المحتويات [إظهار]
أريد حقاً أن يكون تأثير دانينغ كروجر حقيقياً. تم وصف هذا التأثير لأول مرة في عام 1999 من قبل ديفيد دانينغ وجوستين كروجر، وجاء هذا التأثير على هوى الصحفيين الذين يريدون شرح لماذا لا يعرف الناس الأغبياء أنهم أغبياء. حتى أن هناك مقطع فيديو عبارة عن جزء من مقطوعة تيراندوت الأوبرالية الشهيرة للمذهل نيسون دورما، يشرح تأثير دانينج كروجر. يغني "إنهم لا يعرفون" ثم يعلو صوته الرائع و يقول "أنهم لا يعرفون".
كنت أخطط لكتابة مقال قصير جداً عن تأثير دانينغ كروجر وشعرت وكأنني أطلق النار على سمكة في برميل. أشرح التأثير، كيف تم إكتشافه، ماذا يعني، ثم نهاية القصة.
لكن حينما راجعت و تأكدت مرة أخرى من الأدب الأكاديمي، بدأ الشك يتسلل داخلي. وبينما كنت أحاول فهم الانتقادات الموجهة إلى الدراسة الأصلية، وقعت في جحر الأرنب، حتى أننى تحدثت إلى عدد قليل من الأشخاص ذوي عقلية التفكير الإحصائي، وتواصلت مع الدكتور دانينغ نفسه، وحاولت أن أفهم ما إذا كان عقلنا منحازاً حقاً للمبالغة في تقدير كفاءتنا في الأنشطة التي نمارسهها بسوء … أو إذا كان التأثير المشهور مجرد سراب ناتج عن الطريقة الغريبة التي يمكننا بها التلاعب بالأرقام.
هل حقاً بالغنا في ثقتنا بنظرية تأثير (دانينغ كروجر)؟
تأثير يساء فهمه
إن أهم خطأ يرتكبه الناس حول تأثير دانينغ كروغر، وفقًا للدكتور دانينغ، يتعلق بمن يقرروه أن يقع ضحية له. كتب لي: « التأثير يتعلق بنا نحن لا الآخرون». ثم أضاف "تعلَّمنا دائماً كيف ينبغي أن نكون متواضعين وحذرين حيال انفسنا". تأثير دانينغ -كروغر ليس حول الحمقي. لكنه يتعلق بنا جميعاً عندما يتعلق الأمر بأشياء نحن لسنا مؤهلين فيها.
بإختصار، تم تعريف تأثير دانينغ -كروجر في الأصل باعتباره تحيزاً في تفكيرنا. إذا كنت سيئ في قواعد اللغة الإنجليزية وطُلب مني الإجابة على اختبار يقيس معرفتى بقواعد اللغة، فإن هذا التحيز في تفكيري سيقودني، وفقاً للنظرية، إلى الاعتقاد بأنني سأحصل على درجة أعلى مما كنت سأحصل عليه في الواقع. وإذا كنت متفوقاً في قواعد اللغة الإنجليزية، فإن التأثير يفترض أنني من المرجح أن أستهين بقدرتي قليلاّ على القيام بذلك. قد أتنبأ بأنني سأحصل على 70% بينما درجاتي الحقيقية ستكون 90%. ولكن إذا كانت درجاتي الفعلية 15% (لأنني سيئ جدً في قواعد اللغة)، فقد أتعاظم فى تقدير قدراتي وأتوقع درجة 60%. وهذا التناقض هو التأثير، ويُعتقد أنه يرجع إلى مشكلة محددة في قدرة دماغنا على تقييم مهاراته الفعلية.
هذا ما مر به الطلاب المشاركون في مشروع دانينغ و كروغر البحثي في أواخر التسعينات. كانت هناك تقييمات لقواعد اللغة وحس الفكاهة والتفكير المنطقي. وسُئل الجميع عن توقعاتهم لمدى جودة أدائهم في اعتقادهم و تم توقع درجة، ثم تم تصنيف الجميع بموضوعية بدرجات، ثم تمت مقارنة الاثنين معاً.
ومنذ ذلك الحين، تم إجراء العديد من الدراسات التي ذكرت هذا التأثير في مجالات أخرى من المعرفة. يقول لي الدكتور دانينغ أنه يعتقد أن التأثير "له علاقة أكبر بأن تكون مضللاً لحصولك على معلومات خاطئة بدلاً من أن تكون جاهلاً لعدم حصولك على أى معلومات". إذا سئلت عن نقطة غليان الزئبق، فمن الواضح أن دماغي لا يحمل الجواب. ولكن إذا سُئلت ما هي عاصمة اسكتلندا، فقد أعتقد أنني أعرف ما يكفي لأقول غلاسكو، ولكن تبين بعد ذلك أنها إدنبرة. هذه معلومات مضللة وتضغط مباشرة على زر الثقة في دماغي.
إذن هل أُغلقت القضية على ذلك؟ على العكس. ففي عامي 2016 و 2017، تم نشر ورقتين في مجلة الرياضيات تسمى الحساب Numercry. وفيها، جادل ناشروها بأن تأثير دانينغ -كروجر كان سراباً. وأنا أميل إلى موفقة ذلك الرأي
التأثير في الضجيج
ورقتا البحث، التي كتبها الدكتور إد نوفر وزملاؤه، جادل بأنه يمكن تكرار تأثير دانينغ -كروجر باستخدام بيانات عشوائية. قال لي الدكتور نوفر عبر البريد الإلكتروني: "كنا جميعاً نعتقد أن ورقة عام 1999 صحيحة"، "لقد كان المنطق والحجة منطقيين للغاية. لم نخطط أبداً لدحض ذلك حتى أننا كنا معجبين بتلك النظرية". في ورقتي الدكتور نوفر، التي استخدمتا كل من البيانات الناتجة عن الكمبيوتر والنتائج من الأشخاص الفعليين الذين يخوضون اختبار محو الأمية العلمية، دحض فريقه الإدعاء بأن معظم الأشخاص غير الأكفاء لا يدركون ذلك (" عدد قليل منهم فقط: رأينا حوالي 5-6 ٪ تناسب ذلك في بياناتنا ") وبدلاً من ذلك أظهر أن كل من الخبراء والمبتدئين يقللون ويبالغون في تقدير مهاراتهم بنفس الوتيرة. وكتب لي: "إن الخبراء يفعلون ذلك على نطاق أضيق"
انشغال دماغي حول كل هذا استغرق أسابيع. ولقد عينت فريقاً من الزوج والزوجة ، وهو الدكتور باتريك مكنايت (من قسم علم النفس في جامعة جورج ماسون، وهو أيضاً عضو في المجلس الاستشاري للفهم بشأن العلوم و STATS.org) والدكتورة سيمون سي، لمساعدتي فى فهم ماذا حدث. لم يؤمن باتريك مكنايت بوجود تأثير دانينغ -كروجر فقط، بل كان أيضاً يعلمه لتلاميذه فى سبيل تحذيرهم و حثهم على الانتباه لما يعرفونه بالفعل مقابل ما يعتقدون أنهم يعرفونه. ولكن بعد تكرار النتائج التي توصل إليها الدكتور نوفر باستخدام منصة مختلفة (بلغة الحوسبة الإحصائية R بدلاً من مايكروسوفت إكسل )، أصبح مقتنعاً بأن التأثير كان مجرد قطعة أثرية تحكى لنا عن كيفية قياس الشيء الذي تم قياسه بالفعل
لقد خضنا نقاشات طويلة حول هذا الموضوع بينما كنت فى مرحلة التشكك تلك، من السهل أن تغريني قصص من هذا النوع: "كل ما تعرفونه عن هذا الامر خاطئ"، هذا هو تحيزي. للتغلب على ذلك، ظللت ألعب دور محامي الشيطان مع مكنايت للتأكد من أننا لا ننسى شيئا. في كل مرة شعرت أن فهمي يتبلور، يزحف الشك إلي في اليوم التالي وتستأنف مناقشتي مع مكنايت.
وأخيراً وصلت إلى نقطة كنت فيها متأكداً إلى حد ما أن تأثير دانينغ -كروجر لم يظهر أنه تحيز في تفكيرنا بل كان مجرد قطعة أثرية. هنا إذن التفسير الأكثر بساطة الذي أملكه للأسباب التي تجعل التأثير يبدو حقيقياً.
ولكي يكون تأثير علم النفس البشري حقيقياً، لا يمكن تكراره بصرامة باستخدام الضوضاء العشوائية. فإذا كان الدماغ البشري ميالاً إلى اختيار الملك عند اللعب بالعملة المعدنية، فبإمكانك مقارنة ذلك بالتنبؤات العشوائية (الملك أو الكتابة) التي يصنعها الكمبيوتر وترى الانحياز(الانحياز أو التحيز (bias) هو حكم مسبق في موضوع أو قضية خاصة أو عامة، عادة يكون عن طريق تبني أو مساندة وجهة نظر أو عقيدة إيديولجية). يمكن للإنسان أن يدغو داهل دماغه الملك أكثر من الكمبيوتر لأن الكمبيوتر يقوم بالمراهنات العشوائية في حين أن الإنسان منحاز نحو الملك. وها ما لا يحدث مع تأثير دانينغ -كروجر. ففى الواقع إن البيانات العشوائية تحاكي التأثير بشكل جيد جداً.
التأثير كما هو موضح أصلاً في عام 1999 يستخدم نوع غريب جدا من الرسم البياني. قال لي باتريك مكنايت: "إن هذا الرسم البياني، على حد علمي، غير معتاد في معظم مجالات العلم". في التجربة الأصلية، أخذ الطلاب اختباراً وطلب منهم تخمين درجاتهم. ولذلك، كان لكل طالب نقطتان للبيانات: الدرجة التي يعتقد أنه حصل عليها (التقييم الذاتي) والدرجة التي حصل عليها بالفعل (بعد أدائه فى الامتحان). من أجل تصور هذه النتائج، قاما دانينغ وكروغر بتقسيم الجميع إلى أرباع: أولئك الذين حققوا 25% في الأسفل، وأولئك الذين سجلوا في 25% في الأعلى، ثم ربعيتين في الوسط. وتم رسم متوسط درجة الأداء ومتوسط درجة التقييم الذاتي لكل ربع. أدى ذلك إلى الرسم البياني الشهير لـ دانينغ -كروجر.
وإذا ما نظرنا إلى الأمر على هذا النحو فسوف يتبين لنا أن المنتمين إلى شريحة الـ 25% السفلى توقعوا أن أداءهم كان أفضل كثيراً من أدائهم الفعلي، وأن المنتمين إلى شريحة الـ 25% الأعلى استهانوا بقدراتهم. ويُعتقد أن هذه الملاحظة ترجع إلى الدماغ البشري: فغير الأكفاء لا يدركون ذلك. لكن إذا أزلنا الدماغ البشري من المعادلة، سنحصل على ما يلي:
تم إنشاء الرسم البياني دانينغ -كروجر أعلاه من قبل باتريك مكنايت باستخدام نتائج الكمبيوتر (لا دماغ بشري) لكل من التقييم الذاتي والأداء. الأرقام كانت عشوائية لم يكن هناك أي تحيز في الترميز من شأنه أن يقود هؤلاء الطلاب الوهميين إلى التخمين بأنهم أبلوا بلاءً حسناً عندما كانت درجاتهم الفعلية منخفضة جداً. ورغم ذلك نستطيع أن نرى أن الخطين يبدوان على نحو مخيف مشابهين لهذين الخطين في تجربة دانينغ وكروغر الأساسية. تم إجراء محاكاة مماثلة من قبل الدكتور فيليب أكرمان وزملائه بعد ثلاث سنوات من ورقة دانينغ كروجر الأصلية، وكانت النتائج مماثلة.
إن قياس تصور شخص ما لأي شيء، بما في ذلك مهاراته، محفوف بالصعوبات. مدى ما أعتقده اليوم لدرجة نجاحى فى الاختبار قد يتغير إذا كان الأمر برمته يتم غداً، في حينها قد يكون مزاجي مختلف وقد تتزعزع ثقتي بنفسي. وبالتالي فإن قياس التقييم الذاتي هذا -إلى حد ما- غير موثوق به. إن عدم الموثوقية هذه ـ الضخم في بعض الأحيان، وغير الضخم في أحيان أخرى ـ يعني أن أي تأثير نفسي حقيقي موجود سوف يتم قياسه باعتباره أصغر حجماً في سياق التجربة. وهذا ما يسمى بالتوهين (Attenuation) بسبب عدم الموثوقية. وكتب لي باتريك مكنايت: "إن عشرات الكتب والمقالات والفصول تسلط الضوء على مشكلة خطأ القياس والتأثيرات المخففة". في محاكاته مع القياسات العشوائية، ما يسمى تأثير دانينغ -كروجر يصبح في الواقع أكثر وضوحاً مع زيادة خطأ القياس. وتابع: "ليس لدينا مثيل في تاريخ الاكتشاف العلمي، حيث يتحسن الاكتشاف بزيادة خطأ القياس. لا شيء".
كسر التعويذة
عندما قمت بإضافة الجملة البحثية "تأثير دانينغ كروجر" على أخبار جوجل، أحصل على أكثر من 8500 رابط من منافذ إعلامية مثل نيويورك تايمز، نيو ساينتست، وسي بي سي. والواقع أن كثيرين يؤيدون هذا التأثير ببساطة باعتباره تحيزاً حقيقياً للدماغ، لذا فليس من المستغرب أن لا يدرك الناس الانتقادات الأكاديمية التي كانت قائمة منذ نشر التأثير لأول مرة. إنه ليس فقط الدكتور (نوفر) وورقاى البحث المسماة الحساب خاصته، بل قد أشار منتقدون أكاديميون آخرون بأصابع الاتهام، على سبيل المثال، إلى الارتداد إلى المتوسط الحسابي.
ولكن كما يشير باتريك مكنايت، فإن الإرتداد إلى المتوسط يحدث عندما نأخذ نفس القياس مع مرور الوقت ونتتبع تطوره. وإذا قمت بقياس درجة حرارتي كل صباح ثم رفعت درجة حرارتي في يوم من الأيام، فإن نفس المقياس سوف ينخفض في اليوم التالي (على أمل) وأن يعود إلى قيمته المتوسطة مع انخفاض درجة حرارتي. هذا هو الارتداد إلى المتوسط. ولكن في سياق تأثير دانينغ -كروجر، لا يتم قياس أي شيء بمرور الوقت، والتقييم الذاتي والأداء هما مقياسان مختلفان تماما، لذلك لا ينبغي تطبيق الارتداد إلى المتوسط. ومع ذلك، فإن عدم موثوقية قياس التقييم الذاتي نفسه، هو منافس قوي لشرح كمية جيدة مما كان دانينغ، كروجر، والعلماء الآخرين الذين أبلغوا عن هذا التأثير في سياقات أخرى يصفونه في الواقع.
هذه القصة لم تنته بعد مما لا شك فيه أن المزيد من الحبر سوف ينسكب على المجلات الأكاديمية حول هذه القضية، والتي تشكل جزءاً صحياً من البحث العلمي على أية حال. دراسة البروتونات والإلكترونات سهلة نسبياً لأن هذه الجسيمات لا تملك عقلاً خاصاً بها ؛ بالمقارنة، دراسة علم النفس البشري أصعب بكثير لأن عدد المتغيرات التي يتم التلاعب بها مرتفع بشكل لا يصدق. وعلى هذا فمن السهل حقاً أن تبدو نتائج علم النفس حقيقية حين لا تبدو كذلك.
هل هناك أناس أغبياء لا يدركون أنهم أغبياء؟ بالتأكيد، لكن ذلك لم يكن أبداً ما كان عليه تأثير (دانينغ كروجر). هل هناك أناس واثقون جدا ومتغطرسون في جهلهم؟ ولكن من المؤكد أيضاً أنه لم يكن دانينج و كروجر يقيسون مدى الثقة أو الغطرسة في عام 1999. وهناك تأثيرات أخرى معروفة لدى علماء النفس، مثل التحيز المفرط في الثقة والانحياز للأعلى من المتوسط (حيث يعتقد أغلب سائقي السيارات أنهم أعلى كثيراً من المتوسط، وهو ما لا يحمل أي معنى رياضي)، لذا فإذا ما تبين على نحو مقنع أن تأثير دانينج كروجر ليس أكثر من مجرد سراب، فإن هذا لا يعني أن الدماغ البشري عديم الفائدة . وإذا استمر الباحثون في الاعتقاد بالتأثير في مواجهة الانتقادات القوية، فإن هذا ليس مثالاً متناقضاً لتأثير دانينج -كروجر. في التجارب الكلاسيكية الأصلية، لم يتلق الطلاب أي تعليقات عند إجراء تقييمهم الذاتي. ومن الإنصاف أن نقول إن الباحثين في موقف مختلف الآن
كانت عبارة "تأثير دانينج كروجر" تُـستَغَل لسنوات من قِبَل الصحفيين والمتشككين على حد سواء باعتبارها تعويذة تفسر الغباء والعجز. ربما حان الوقت لكسر هذه التعويذة
ملخص:
- وُصف تأثير دانينغ -كروجر في الأصل في عام 1999 على أنه ملاحظة أن الأشخاص الذين هم سيئون في مهمة معينة يعتقدون أنهم أفضل بكثير مما هم عليه، في حين أن الأشخاص الذين هم بارعون في ذلك يميلون إلى التقليل من شأن كفاءتهم
- لم يكن تأثير دانينغ -كروجر حول "الحمقي الذين لا يعرفون أنهم حمقى" أو حول "الأشخاص الجاهلين الذين يكونون متغطرسين للغاية وثقة في افتقارهم إلى المعرفة".
- بما أن التأثير يمكن أن يُوصف و يعاد إنتاجه عشوائياً في بيانات مولدة بالحاسوب، فقد لا يكون عيباً حقيقياً في تفكيرنا وبالتالي قد لا يكون موجوداً في الواقع.
مترجم من مجلة mcgill
إرسال تعليق