المحتويات [إظهار]
الآن أصبح كتاب الاستشراق كتاباً كلاسيكياً أكاديمياً، بعد أن كان من غير المرجح فى بدايته حتى أن يكون من أكثر الكتب مبيعاً. بادئاً بجلسات استماع ووترجيت في نهايات عام 1978، ووصف للمبانى المدمرة في بيروت أثناء الحرب الأهلية. ثم ينساب القراء في بضع فقرات إلى تاريخ أكاديمي غامض يعود إلى العصر الرومانسي. ثم تقفز الفصول من القصص الخيالية عن الشرق فى القرن التاسع عشر إلى وصف أوبرالى لنشرات الأخبار الأمريكية والأفعال الدنيئة لهنري كيسنجر. وما لم يكن المرء قد قرأ بالفعل إدوارد سعيد أو كان على دراية بكتابات المؤرخ ويليام أبليمان ويليامز حول الإمبراطورية "كأسلوب حياة" أو شعر لامارتين، فإن اختيار المواد المصدرية قد يبدو مربكاً. وكذلك فعل مع اللغويين والمؤرخين الذين غضبوا على نجاح الكتاب. كان الكتاب بالنسبة لنصف قرائه انتصاراً، والنصف الآخر فضيحة، ولكن لم يكن بوسع أحد أن يتجاهله.
متذرعاً بإتهام للمنح الدراسية الإنجليزية والفرنسية لدراسة العالمين العربي والإسلامي للمستشرقين، فقد قدم كتاب الإستشراق قضيته الشاملة بوضوح كاف. فقد نجح مجال الدراسات الاستشراقية في خلق تصور خيالي عن العرب والإسلام يتناسب مع تحيز جمهوره الغربي. وفي بعض الأحيان كانت هذه الصور مندفعة وخادعة، وفي بعض الأحيان طفولية أو بغيضة، ولكنها فى كل الأوقات لم تصف العرب والمسلمين بدقة.
على مر القرون، شكلت هذه الصور والمواقف شبكة من الكليشيهات المتشابكة والتي انعكست في سياسات وسائل الإعلام، والكنيسة، والجامعات. وحتى سلطة العلم الذي يبدو موضعياً فى ظاهره فقط، انضمت تحيزات جديدة إلى أولئك الموجودة بالفعل. لقد حرم هذا المكون -القائم ظاهرياً على العلم- العرب من أي شيء و قام بإعتقالهم فى الواقع النصي، الذي كان يستند عادة إلى حفنة من الوثائق الدينية في القرون الوسطى. على هذا النحو، تم اعتقال العالم العربي ضمن كلاسيكيات ماضيه. ويبدو أن هذا الحزء الذى أخذ حيزاً كبيراً من كتاب الاستشراق لم يكن مثيراً للجدل، رغم أن القراء لم يتفقوا إلا على القليل منه.
أثناء صياغة ذلك الكتاب الأيقوني، وجد سعيد صداقته مع نعوم تشومسكي مفيدة. وقد منحه تشومسكي الكثير من الخبرة في التعامل مع الصحافة السيئة. كان سعيد خبيراً في نقده لتواطؤ المؤسسات الأكاديمية في حرب فيتنام، وقد فكر سعيد لفترة وجيزة في كتابة كتاب مع تشومسكي عن الصور الثقافية المزيفة للشرق الأوسط. ومع ذلك، لم يتمكن تشومسكي من إكمال المشروع بسبب التزامات أخرى، لذلك قام سعيد بالمضي قدماً وحده. وكانت النتيجة كتاب الإستشراق.
قدم عالم اللغويات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المساعدة بطرق أخرى. كان أول من قرأ المسودة الأولية لسعيد، واستوعب المخطوطة، وكتب لسعيد، "تقريباً أنهيته في جلسة". أعرب عن إعجابه بالدقة التحليلية المثمرة لكنه حذر سعيد من إيلاء مزيد من الإهتمام للتوازن بين التحليل والاقتباس المباشر. وأضاف تشومسكي: "لن يكون منتقدي ذلك الكتاب قليلين"، ومن المرجح أن ينتهزوا فرصة النقص النسبي في المصادر. "قد يكون من المفيد أن نضيف شيئاً بشأن مسألة العنصرية، والاستشراق، وحرب فيتنام ــ أعتقد أننا ناقشنا ذلك".
تم تأليف الجزء الأكبر من المسودة الأولى في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية، في ستانفورد، كاليفورنيا، حيث كان سعيد زميلاً دراسياً بها في 1975-1976. لم يتم الترحيب عادة بالإنسانيين في المركز، وكان سعيد الناقد الأدبي الوحيد في فرقته. ومن المثير للإهتمام أن الزمالة لم تكن آنذاك الزمالة التي يمكن التقدم بطلب للحصول عليها. وتم انتقاء هؤلاء المختارين من الحشود الأكاديمية من قبل قائمة مجهولة من الأساتذة الموقرين. في أحد الأيام وصلت رسالة بملابسات غامضة إلى البريد الخاص بالمركز. "ماذا رأى فلاسفة العلوم وعلماء الاجتماع وعلماء النفس في تلك الدوائر النادرة في إدوارد سعيد ليتم اختياره؟"
يبدو أن هناك سببين وجيهين لذلك. أولاً، أراد المركز معرفة المزيد عن الشرق الأوسط، وهدف سعيد المعلن هو دراسة "تصاعد الإلتزام بعلم فقه اللغة الشرقية" و "الرواية العربية المعاصرة، وخاصة الدور الثقافي والسياسي الذي تلعبه الرواية"، و كان ذلك يناسب مشروع المركز. ثانياً، في الفترة الفاصلة سياسياً بين أيام أميركا في عهد جيمي كارتر ـ والتي أدت إلى الانفتاح الأكثر تبشيراً في البيت الأبيض على منظمة التحرير الفلسطينية ـ كانت راديكالية سعيد النسبية في حد ذاتها بمثابة عامل اجتذاب للباحثين المتفتحين في كاليفورنيا.
وعلى الرغم من كتابته لأصدقائه في إنجلترا أنه "لا يستمتع بالمركز كثيرًا"، إلا أن الطقس في كاليفورنيا ذكّر سعيد بشرق البحر الأبيض المتوسط، وسرعان ما اكتشف مطعمًا لبنانياً في بيركلي. وكانت "روحه العالية التي تلعب التنس" تجعله اجتماعياً، وخاصة مع النساء ، اللاتي وجد أن من الأسهل الثقة بهن. كان جوناثان كول، عميد جامعة كولومبيا في وقت لاحق، زميلًا في ذلك العام أيضاً ويتذكر أن سعيد كان محور الاهتمام من الجميع، حيث كان يشعر بالراحة مع الآخرين في محادثات طويلة وحيوية على الغداء.
وفي تناسق غريب، كان يهوشافات هاركابي، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية وأحد مشاهير عرب إسرائيل، أحد زملاء سعيد في ذلك العام. وقد زُرع بذكاء فى المركز من قبل الشرطة السرية الإسرائلية كمحب للشعر العربي، ووفقًا لمؤرخة الفن سفيتلانا ألبيرس، فقد وصف نفسه بأنه "حمامة مكيافيلية". خشى البعض أن يكون الثنائي قابلان للإشتعال فى وجه بعضهما البعض و تبدأ بينهما حرباً بالوكالة في الشرق الأوسط داخل المركز. في الواقع، حافظ سعيد وهاركابي على لياقتهما فى الحديث معاً، وإن لم يكن بود ولكن كانا في الغالب مهذبين مع بعضهما البعض.
في السنوات التي سبقت وصوله إلى المركز، تطور هاركابي من متشدد ("تحول ذكى"، كما قال تشومسكي، بما في ذلك "الرسائل المفخخة في قطاع غزة في الخمسينيات") إلى مؤيد صريح للدولة الفلسطينية. في الاستشراق، ظهر فى فقرات وجيزة باسم "الجنرال يهوشافات هاركابي"، وهو رجل وُصف بأنه يزعم أن العرب "منحطون، معادون للسامية حتى الصميم، وعنيفون، وغير متوازنين".
حتى قبل ستانفورد، كان لدى هاركابي وسعيد تاريخ متوتر. قبل خمس سنوات، عقدت رابطة خريجي الجامعة العربية الأمريكية -التي كان سعيد عضواً فيها- مؤتمرها السنوي في فندق أورينغتون، في إيفانستون، إلينوي. وبالصدفة كان الطلاب الإسرائيليون المقيمون في الولايات المتحدة يعقدون إجتماعهم السنوي على بعد بضعة مبانٍ فقط، وكان هاركابي المتحدث الرئيسي بينهم. وبصرف غير مسئول، قاد "الجنرال المحنك" 90 منهم دون إشعار مسبق إلى الفندق في أورينغتون لإجراء حوار بحسن نية.
غضب سعيد مما اعتبره "استفزازاً" محضاً، قاد سعيد مجموعته لمواجهتهم. فلما اقتربوا، صرخ سعيد: "استفزازيون!" وبعد مواجهة متوترة على الدرج، وصراخ هاركابي على الضجيج بحجة أنهم أتوا بسلام، تراجع الإسرائيليون وغادروا.
يمكن إرجاع قدر كبير من حالة سعيد العامة في الاستشراق إلى أعمال مثل كتاب ريمون ويليامز الريف والمدينة (1973) والنظريات اللغوية في عصر 1920 للمفكّر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي. لسنوات، احتفظ سعيد في مكتبه بملصق لظهوره المشترك مع ويليامز في حدث في جامعة لندن، في عام 1987. وقد التقوا في العام الذى يسبق ذلك على موقع تصوير البرنامج التلفزيوني البريطاني أصوات جنباً إلى جنب مع روجر سكروتون، وهو من المحافظين و يعتبر من أنصار الحروب الثقافية و ظهر مؤخراً هجومه الساخر على اليسار الجديد، ومفكرو اليسار الجديد، خاصة سعيد الذى اعتبره واحداً من الجناة الرئيسيين.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن كتاب الريف والمدينة ليس لديه سوى القليل لتقديمه عن الكليشيهات الاستشراقية عن العرب، فقد كان فى الأساس عن الحياة الريفية الإنجليزية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كما نرى من خلال منظور قصائد الريف و علاقتها بملاك الأراضي الأثرياء. ولكن خلف هذا المنظور، كان ويليامز مهتمًا بكيفية تحريف المُثلْ اليوتيوبية للطبقة العليا للتضاريس والمناظر الطبيعية، مما أضاف صورة ذاتية مشوهة على الظروف الريفية القاسية.
كما لم يكن الاتجاه المعادي للإمبريالية فى كتاب الريف والمدينة مخفياً. كتب ويليامز قصائد شاهدة على حقبة انتقالية من الحياة الاجتماعية الإنجليزية التي كان يمارس فيها نوع جديد من السيطرة السياسية على المستعمرات داخل وخارج البلاد. وقد عكست الحرب بين المناطق الريفية والحضرية داخل إنجلترا العداوة بين المدينة العالمية و محيطها الخارجي، حيث شكلت تلك الصراعات كل منهما على نطاق مختلف. ويرى ويليامز أن روح الناقد وليس الشاعر هو الذي يدفعنا إلى الخروج من هذا التعبير اللطيف إلى ذروة تعبيره: "إن أحد آخر نماذج (المدينة والريف) هو النظام الذي نعرفه الآن باسم الإمبريالية". قبل فترة طويلة من ظهور دراسات ما بعد الاستعمار -وهو المجال الذي قيل إن سعيد قد أسسه- تجاوز ويليامز بالفعل معاصريه في البحث عن تقاليد بديلة.
وكذلك فعل أنطونيو غرامشي، وهو سجين في سجون موسوليني الفاشية، وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي، وثوري كاثوليكي ثقافياً في بيئة سيطر عليها الماركسيون اليهود في القرن العشرين. جغرافية حتمية هى من شكلت هوية غرامشي. وبصفته سردينياً من جنوب إيطاليا الريفي، تابع دراساته في شمال إيطاليا الصناعي، كان ينظر إليه هناك على أنه أدنى عرقياً. ففي "بعض جوانب المسألة الجنوبية" (1926) -مقال درسه سعيد بشكل متكرر- وجد غرامشي في هذا الصِدام بين الريف والمدينة ما يسميه سعيد في الاستشراق بـ "الجغرافيا الخيالية"، حيث تصبح الأرض نفسها رمزًا للتمييز الثقافي المهين.
والأهم من ذلك أن اللغة بالنسبة لغرامشي هي التي تحدد الصراع الإقليمي. درس غرامشي على يد ماتيو بارتولي، وهو واحد من أكثر المؤيدين صراحة في هذا العصر لمدرسة تعرف باسم اللغويات المكانية. جادل بارتولي وحاشيته أن اللغة كانت السجل المجسد للهجرة والغزو الأجنبي، وليس فقط "روح الشعب"، كما كان لدى الرومانسيين. في الصراعات الإقليمية، يتم دفع مصطلحين لغويين بعنف ضد بعهمها البعض وإجبارهما على التنافس على الهيبة.
ومع وضع المصادر السابقة في اعتبارنا، حشد كتاب الاستشراق سلسلة من الاستعارات اللغوية المكانية. وكانت إحدى هذه "المواقع الاستراتيجية" تشير إلى كيفية وضع المؤلف فيما يتعلق بكتاباته الخاصة؛ وهناك "تشكيل استراتيجي" آخر يتلخص في الكيفية التي يكتسب بها العمل المزيد من "القوة المرجعية" ما دام موضوعاً ضمن كوكبة من الأعمال التكميلية بدلاً من الوقوف بمفرده.
كان سعيد مهووساً بمعرفة كيفية جمع بعض النصوص للقوة والنفوذ بينما لا تفعل نصوص أخرى ذلك. ثم كان يشير بعبارة "الجغرافيا الخيالية" إلى المفارقة المتمثلة في أن قرب الشرق الأوسط من أوروبا يجعل الشرق قوياً وخطراً على العقل الغربي بشكل خاص. وبسبب تقارب المنطقة مع اوروبا، يمكن ان يزورها بسهولة اكبر المسافرون، المغامرون المستعمرون، والمبشرون. وبالتالي، كان لابد من إدارة تجاربهم من خلال قصة مشتركة تمنحهم المعنى "الحقيقي". قد تكون الأرض مادة مادية للجغرافيا، ولكن الأفكار تميل إلى تجريد الطابع المادي عن المكان، الأمر الذي يجعل الجيران يبدون وكأنهم بعيدين.
في مستهل الأمر كان استقبال كتاب الإستشراق مبهراً. تم ترشيح الكتاب لجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية وتم استعراضه بشكل يحسد عليه. كان هناك تدفق مستمر من رسائل المعجبين، والتي تجسدت ذروتها في رسالة الفيلسوف والناشط السياسي كورنيل ويست في عام 1978، والتي جذبت لهجتها البهيجة الشعور بين المثقفين المنشقين، وخاصة المثقفين الملونين، في جميع أنحاء العالم: "أنت على الحدود الغراميشية". من المدهش أن الكتاب استغرق عدة سنوات ليعده البعض الآخر مجرد فضبحة.
كان لشهرة سعيد العالمية المفاجئة آثار مؤسفة التي غالباً ما تكون مصحوبة بالاعتزاز و الكبرياء، ولأن الجميع أراد قطعة منه، فقد استغل الفرصة. أخته غريس اشتكت من غطرسته المستحدثة، "البذئ" الذي وتر العلاقات العائلية. كانت هناك تأثيرات أخرى أيضاً: وبعد مكتب رئيس جامعة كولومبيا، كان لدى سعيد فقط نوافذ مضادة للرصاص فى مكتبه وجرس من شأنه إرسال إشارة مباشرة إلى أمن الحرم الجامعي.
وبمرور الوقت، تعاظم نشاط منتقدي الكتاب بقدر نشاط مؤيديه. جاءت الاعتداءات من أربع زوايا: أولاً، من علماء معاصرين للغة العربية أو الإسلام أو الشرق الأدنى يعتقدون أن سعيد قد غامر بتهور في حقل طغت عليه مطالبه و تحيزاته على المعرفة ؛ وثانياً، من الماركسيين الباكستانيين والعرب الذين شعروا بأن الخط الذى خطه فى الرمال بين الشرق والغرب غير جدلي ويمنح قدراً من الارتياح لليمين الإسلامي، الذي كان مجنوناً بفكرة تشويه أوروبا؛ ثالثاً، والأكثر إيلاماً من كل ذلك، من معلميه في دراسات الشرق الأوسط، الذين اعتبروا أن تدريبه في الأدب عقبة أمام استيعابه لمجموعة متنوعة من الدراسات الاستشراقية في الممارسة العملية. وكانت المجموعة الرابعة المتخفية في مراكز الفكر اليمينية أو وسائل الإعلام المعادية التي لم تكن مهمتها تقويض كتاب الاستشراق فحسب بل محو حياة سعيد المهنية بأكملها. وقد خانت ألقابهم ازدراءهم: أبراج العاج على الرمال لمارتن كرامر (2001)، و كتاب للكاتب صاحب الأسم المستعار ابن وراق وهو دفاعاً عن الغرب (2007)، وكتاب جوشوا مورافشيك، كفاية سعيد (2013).
على الرغم من تضارب نقاط بدايتهم، إلا أن معظم منتقدي الاستشراق ظلوا يعودون إلى نفس النوع من نقاط الإنتقاد. دانيال مارتن فاريسكو، خبير أنثروبولوجيا النصوص الزراعية اليمنية في القرن الثالث عشر، على سبيل المثال، ادعى أن حماسة سعيد لدور الهواة في التحقيق الفكري ألبسه فقط ثوب الهواة عند الدخول في مجاله عمله نصف متفجر. بالنسبة لفاريسكو، "مشكلة سعيد مع الواقع، وليس عنه". كما اشتكى ابن وراق من "مصطلحات ما بعد الحداثة التي لا تنتهي" لسعيد
روبرت إروين دفع الهجوم إلى أقصاه في معرفة خطرة: الإستشراق وأعدائه (2006). وهو أحد طلاب عدو سعيد الأول برنارد لويس واخصائي المماليك في العصور الوسطى، سخر إروين من سعيد لاقتراحه أن المستشرقين كانوا يقدمون خدماتهم للإمبريالية في حين أن الحقيقة أن لا أحد يهتم بما كان عليهم قوله. أضاف إيروين وفاريسكو معًا أن اللجوء المستمر لسعيد إلى أمثلة أدبية من فلوبير ودانتي والمأساة اليونانية وسع مجال الاستشراق إلى نقطة إنعدام المعنى.
وحتى أولئك الذين أعربوا عن إعجابهم بسعيد اتفقوا مع بعض هذه الاتهامات: كتب ماكسيم رودينسون "بوصفه متخصصاً في الأدب الإنجليزي والأدب المقارن، هو على دراية غير كافية في الجانب العملي فى الاستشراق". الماركسي اللبناني مهدي عامل -غالبا ما يسمى غرامشي العربي - استنكر نبرات سعيد غير المبررة ضد ماركس وأشار إلى أن كتاب الإستشراق كان مذنبا بعزو أخطاء شخصية لبعض المستشرقين إلى ثقافات بأكملها. ومما زاد الطين بلة أن بعض طلاب سعيد السابقين ثاروا عليه.
كان ديفيد ستيرن يرى أن كتاباً يحمل عنوان الاستشراق كان يجب أن يتناول اليهودي المجري إجناتس جولد تسيهر، وهو المستشرق الأكثر أهمية على الإطلاق. آلان مينتز قلق من أن سعيد أضاع فرصة بعدم جعل الكتاب يتحدث عن اليهود والمسلمين معاً، ومواضيع الخيال الغربي المشتركة للخطاب الإستشراقي. ربما كان جاك بيرك، أحد أصدقاء سعيد القدامى، هو الأكثر ضررًا عندما ألمح إلى أن أطروحة الاستشراق لم تكن شنيعة ولكن شناعتها كانت منطقية طبقاً لظروف تكوينها: "من الواضح... كل عمل، سواء في العلم أو الفن، يعكس ظروف تكوينه". لذلك لم يكن خبراً جديداً أن علماء العصر الفيكتوري عكسوا التحيز الفيكتوري.
على الرغم من ذلك.. القليل من هؤلاء النقاد، كانوا يعرفون أي شيء عن عمل سعيد السابق، وبالنسبة للبعض، كان هناك حسابات شخصية لتصفيتها. إيروين، على سبيل المثال، ترك الأوساط الأكاديمية لكتابة روايات بعناوين مثل "ألغاز الجزائر" و "الكابوس العربي"، وكانت شخصيته مشابهة على نحو غريب لشخصية إرنست رينان، الذي تم التعامل معه بشكل متكرر في الاستشراق كشخصية شعبية في القرن التاسع عشر وروح مستقلة مع شوق لا يرتوي لكل الأشياء الشرقية (إيروين اعتنق الإسلام لفترة وجيزة أثناء دراسته في الجزائر). وسواء لاحظ إيروين أوجه التشابه هذه أم لا، فقد نعت كتاب الاستشراق بالـ "الشعوذة الخبيثة".
في عام 1982، كتب سعيد إلى كلية وستمنستر، أكسفورد، يشكو من مراجعة إيروين الإيديولوجية لكتابه، "تلميحاته تدور هنا و هناك حول أصلى العرقي" كان برنارد لويس، معلم إيروين، مستشرقاً مشهوراً في أكسفورد وبرينستون، وهو الشخص الذي تجادل معه سعيد بشكل بارز على كتاب الاستشراق في صفحات نيويورك تايمز ونيويورك ريفيو أوف بوكس. كانت هذه المبارازات في كثير من الأحيان شخصية مريرة كأنها مبارزات بالسيوف، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الاستشراق صور لويس، جنباً إلى جنب مع مثقفين من وزارة الخارجية مثل فؤاد عجمي، وبعد ذلك إلى حد ما، دانيال بايبس، على أنهم أحفاد العصر الحديث لأجدادهم الذين تبنوا العنصرية كمبدأ و هو ما فضحه الكتاب.
كان من المحتم أن تؤدي شهرة الاستشراق إلى مواجهة عامة بين سعيد ومعارضيه. وتمت المواجهة أخيراً بين سعيد ولويس في 22 نوفمبر 1986، في اجتماع لجمعية دراسات الشرق الأوسط في بوسطن. وكانت الغرفة مكتظة بالجمهور، وكان هنالك ٦٠٠ شخص آخر في الخارج، اضطر كثيرون أن يجلسوا على الارض. كان عداوة سعيد واضحة من فكاهته الخبيثة قبل الحدث، هامساً باللغة العربية إلى أحد المقربين على الغداء، "أنا ذاهب لمـ---- أمه".
في الواقع، يبدو أن لويس خسر المواجهة، متهرباً من الأسئلة حول استقلاليته العلمية و إصراره على إثارة الضجة حول القوالب النمطية الشعبية في الشرق الأوسط. ولأن المسافرين الغربيين إلى الجزيرة العربية، كما قال ساخراً، كانوا مهووسين بالقدرة الجنسية الجامحة للسلاطين، ولأن المسافرين من الشرق وجدوا النساء الغربيات فاسقات، فمن الغامض أن الجانبين لم يتفقا على نحو أفضل. في مناقشته الثانية، أعلن المحرر الأدبي ليون فيسلتيير (وهو أحد طلاب سعيد السابقين وأحد خصومه)، أن الأمسية "كانت كابوس بالنسبة لي"... لويس يقول أشياء شنيعة آخذنى معه فى نفس الصف. شعرت بالفظاعة والفزع لأنني لست كذلك، لقد تخلى عن روح النقاش ".
يبدو أن منتقدي سعيد أساءوا فهم أن الاستشراق كان عن النظام متداخل من الصور التي جعلت الغزو أسهل من خلال جعل تفوق أوروبا يبدو طبيعياً. وكان من المفترض أن يكون ذلك سعيد قد أفرط في تقدير الأدب ، وهو خط هجوم متكرر ، يبدو أنه لا يحظى بنفس القدر من الاهتمام. هل نسي القراء عدم ارتياحه في الاستشراق بما أسماه "الموقف النصي" ــ أو على وجه التحديد المبالغة في تقدير الأدب؟ فقد لاحظ بمرارة أنه لا يمكن للمرء أن يتعلم عن اسبانيا في القرن السادس عشر عندما يقرأ أماديس من بلاد الغال. من ناحية أخرى، قلب سعيد الطاولة على منتقدي هذه التهمة: "الحقيقة الواضحة هي أن المستشرقين لا يعرفون كيف يقرأون ، وبالتالي يتجاهلون الأدب بكل سعادة".
أما عن الاتهام المألوف بأن سعيد كان من أتباع ما بعد الحداثة والذي يعتقد أنه لا يوجد حقيقة، فقد بذل جهداً كبيراً في محاضراته عشية نشر الاستشراق لمهاجمة ما بعد الحداثة. كان ثابتًا على حد سواء تجاه البنيوية، مجادلاً موقف جاك دريدا بأن الحقيقة "هي حرفياً عنصر نصي لا أساس لها في الواقع". قال لم يعجبه كتابة دريدا واعتبره "مفكرا متهالكاً ، مهذباً ، عابثاً رديئاً" عندما أعلن في تبادل للآراء حول التفكيك أنه" لا يوجد ما يسمى بالشرق (الحقيقي)، لم يكن يعني أن الناس غير موجودين في الأردن أو العراق، أو يمشون على الأرض، أو يشعرون بالألم، أو يموتون. كانت وجهة نظره ببساطة أنه لا يمكن الوصول إلى واقعهم دون مشاركة المفاهيم التي تنقلها الكلمات". كان هذا الرأي منطقياً لأي شخص يدرس النظرية الأدبية
ومع ذلك، لا يمكن تفسير كل نقاط الضعف المفترضة في الكتاب. حتى أن المعجبين وجدوا أن الاستشراق في بعض الأحيان غير منتبه للتناقض داخله، وعلى استعداد أكثر من اللازم لطمس ما ذكره فى صفحات أخرى على عكس المفكرين في نفس المعسكر. على سبيل المثال، هل يستطيع أي أوروبي وفقاً لشروط سعيد أن يعمل عبر الثقافات من دون تصرف مهيمن بالكامل ؟ فكثيراً ما طغت سخريته على تلك اللحظات عندما أثنى على "النطاق الهائل من التعلم" لدى للمستشرقين، وشوهت المبالغات حجته، على سبيل المثال، عندما ادعى أنه "نادراً ما كان المستشرقون مهتمين بأي شيء باستثناء إثبات صحة هذه (الحقائق) العفنة من خلال تطبيقها، دون نجاح كبير، على السكان الأصليين غير المفهومين، وبالتالي المنحطين". لقد تعارض هذا الادعاء مع تصويراته الشخصية لمهنة ريموند شجاب وإدوارد لين، وغيرهم من المستشرقين الذين كانت جريمتهم، إن وجدت، هي التغاضي المفرط عن انتصارات الماضي العربي والإسلامي.
ورغبة منه في الترويج لنظرية عربية محلية لا تدين لأوروبا بأي شيء، قلل سعيد من أهمية الحداثة المعادية للإمبريالية من جانب الفلاسفة و المتشدقين الغربيين مثل ميشيل دي مونتين، ودينيس ديدرو، ويوهان جوتفريد فون هيردر، وفيكتور شويلشر. في بعض الأحيان كان يبدو وكأنه قريب من أن ينكر أن أي شخص غير شرقي يستطيع أن يكتب سرداً للشرقيين من دون أن يتحد مع سياسته الخارجية. في أحد المقاطع، على سبيل المثال، أعلن أن الشخص هو دائماً "أوروبي أو أمريكي أولاً … " كان ينبغي أن تكون مخاطر مثل هذا التعليق واضحة: فلم يعد من الممكن بعد الآن أن يكون هناك تفسير للشرق لا يتأثر بهوية المرء الغربية. وواصل حديثه قائلاً إن الأوروبيين في القرن التاسع عشر ككل كانوا "شبه متعصبين عرقياً".
ومن ناحية أخرى، كان لمثل هذا الخطاب هدف محدد للغاية. المغالاة في تصريحات سعيد كانت تهدف إلى إطلاق العنان لسخط انتقائي في قرائه. لاحظ بعض الأصدقاء المقربين أن سعيد كان يعلم أنه يجب أن يقيد تصريحاته أكثر، لكنه شعر أنه يجب أن يكون قوياً ومحدداً لأسباب سياسية. و بشكل عام كان بارعاً فى ذلك، ولكنه "لم يكن راغباً في أن يضيع إرثه فى وسط ذلك" على حد تعبير صديقه مايكل وود. وقد أثار سعيد هذه النقطة في الاستشراق نفسه. فقد يتمثل الخطر في أنه قد ينتهي به الأمر إلى "مجادلة فظة" عامة بشكل غير مقبول "بحيث لا تستحق الجهد المبذول" ؛ من ناحية أخرى، قد يفقد مسار "خطوط القوة العامة التي تبلغ الميدان."
في حين أنه حذر من رؤية الاستشراق على أنه "عرض مؤامرة إمبريالية غربية شريرة لإخماد العالم الشرقي"، إلا أن عرضه كان صريحاً بما يكفي للاستماع إليه. جلبت سياسة اللوم التي اتبعها عدداً من الباحثين السابقين كسياق واحد، كان لها علاقة كبيرة بنجاح الكتاب على الصعيد الدولي.
كما لاحظ أحد النقاد العدائيين، "أصبح بياناً للعمل الإيجابي بالنسبة للعلماء العرب والمسلمين وأرسى اتجاهاً سلبياً نحو العلماء الأميركيين والأوروبيين" بعد أن وضعت وحده مؤسسة كاملة تحت عدسة مكبرة، أعطى الاستشراق أيضًا ملاذاً آمناً لدارسي مغالطات الإدارة الإنجليزية ، وطلاب التبادل في أميركا اللاتينية ، والناشطين العرب الغارقين في دراسات منطقة الشرق الأوسط. وقد وضع الباحث إعجاز أحمد -الذي كان كغيره ينتقد الكتاب انتقادا لاذعاً- إصبعه على الآثار الديموغرافية الهائلة للكتاب: لقد فتح الباب للأكاديمية من خلال إعطاء القوة "للوعي الذاتي الاجتماعي والتأكيد المهني للمهاجرين من الطبقة المتوسطة والمفكرين العرقيين ".
وكان لنجاح الاستشراق عواقب غير متوقعة. دعوة الكتاب الضمنية بأن المستعمرين السابقين يروون قصتهم الخاصة أدت منطقياً إلى فتح الباب للعلماء غير البيض في الأكاديمية. قام سعيد شخصياً بتأمين موطئ قدم لأنصار دراسة ما بعد الاستعمار التي ارتفع صوتها. ومع ذلك ، فإن الموجة الجديدة ، ومعظمها من الطبقة المتوسطة العليا التي لها صلات سياسية ، والتي اندمجت في "فرق" ما بعد البنيوية، لم يكن لها فائدة كبيرة في تركيزه الخاص على حركات التحرير الوطني في الأربعينيات والسبعينيات. وبالنسبة له، فإن مناهضة الاستعمار تعني إنشاء دول وخوض معارك حول السياسات في وسائل الإعلام؛ ففي نظرهم كان المقصود منها أن ترفض "الحداثة" مع التأكيد على "العلاقة البينية" بين مأزق ما بعد الاستعمار ـ وهي لفتة احترافية آمنة أثناء سنوات حكم ريجان و بوش. وكانت "هوية" ما بعد الاستعمار في ذهنه، تذكرنا على نحو غير مريح بمنطق الطائفية التي رآها تمزق لبنان والأراضي المحتلة. وعلى الرغم من انتصار الاستشراق، فقد أمضى العقدين الأخيرين من حياته في محاولة إبطال هذا الارتجال في رسالته، من خلال اعتناق الشمولية الإنسانية التي كانت آنذاك (كما هي الحال الآن) موضة قديمة تماماً في المجال الذي نجح في إثرائه وتحويله.
تم تكييف هذه المقالة من الكتاب القادم للمؤلف ، أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد لـ تيموثى برنان.
إرسال تعليق