لكهف الجمهورية: ديونيسيوس الثاني يسعى إلى الصعود من ظل السياسة إلى الضوء الفلسفي في حين يخترق أفلاطون الطريق المعاكس، ويسقط من وضوح الفلسفة إلى ظلال السياسة. إن مجرد القول بأن أفلاطون فشل في تحويل ديونيسيوس الثاني إلى فيلسوف أمر مضلل. قد يكون من المعقول أكثر ملاحظة أن الملك نفسه فشل، ولكن حتى هذا يفرض مفهوم فردي مفرط لتكوين الشخصية على العصور القديمة. إن شخصية ديونيسيوس الثاني لم تكن ذاتية التكوين؛ وشكّله سوء تعليمه ، وأسلوب حياته الخفي ، وطبيعة المرتزقة الذين يحيطون به. إن إلقاء اللوم على أفلاطون لعدم قيامه على نحو إعجازي بإلغاء كل هذه التأثيرات أشبه بإفساد مظلة تعجز عن العمل كمظلة. لم يكن الأمر الأساسي بالنسبة لأفلاطون أنه حقق هدفه السياسي، بل أنه مارس الفلسفة الحقيقية.
وما زالت الرسالة السابعة تذكرنا بأن الفلسفة هي ممارسة وليست أداة. وكما كتب أفلاطون، فإن الفلسفة "ليست شيئًا يمكن وضعه في كلمات مثل العلوم الأخرى". بدلاً من ذلك، 'بعد تبادل طويل ومستمر بين المعلم والتلميذ، في السعي المشترك للموضوع، فجأة مثل ضوء يومض عندما تشتعل النار، فإنه يولد في النفس ويغذي نفسه على الفور. 'بدلا من النضال التنافسي والعزلة التي تميز الكثير من الحياة الأكاديمية المعاصرة، تتطلب الممارسة الفلسفية الصادقة الصداقات والتعاون المكرسة للنهوض بازدهار مجتمع بأكمله.
وبالنسبة لأفلاطون، ربما كان السبب الأقوى وراء ضرورة أن يكون الفلاسفة ملوكًا هو تمكينهم من التأثير على طبيعة التعليم. بعض مقترحات أفلاطون حول كيفية القيام بذلك في الجمهورية ليست مقنعة (على سبيل المثال، فكرة حرمان الأطفال من معرفة من هم آباؤهم حتى يصبح الشباب أكثر إذعاناً للمعلمين). ولكن التعليم باعتباره غرس الروح وممارسة الفلسفة ، الذي يستتبع القدرة على إخضاع "رغبة هوبز" الفردية في السلطة للسعي الجماعى إلى تحقيق العدالة ، يظل ضرورة ملحة.
وفي كتابه مولد التراجيديا (The Birth of Tragedy) (عام 1872)، أعلن فريدريك نيتشه: "المعرفة تقتل الفعل؛ الفعل يتطلب قناع الوهم ما زلنا نعيش تحت الظلال الكئيبة لهذا الاعتقاد." إن عصرنا المتمثل في الفردية المتطرفة والتخصص يفرض عقوبات على انقسام المعرفة والسلطة ، حيث يتابع الأكاديميون أحدهما بينما يمارس السياسيون الآخر. وتقدم الرسالة السابعة لأفلاطون رؤية مختلفة بتذكيره بالصلة الوثيقة والضرورية بين بين الفلسفة والسياسة ، والمجتمع المحلي والعدالة ، والصداقة والمعرفة. وقبل كل شيء ، يعلمنا أن العمل يتطلب المعرفة ، والمعرفة تتطلب العمل. والمعرفة ليست "وهم" ، ولا مجرد أداة للسعي إلى السلطة. وهي ممارسة جماعية تُزرع على أفضل وجه في مجتمعات الصداقة الفلسفية. إن عصر الديمقراطية لا يحتاج تلقائياً إلى التخلي عن المثل الأعلى لأفلاطون للفيلسوف الملك ؛ ولا نحتاج إلا إلى توسيعه إلى أن تربط الصداقة والتعليم بين أكبر عدد ممكن من الناس وبين المواطنين الفلاسفة، وأن نحكم معاً "بحسن نية" و "دون حسد".
تم نشر النص الأصلي فى مجلة آيون
إرسال تعليق