المحتويات [إظهار]
حين عُلِقَتْ سفينةُ الحاوياتِ "إيفر جيفن" في هذا الممر الملاحي المصري، ألقت الأضواء على قناة الرأسمالية العالمية، ولكنها أخفت جذورها والفوائد المتفاوتة لها.
تم إعادة طفو سفينة "إيفر جيفن" بعدما انحرفت وسدت المجرى الملاحي المهم. وبعد ستة أيام من الحفر والتجريف وتزايد الذعر الدولي، طفت السفينة الضخمة أخيرًا من حيث تعليقها بين ضفاف قناة السويس. وخلال ذلك الأسبوع، ومع تزايد عدد السفن التي تنتظر على طرفي القناة وتزايد تكاليف انقطاع سلاسل الإمداد، وصفت العناوين الرئيسية قناة السويس التي افتُتحت في عام 1869 بأنها "الشريان الرئيسي في العالم".
للإشارة إلى أهمية الأمر، فقد تسبب جنوح السفينة وانسداد المجرى الملاحي في سكتة دماغية أضعفت التجارة العالمية. وفي ظل وباء عالمي، فإن عطل التجارة في كل أنحاء العالم يمثل جلطة كبيرة في موقع استراتيجي واحد، والتي يمكن أن تلحق أضرارًا دائمة بصحة الاقتصادات في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من أن الدم يتدفق بسلاسة في جسم صحي ويوصل الغذاء والأكسجين ويزيل النفايات، إلا أن قناة السويس لم تعمل على نحو مماثل. ففي عصر العولمة، استخدمت التكنولوجيا الحديثة لتحويل فوائد التكامل العالمي إلى بعض المناطق على حساب بعض الأماكن الأخرى، مما تسبب في تكاليف باهظة. وكما يبدو، لم تكن هذه التكنولوجيا قادرة على تحمل تلك التكاليف. وبالرغم من توقعات مبتكريها في القرن التاسع عشر لتسهيل حركة التجارة العالمية، إلا أن قناة السويس أثبتت عدم فاعليتها العالمية، إذ عملت دائمًا على إحباط بعض أنماط الحركة في حين عجلت بسرعة بعض أنماط الحركة الأخرى.
لحق التأخير الكبير في نقل البضائع البحريّة ضررًا بسلاسل التوريد وأسعار السلع الأساسية. ولا يمكن للعالم تجاهل الأزمة الطارئة التي كشفت عن حاجة بعض الحاويات المعلقة لإمدادات طبية ماسة لمكافحة وباء COVID-19. إن الدراما التي شهدها العالم نتيجة هذا التأخير تشير إلى الواقع الجديد الذي يتسم بالتشابك والترابط الأكبر بين المناطق البعيدة من العالم، وهو واقع يشبه الوباء الذي سبقها. وبالتالي، فإن العالم بأسره يحتاج إلى إيجاد حلول جديدة لمواجهة التحديات الجديدة التي يواجهها في هذا الواقع المتشابك والمترابط بشكل كبير.
إن انتشار مصطلحات مثل "الشريان" و "الأوردة الدموية" بين الصحفيين الذين يكتبون عن الكارثة، يكشف عن بساطة الفهم التي نسئ بها لفهم الكيفية التى يعمل بها نظام الرأسمالية العالمي. تبين الأرقام اليومية الكلفة الاقتصادية لتعطل المجاميع العالمية الكبرى، لكنها قد تكون مضللة. فمثلاً، لا يعني جنوح سفينة شحن على بعد آلاف الأميال من السويس أن التأثيرات الاقتصادية ستكون متساوية في كل مكان. إن اعتمادنا على إعادة الاكتشاف الساذجة بأن عالمنا مترابط في الواقع، لا يخبرنا الكثير عن كيفية حدوث هذه الروابط، ولماذا هي منظمة على النحو الذي هي عليه، وماذا قد تعني للأشخاص الذين يعيشون في أجزاء مختلفة من عالم غير متكافئ بشكل كبير.
يبدو أن بعض الأشخاص يرون كارثة قناة السويس التي حدثت الأسبوع الماضي كمناسبة للاحتفال. وعندما بدأت أخبار المشاكل التي تعرضت لها شركة "إيفر جيفن" في الانتشار، استغلت شركة الطاقة النووية الحكومية الروسية "روساتوم" الفرصة للسخرية من السفن التي يعتمدون على مرورها عبر قناة السويس والتي تعرضت لهذا الخطر. منذ سنوات، اهتمت العديد من البلدان بشأن الشحن عبر القطب الشمالي المتجمد وعملت على تعزيز استخدام كاسحات الجليد النووية ذات الهيكل السميك لرسم طرق جديدة عبر الصدوع والقنوات في الصفائح الجليدية القطبية التي تزداد ارتفاعاً مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية. وكانت شركة "روساتوم" تسعى إلى التنافس الدولي وتحقيق الأرباح الهائلة عبر تسويق فوائد إعادة توجيه حركة الملاحة البحرية عبر هذه الطرق القصيرة الشمالية، وهي عملية قديمة في المنافسة الدولية على تنظيم السفر العالمي.
يُذكِّر الفرح الروسي الحالي بأن قناة السويس كانت دائماً واحدةً من عدة خيارات لنقل البضائع حول العالم. وعلى العكسِ من الوريد البشري الفعلي، فلا يوجد شيءٌ طبيعي في موقع "الوريد الوداجي العالمي"، أو الدور الحاسم الذي يلعبه في التجارة العالمية. لقد كان الهدف من قناة السويس، من منظور الدولة المصرية والمستثمرين الأوروبيين، ليس ببساطة جعل العالم أكثر ترابُطًا والنقل الدولي أكثر كفاءةً، وإنما لاستخلاص رسوم العبور من السفن التي تمر عبرها. وفي هذا الصدد، كان اكتمال القناة لحظةً هامةً، وإن لم تكن فريدةً أو حاسمةً، في صراعٍ مستمرٍ لتوجيه الشحن عبر بعض الطُرُق بدلاً من طرقٍ أخرى.
في عام 1869، عندما فُتِحَتْ قناة السويس لأول مرة، كان حكام مصر يعملون منذ نحو نصف قرن على جعل أراضيهم الطريق الرئيسي لحركة المرور بين أوروبا وآسيا. بعد حملة القوات الأنجلو-عثمانية لطرد القوات الفرنسية في عام 1801، أصبحت محافظة الامبراطورية العثمانية كبيرة القيمة تحت سيطرة ضابط عسكري طموح يُدعى محمد علي باشا، والذي بذل جهوداً حثيثة لإخراج مصر من مدار اسطنبول وتأسيس سلالة مستقلة لنفسه ولورثته، وكان نشطًا في تكوين روابط اقتصادية جديدة مع أوروبا.
كان محور مشروع محمد علي الأسري هو إنشاء جيش عسكري جديد وقوي، مشابه لجيش التجنيد التابع لشركة الهند الشرقية، على الأقل جزئياً. ومن خلال شن حروب متتالية، أولاً باسم السلطان العثماني ومن ثم ضده، نجح محمد علي في تأمين التنازلات السياسية التي يريدها من اسطنبول. ومع ذلك، كان الحفاظ على هذا الجهاز العسكري مكلفًا للغاية. ولتغطية تكاليف هذه المؤسسة العسكرية ومساعيه الأخرى في بناء الدولة، اتخذ محمد علي قرارين حاسمين، وكلاهما أدى إلى تعزيز المصالح الأوروبية في مصر بشكل كبير.
بناءً على الطلب المتزايد للألياف الخام لتلبية احتياجات المطاحن الصناعية في لانكاشاير، استخدم محمد علي القوة العسكرية الجديدة لإجبار المزارعين على زراعة القطن بدلاً من المحاصيل الأخرى. على مدى العقود المقبلة، انتشرت زراعة القطن في مختلف مناطق دلتا النيل، وهذا القرار ساهم في ربط مصير مشاريع بناء الدولة في مصر بتصدير هذه المادة الخام الوحيدة التي أصبحت غير مستقرة بشكل متزايد، وذلك بسبب دفع أصحاب المزارع الأميركية للعمال المستعبدين في نفس الوقت لإنتاج محاصيل أكبر حجمًا.
وثانياً، قام محمد علي بالسعي لتحقيق زيادة الإيرادات من الأراضي الزراعية الغنية في مصر، وذلك عن طريق استخدام البلاد كرابط جغرافي بين الشرق والغرب. وبدءاً من العام 1820، بدأ بتطوير طريق بري جديد يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر. وكلما ازدادت السفن التي توقفت في الأرصفة المصرية، وزادت حركة المرور التي مرت عبر الأراضي المصرية، زادت إيرادات الرسوم المستحقة عن حركة البضائع التجارية والبريد والمسافرين والجنود.
بهدف جعل مصر أكثر جاذبية من الطرق التجارية التقليدية حول رأس الرجاء الصالح والمنافسين الآخرين في ممرات بلاد ما بين النهرين أو بلاد فارس، عمل محمد علي على تحسين البنية التحتية للبلاد بالتعاون مع رجل أعمال بريطاني يدعى توماس واغورن. وقد كرس محمد علي موارد كبيرة لبناء البنية التحتية اللازمة لتقصير أوقات السفر بين الإسكندرية وميناء البحر الأحمر في السويس.
تم استبدال هذا الطريق البري في النهاية بقناة بحرية، وكان هذا نتيجة لحدوث أحداث عالمية تاريخية على جانبي البحر الأبيض المتوسط. في عام 1848، بعد حكم مصر لأكثر من أربعة عقود من الزمن، استسلم محمد علي للمرض والشيخوخة ونقل السلطة إلى نجله إبراهيم. وفي نفس العام، حدثت أزمة اقتصادية مدمرة، وقد دفعت هذه الأحداث الشعبية التي اندلعت في أنحاء مختلفة من أوروبا إلى تقديم الدعم المالي لها. وعلى الرغم من أن هذه الطموحات الثورية تم قمعها بسرعة وعنف، إلا أن الأحداث التي جرت في ذلك العام أدت إلى تغيير طريقة التمويل العالمي وتأثيره على تطوير مشاريع البنية التحتية الضخمة في مختلف أنحاء العالم
ومع انحسار تداعيات الثورات المنهزمة، خطرت في أذهان جيل جديد من مصرفيين ورجال أعمال في المدن المالية الرئيسية في أوروبا فكرة أن الاستقرار السياسي والأرباح يمكن أن يتحققا من خلال إعادة تشكيل العالم بالفعل. وأشاروا إلى أن الطريقة الأكثر فعالية لمنع تكرار تلك التهديدات للنظام الاجتماعي ليست فقط في تصميم مساحات حضرية جديدة تقلل من عرضة هذه التهديدات، ولكن أيضًا في البحث عن فرص جديدة لإعادة توجيه رؤوس الأموال والعمل إلى الخارج. وقد اتاحت الفرصة الذهبية لهذا النوع من الأفكار بما في ذلك الطريق البري بنما كمرحلة إلى مناجم الذهب في كاليفورنيا، و استفادت مصر من هذا الفكر الجديد في إنشاء شركة النقل الخاصة بها كمرحلة أخيرة.
بعد استقرار الغبار الذي نتج عن الثورات المحبطة، خطط فرديناند دي ليسبس لإنشاء شركة مساهمة لحفر وإدارة قناة بحرية عبر برزخ السويس، وهو ما تم إنجازه فيما بعد. ويدين دي ليسبس بمهنته كرائد أعمال لقوى الثورة المضادة التي حشدت ضد المتمردين في عام 1848، إذ كان قد شغل منصب نائب القنصل في مصر من 1832-1837، بعد أن عمل سابقا في وزارة الخارجية الفرنسية. ورغم تعرضه للاضطهاد والحكم عليه وإقصائه من الخدمة الدبلوماسية، بسبب تحديه لأوامر وزارة الخارجية واعترافه بجمهورية مازيني الإيطالية الجديدة في عام 1849، إلا أنه نجح في إنشاء شركته الجديدة لحفر وإدارة القناة البحرية.
وفي سياق ذلك، تبين أن الخبرة السابقة لدي ليسيبس في التجارة ساعدته على تبني فكرة بناء قناة في برزخ السويس، ورغم أن هذه الفكرة لم تكن جديدة إلا أنها واجهت معارضة كبيرة داخل وخارج مصر. ونظرًا لأن محمد علي كان يركز بشكل كبير على تطوير الطرق البرية، فقد كان يعارض فكرة بناء القناة البحرية، حيث أنها كانت تشكل تهديدًا لدور مصر المهم في تجارة المرور العابر، وكذلك تشَّارك الشواغل نفسها مع شركائه البريطانيين. وفي لندن، اعتبرت حكومة اللورد بالميرستون أن مخطط القناة البحرية الفرنسي هو تهديد حديث لأمن المصالح البريطانية في الهند.
ومن جانبه، كان دي ليسيبس دبلوماسيا وكان يتصرف نيابة عن المستثمرين المحتملين في المشروع. وقد بنى علاقات ودية مع ابن محمد علي، سعيد باشا، خلال خدمته في مصر في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. وعندما تولى سعيد باشا حكم مصر كحاكم جديد في عام 1854، تغلب دي ليسيبس - رغم معارضة معظم وزراء سعيد باشا- على هذه المشورة ونجح في الحصول على امتياز لحفر القناة.
وستكون شروط هذا الاتفاق حاسمة، لا سيما بالنسبة لمشروع بناء الدولة المصرية والعلاقة بين الإمبريالية والتمويل العالي الذي سيؤثر على قسم كبير من العالم وحركة المرور التجاري في العقود القادمة. ومقابل مطالبة الشركة بحصة 15٪ من أرباح القناة المستقبلية، منحت مصر عقد إيجار لمدة 99 عاما للأرض التي سيتم العمل عليها لبناء القناة. ولإغراء المستثمرين في أوروبا بشراء أسهم في الشركة وجمع الأموال اللازمة لتمويل هذا المشروع الضخم، وافق سعيد باشا على منح استخدام العمالة المصرية للعمل المرهق والشاق لحفر الرمال والطين.
في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة بالتخلص التدريجي من نظام العبودية ودخولها في عصر الرأسمالية، كانت مصر تعاني من نظام عمل غريب يجمع بين العمالة الحرة وغير الحرة، حيث كان يتم فرض ضريبة على العمال في وقت العمل. وبالإضافة إلى ما دفعوه نقدًا أو منتجًا لامتلاك حق زراعة أراضيهم، فإن الفلاحين المصريين كانوا ملزمين بتقديم جزء من وقتهم وجهدهم للعمل في "الأشغال العامة" التي تحددها الحكومة.
وفي هذا الإطار، تحوّلت قناة السويس من مجرد مسار لتسهيل حركة التجارة العالمية إلى ثورة صغيرة في طريقة تحويل العمل و أرباحه من مكان ما إلى ربح في مكان آخر. وبفضل شروط الامتياز، أصبح هذا المشروع الضخم للبنية التحتية آلية لتحويل الضرائب المحصّلة في موقع واحد، غالباً ما يتم تحصيلها في نقطة البندقية، إلى أرباح تعتمد على الأدوات المالية المتداولة في مكان آخر. وفي المستقبل، سيكون لـ "التحسينات الائتمانية" من هذا النوع دور متزايد في تمويل البنية التحتية الاستعمارية، ولا سيما في السكك الحديدية الهندية.
إذا بدا المشروع يومًا ما وكأنه يعد بزيادة العوائد لتعزيز الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية في مصر، فإنه سيحدث نتائج عكسية مدهشة. رغم شروط الامتياز السخية للغاية، قاومت شركة دي ليسبس للحصول على مشترين لأسهمها في الشركة العالمية لقناة السويس البحرية. بعد جولة في أوروبا لترويج القناة كفائدة للإنسانية، أراد دي ليسبس إشراك آلاف المستثمرين في شركته العالمية. ومع ذلك، كان جمع رأس المال عن طريق الاكتتاب الجماعي في أسهم صغيرة مبتكرًا، ولكن أغلب الذين سمعوا عنها اعتبروها مكلفة للغاية ومحفوفة بالمخاطر. كان هناك بعض الناس خارج فرنسا الذين لا يزالون يعتبرون المشروع فرنسيًا ويخدم مصالح فرنسية ضيقة. وكان سعيد باشا واثقًا من مواهب دي ليسبس كبائع، ولذلك اتفق على شراء أي أسهم غير مكتتب فيها. وعندما انتهى دي ليسبس في وقت قصير، اضطر إلى الالتزام بالاتفاق وشراء ما تبقى، وتجاوزت النفقات الضخمة غير المتوقعة على القناة ما كانت الحكومة المصرية قادرة على تغطيته، على الرغم من الجهود الشاقة لاستخراج المزيد من العوائد من المناطق الريفية.
وجرى أن خلَّفَ الدين الذي على مصر بعد إنشاء قناة السويس تحمُّلاً كبيرًا على اقتصاد البلاد، وأدَّى ذلك إلى تقليص التوازن المالي لصالح أوروبا. وتترتب على هذا الوضع النتيجة الكارثية لمصر سياسياً. ولسد عجز الميزانية، لجأت حكومة سعيد وخلفه إسماعيل إلى الحصول على سلسلة قروض من البنوك في مراكز المال الرئيسية في أوروبا. ورغم أن مصر تمكَّنت من الحصول على قروض خلال فترة ارتفاع أسعار القطن العالمية خلال الحرب الأهلية الأمريكية، إلا أن هذا الاقتراض كان مبنيًّا على العائدات المتضخمة من محصول القطن، وبمجرد انخفاض الأسعار بعد انتهاء الحرب، أصبح العبء غير مستدام. وبحلول نهاية الستينيات من القرن التاسع عشر، كانت حكومة إسماعيل قد تعاقدت على قروض جديدة بشروط ابتزازية متزايدة لتغطية الديون السابقة. وفي عام 1875، حاول إسماعيل التغطية على المدفوعات بالتفاوض مع الحكومة البريطانية لبيع حصص مصر في قناة السويس.
كان الوقت قد تأخر، وفي العام التالي، عجزت مصر عن سداد قروضها، مما سمح لممثلي حاملي السندات الأجانب بالتدخل في تمويل الدولة وفرض إجراءات التقشف الصارمة عليها. وعلى الرغم من عدم شعبية هذه التدابير التقشفية، انضمت حركة واسعة النطاق في بداية الثمانينيات للدعوة للحكم الدستوري والعودة إلى السيادة المالية. ولكن خشية عدم قدرة مصر على سداد ديونها في حال نجاح هذه الحركة، احتلت بريطانيا البلاد في عام 1882. وبعد ذلك، عمل فريق جديد من "المستشارين" البريطانيين على ضمان تحويل ما يقرب من نصف العائدات الضريبية السنوية لمصر على وجه السرعة إلى حملة السندات الأجانب، في حين أصبحت الخزانة البريطانية أكبر مساهم في شركة قناة السويس، مما سمح لها باستغلال الأرباح المتزايدة عند حركة المرور في هذا الممر المائي في مصر لتغطية تكاليف الميزانية لدافعي الضرائب في بريطانيا." بهذه الطريقة، عبر عدم قدرة مصر على سداد ديونها، تم تقليص توازنها المالي لصالح الدائنين الأجانب، مما أدى إلى احتلال بريطانيا للبلاد وضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية في البلاد.
بعيداً عن الفوائد المالية الواضحة المترتبة على الاتفاقية الغريبة هذه، وجدت الحكومة البريطانية سبباً آخر للاهتمام بقناة السويس منذ فترة طويلة. في عام 1857، دفع التمرد الهندي بأهمية السيطرة على المعلومات والقوات بين المستعمرة والمدينة لتكون أكثر استراتيجية وسرعة. ولكن بسبب تركيز القناة في نقطة واحدة، أدرك المديرون للمستعمرة الإمبراطورية أنها قد تعتبر عائقاً أمام أشكال الحركة الغير مرغوبة، ولم يكن بوسع الجيش البريطاني أن يضمن مرور القوات المتنافسة عبر القناة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت السيطرة على المجرى المائي تسهل أنظمة أخرى للحركة.
وبغض النظر عن الفوائد المادية الواضحة المرتبطة بتطوير القناة ، فإن الحكومة البريطانية كانت تدرك منذ فترة طويلة الأهمية الاستراتيجية لهذا الممر المائي. وبعد سلسلة من الأوبئة التي اجتاحت العالم بشدة ، بدءاً من الكوليرا وحتى تاريخ إكمال القناة ، أدرك المسؤولون الصحيون الإمبرياليون العلاقة الخطيرة بين التجارة العالمية وانتشار الأمراض العالمية. وبناءً على ذلك ، تم تصميم منطقة القناة كمركز متقدم للحجر الصحي الدولي ، الذي كان يستند جزئيًا إلى النظريات العرقية والمناخية المتفق عليها لمعالجة انتشار المرض في ذلك الوقت. وقد كان هذا الإجراء يهدف بشكل أساسي إلى حماية السكان الأوروبيين من التهديد المحتمل الذي يمثله السفر من الأراضي الاستوائية إلى الشرق.
وفي النهاية، ورغم أن المناطق الاستوائية ربما كانت دافئة في عام 1869، فإن اكتمال قناة السويس ساعد أيضا في تعزيز التحول في تكنولوجيا النقل العالمي، الذي كان سببا في جعل تلك المناطق أكثر دفئا من ذي قبل. فالرياح المتقلبة ذات العرض الضيق، التي أدت إلى مشكلة الأسبوع الماضي، تعني أن السفن التي تمر عبرها لا يمكن أن تمر بأمان. وبعبارة أخرى، بُنيت قناة السويس لعالم جديد يعتمد على الوقود الأحفوري. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الرياح لا تزال القوة المحركة الأولى للسفر البحري، وكانت مجانية ولم تتطلب مساحة لتخزينها ولم تشكل خطرًا للاشتعال، كما أنها لم تتطلب التوقف للتزود بالوقود. ولكن بسبب أن الميزات الهائلة التي توفرها قناة السويس، والتي تتمثل في تجنب الطريق حول رأس الرجاء الصالح، كانت متاحة فقط للسفن البخارية التي تعمل بالفحم، لذلك لعبت قناة السويس دورًا كبيرًا في تسريع التحول نحو الأساطيل التي تحترق بالفحم أكثر وأكثر.
تحفّزت رواية متفائلة، وإن كانت غير صحيحة، عن التجارة العالمية بعد محنة السفينة إيفر جيفن، كما أعادت توجيه انتباه العالم إلى قناة السويس التي أصبحت الآن مسألة حتمية ومقبولة من قبل الجميع. وعندما أعلن الشاحنون الروسيون عن مزايا ذوبان الجليد القطبي، ربما دون قصد، كانوا يذكرون بجوانب متعددة في العالم التي تأثرت بقناة السويس. فإذا كان العالم أكثر اتصالاً، فإنه في الوقت نفسه أصبح أكثر سخونة وتفاوتاً في توزيع الثروة، وللعديد من الشعوب في جميع أنحاء العالم، أصبح أكثر ملاءمة لتسلسل القوة العالمية الذي تحققت عبر الرأسمالية المالية.
مترجم من مجلة Public seminar
إرسال تعليق