المحتويات [إظهار]
قصة تآزر الصهيونية واليسار في الماضي أصبحت مألوفة الآن. في السنوات التي تلت محرقة الهولوكوست، كان اليساريون في أوروبا والولايات المتحدة يدعمون تأسيس إسرائيل. ومن بين أوائل الداعمين كان الاتحاد السوفييتي الذي قدم المساعدة العسكرية الحاسمة خلال حرب عام 1948 (على الرغم من أن السوفيات سرعان ما انتقلوا لدعم خصوم إسرائيل العرب). وكان الصهيونية العمالية، وهي فكرة الكيبوتسات، تتحدث عن بناء مجتمع اشتراكي مثالي، ورأى العديد من الراديكاليين في الغرب أن إسرائيل هي دليل على أن الاشتراكية اللطيفة أكثر من النوع السوفياتي كانت ممكنة. وفي عهد ديفيد بن غوريون وخلفائه، كانت الثقافة السياسية المهيمنة في إسرائيل هي العلمانية والاشتراكية، ولكن بصورة أكثر ارتباطًا بالهوية القومية اليهودية بدلاً من النظرية الماركسية الصرفة.وكانت رئيسة الوزراء جولدا مائير، حتى عام 1972، محل تقدير زملائها من القادة الاشتراكيين في فيينا خلال المؤتمر الثاني عشر للاتحاد الاشتراكي الدولي.
لم تدم هذه المشاعر الجيدة طويلاً، فتغيرت الأمور بسرعة. بدءاً من أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، بدأ الراديكاليون في الغرب في إعادة توجيه اهتماماتهم وولائهم إلى الحركات المناهضة للاستعمار التي بدأت تنتشر في الجزائر وكوبا وفيتنام. وقعت إسرائيل على الجانب الخطأ في هذه النضالات الثورية، حيث كانت شريكةً للقوى الأوروبية القديمة في أزمة السويس عام 1956، ثم مع الولايات المتحدة في الستينيات. ولم تحقق حرب 1967 سوى تصلب هذا الرأي. حينها استولت إسرائيل على قطاع غزة ومرتفعات الجولان والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء والقدس الشرقية، وبالطبع فإن استعمار الفلسطينيين قد بدأ منذ فترة طويلة، ولكن في عام 1967، أصبحت الأمور أكثر وضوحاً بالنسبة للعديد من المنتمين إلى اليسار. حيث أصبحت إسرائيل الآن هي الظالمة، والفلسطينيون هم المضطهدين، كما قال إدوارد سعيد: "في غضون جيل واحد، تحول الإسرائيليون من مستضعفين إلى أسياد".
الراديكاليون هم الأفراد أو الجماعات السياسية الذين يسعون إلى تغيير النظام السياسي أو الاجتماعي بشكل جذري وسريع دون الالتزام بالعملية الديمقراطية التقليدية أو الإجراءات السياسية العادية. يتميز الراديكاليون برفضهم للحلول التقليدية أو المعتادة للمشاكل الاجتماعية أو السياسية وبتبنيهم للمواقف الشديدة والمتطرفة في قضايا معينة، وغالباً ما ينتمون إلى أطياف سياسية متعددة بما في ذلك اليسار واليمين والدينية والعلمانية. يمكن أن يتبنى الراديكاليون أيضًا أساليب غير ديمقراطية لتحقيق أهدافهم، مثل العنف أو الإرهاب أو التمرد.
لم يقتصر الأمر على تخلي الراديكاليين في الغرب عن إسرائيل، بل تحولت إسرائيل أيضًا نحو اليمين. وتبنت سياسة أكثر تطرفاً. وفي حرب الأيام الستة، التي انتهت بنصر إسرائيل، كان هناك مزاج قومي مسموم و ولع بعسكرة أدوات الدولة. و هذا المزاج المتطرف لم يهدأ، بل أصبح جزءًا من الموقف الرسمي لإسرائيل المتورطة في الاحتلال والحرب بشكل دائم. في عام 1977، انتهت فترة حكم الصهيونية العمالية المتواصلة لمدة تقرب من ثلاثة عقود بفوز القائد السابق للإرجون والمناصر اليميني الانتقامي، مناحيم بيغن، في الانتخابات. ومنذ ذلك الحين، تأرجحت السياسة الإسرائيلية نحو اليمين، ولم تتولى قيادة البلاد حزب العمل سوى لأقل من ثماني سنوات في المجموع منذ عام 1977، حيث قاد شيمون بيريز لمدة تقرب من ثلاثة أعوام، وإسحاق رابين (الذي اغتاله متطرف يميني في عام 1995) لفترة أطول قليلاً، وإيهود باراك لأقل من عامين.
تحولت إسرائيل من نظام ديمقراطي اجتماعي شبه رسمي إلى نظام اقتصادي ليبرالي جديد. وتحرك حزب العمل وكثير من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية بعيدًا عن جذور الاشتراكية وانتقل إلى تبني سياسات التقشف والتحرير الاقتصادي. وأدى انتشار هذه السياسات إلى خصخصة الصناعات المملوكة للدولة وتقييد سلطة اتحاد نقابات العمال في إسرائيل. وتم خصخصة الكيبوتسات وتحويلها إلى مجتمعات يهودية مغلقة. ولم يعد قادة البلاد يتحدثون بشكل كبير عن بناء hevrat mofet أي نموذج المجتمع العادل، ولكنهم يتحدثون بشكل متزايد عن التكنولوجيا الفائقة والحرب الإلكترونية. وتم حذف مصطلح "السلام" من المفردات السياسية الوطنية بعد عقود من الحكم العسكري في الضفة الغربية وفشل اتفاقات أوسلو وعنف الانتفاضة الثانية. ويعتبر بنيامين نتنياهو، الذي تحول إلى مستشار إداري ثم رئيس وزراء، أطول رئيس وزراء يخدم إسرائيل، ربما لا يوجد من هو أفضل منه.
كتاب "عرين الأسود" هو آخر أعمال سوزي لينفيلد، وهو موضوع لتصادمات بين الصهيونية واليسار كما وضحت. يهدف هذا الكتاب إلى استحضار "حزنها المزدوج". يتناول الكتاب في البداية قول الكاتبة: "أنا حزينة بسبب كراهية اليسار المعاصر لإسرائيل…"، ثم تتحدث عن حزنها بسبب المسار الذي تسلكه إسرائيل المعاصرة. وموضوع الكتاب هو بشكل أساسي عن الحزن الأول أكثر من الثاني، حيث يُسلط الضوء على الرؤى والأفكار التي تم التعبير عنها من قبل بعض المثقفين الذين ناقشوا "المسألة الصهيونية" في النصف الثاني من القرن العشرين، مثل: هانا آرنت، آرثر كويستلر، ماكسيم رودينسون، إسحاق دويتشر، ألبرت ميمي، فريد هاليداي، آي إف ستون، وناعوم تشومسكي. يعتبر الكتاب انتقادًا واسعًا لما تعتبره لينفيلد نقصًا في العديد من وجهات نظر هؤلاء المثقفين حول إسرائيل، بما في ذلك ترددهم في انتقاد الفلسطينيين بشكل حاد كما يفعلون مع الإسرائيليين، كما ينتقد الكتاب الكيفية التي أصبح بها التناقض والعداء في بعض الأحيان بين الصهيونية وإسرائيل أمرًا مركزيًا في سياسات اليسار المعاصر.
يعتقد الكتاب بأن اليسار الغربي انتقل من تعريف نفسه كمعارض للفاشية إلى تعريفه كمعارض للإستعمار، وهو ما يعكسه جزء كبير في الكتاب. ونتيجة لهذا التحول، تخلى اليساريون الغربيون، بما فيهم عديد من المفكرين الذين ذكرتهم لينفيلد، عن إسرائيل واعتبروا أنفسهم "حلفاء تابعون" في النضال ضد الاستعمار. وترى الكاتبة أن معاداة الإستعمار ليست جديدة بالنسبة لليسار، حيث انتقد كل من ماركس وإنجلز ولوكسمبورغ ولينين الإمبريالية الغربية، وغالبًا ما تترافق السياسات المضادة للاستعمار مع السياسات المضادة للفاشية. ولكن اهتمامها الرئيسي هو "كيف تعكس" تبني هؤلاء المثقفين للأفكار المضادة للاستعمار وانتقاداتهم المتزايدة لإسرائيل انحرافًا ملحوظًا، في رأيها، عن التزاماتهم ومثلهم الطويلة الأمد لليسار التقليدي.
تقدم لينفيلد قراءات مفصلة ودقيقة في كثير من الأحيان حول كيفية تعديل رؤى من ذكرتهم من المفكرين فى كتابها لتحليلاتهم وأيديولوجياتهم للتضاريس السياسية المعقدة والمتحولة باستمرار فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومع ذلك، فإن التأثير التراكمي ينعكس في التشكيك في معارضة هذه الرؤى لإسرائيل بشكل شامل. وبدلاً من توضيح أسباب انفصال اليسار والصهيونية فجأة، تٌظهر لنا لينفيلد التوترات الشخصية التي كانت موجودة منذ فترة طويلة بين القومية الإقصائية للصهيونية والمساواة والأممية في اليسار. وليس الأمر كما يظهر، فاليسار لم يتخلى فجأة عن إسرائيل والصهيونية، ولكن المفكرين اليساريين -على الرغم من أن ليس جميع مواضيع لينفيلد ينتمون لليسار- ناضلوا من أجل التوفيق بين أنفسهم و أفكارهم والظلم الذي تعرضت له فلسطين بعد تأسيس إسرائيل.
تتهم لينفيلد في هذا السياق المثقفين، الذين رفضوا أو فشلوا في فهم صراع إسرائيل-فلسطين دون تشوهات أيديولوجية، والذين لم يجدوا الفلسطينيين يستحقون الظلم الواقع عليهم. وعلى عكس الصهاينة الليبراليين الذين تحدد هويتهم، فإن هؤلاء المثقفين يشكلون تهديدًا لرؤية لينفيلد، إذ يرجع ذلك إلى تمسكهم بـ "الدوغماتية" والخيال والتلاعب، وفشلهم في الالتزام بـ -كما تسميه- "مبدأ الواقعية" بقدر ما ينبغي، والذي تعتبره لينفيلد أحد أساسيات النضال ضد القمع والفوضى. بغض النظر عن ما يعني ذلك بالضبط
وتريد لينفيلد أن تضع نفسها بين هؤلاء المفكرين الواقعيين الجريئين الذين يستعدون لانتقاد كل من الجانبين بنفس الدرجة و يظهرون التزامهم بحل الدولتين. ولكنها بذلك تؤكد بوضوح ما وجدته مرفوضًا في مجتمعها: "الاستعداد للتخلي عن الإيديولوجية والتفكير الذي يستند إلى الأوهام والأحلام والانتقال إلى الواقع". ويتضح أن كتاب لينفيلد لا يتعلق بكيفية فقدان اليسار لحبه للصهيونية بل يتعلق أيضاً بكيفية فقدان الصهاينة الليبراليين -الذين يغرقون في أوهامهم الخاصة- حبهم لليسار.
تبدأ لينفيلد في كتابها "عرين الأسود" بفصل طويل يتحدث عن هانا آرنت، المفكرة الألمانية اليهودية. وتلاحظ لينفيلد أنها جاءت إلى السياسة من خلال الصهيونية، وإلى الصهيونية من خلال هتلر. وعلى الرغم من عدم ارتباط آرنت باليسار، إلا أن لينفيلد استخدمت قصتها لتروي كيف اختلف مفكرًا رئيسيًا مع السياسة الصهيونية فى فترة ما بعد الحرب.
عملت آرنت في ثلاثينيات القرن العشرين في مجموعة تسمى المهاجرون الشباب، التي أخذت الشباب اليهود اللاجئين إلى فلسطين الانتدابية - فترة الانتداب البريطاني على فلسطين-، قبل أن تهرب آرنت إلى الولايات المتحدة في عام 1941. وولدت صهيونيتها المبكرة من الإحباط إزاء ما اعتبرته رفض الشعب اليهودي الجماعي للعمل كعملاء في التاريخ والدفاع عن أنفسهم كيهود.(إن العجز الإرادي لليهود سيبقى من اهتمامها طوال حياتها)، ولكن إذا كانت آرنت تحتضن في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية الصهيونية من باب الضرورة، فإن التزاماتها تغيرت فى فترة خلال وبعد الحرب. واجهت تدمير أوروبا، واستنتجت (بطريقة خاطئة) أن عصر الدولة القومية قد انتهى، وأن دولة يهودية ذات سيادة في الشرق الأوسط كانت فكرة متأخرة ويوتوبية لا يمكنها ضمان سلامة اليهود. بالنسبة لآرنت، كانت الكيان المشترك الثنائي أو الاتحاد الإجباري في فلسطين هو السبيل الوحيد لتجنب دورة جديدة من النزيف الطويل.
رأت آرنت في الصهيونية السياسية، ليس فقط الموافقة على فكرة معاداة السامية كقوة خالدة ولا تتغير في العالم، ولكن أيضًا أيديولوجية امتصت ، إلى حد ما، بعض الصور المتعلقة باليهود الأوروبيين و التى قدمها النازيون وهو ما جعلها ترفض الصهيونية وتبحث عن حلول أخرى.
ترى لينفيلد بأن انتقاد آرنت للصهيونية وإسرائيل ما بعد عام 1948 يمثل "تحذيرًا" فقط، ولا يُعتبر انتقادًا ضد الصهيونية أو الدولة القومية كما يظن معجبوها المعاصرون. فمن وجهة نظر لينفيلد فإن هذا النوع من الانتقاد يجسد مخاطر "فرض نظريات سياسية مجردة، وحتى لو كانت عبقرية، على مشكلة سياسية محددة". تضيف لينفيلد بأن تحليل هانا آرنت تشوهه ليس فقط "التناقضات الشديدة" في فكرها، ولكن أيضًا بـ "العواطف السياسية والتصورات السحرية". فمن وجهة نظرها، تعتقد آرنت بأن المطالب الإقليمية المتنافسة بين العرب واليهود يمكن التوفيق بينها في دولة فيدرالية أو ثنائية القومية، وهو ما يمثل خطورة على الواقع السياسي المعقد. وبالرغم من أن انتقاد آرنت يركز على العواقب الأخلاقية المترتبة على الصهيونية، فمن الممكن أن يساء فهم دور هذا النوع من الكتابة لهانا آرنت. ترى لينفيلد أن هذا يدل في النهاية على ما تجده مزعجًا في نهج اليسار تجاه إسرائيل والصهيونية بشكل عام، وهو الرغبة في "فرض" النظريات على حقائق الصراع بين واقع إسرائيل - فلسطين.
من آرنت، انتقلت لينفيلد إلى آرثر كوستلر في ما يمكن القول بأنه أفضل فصل في الكتاب. وُلد آرثر كويستلر في بودابست عام 1905، وكان صحفياً وروائياً وناشطاً ثورياً متجولاً. ووصفه المؤرخ تيموثي شنايدر بأنه "رجل يعرض عقله وجسده لطائفة مخيفة من الإيديولوجيات القرن العشرين، تشبه رجلاً سليم الصحة يتطوع لحياة من العلاج الإشعاعي". كان كويستلر أيضاً من الأعضاء النشطاء في الأخوية الصهيونية اليمينية في فيينا خلال عشرينيات القرن العشرين، والتي كان يرتدي أعضاؤها الزي العسكري وتتحدى النوادي القومية النمساوية الفاشية في المبارزات. وكان كويستلر من المؤيدين المتحمسين للزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي، وعمل كسكرتير شخصي له بعد التخرج. بعد ذلك، انتقل كويستلر إلى فلسطين حيث عاش في كيبوتس في وادي يزرعيل، ولكنه لم يشعر بالارتياح هناك وعاد إلى أوروبا. في عام 1930، انضم كويستلر إلى الحزب الشيوعي في برلين، لكنه ترك الحزب بحلول عام 1940 وكتب روايته الكلاسيكية "ظلام في الظهيرة"، التي تدور أحداثها حول المحاكمات الستالينية الاستعراضية من منظور بلاشفي قديم مدان. وأصبح كويستلر فيما بعد مناهضًا متحمسًا للشيوعية وعاد إلى الصهيونية.
بحساسية وبراعة، تروي لينفيلد قصة كويستلر، حيث تتناول تحولاته الفكرية من الصهيونية التحقيقية إلى الشيوعية ثم إلى معاداة الشيوعية، إضافة إلى اهتمامه المتأخر بتاريخ أصول اليهود الأشكناز وأثر ذلك على علاقته بالصهيونية. وبفضل هذا التأريخ الواسع، يعيد كويستلر للمناظرات الحالية درجة من التحديد التاريخي المفقود في كثير من الأحيان.، ويضع علاقته بالصهيونية ضمن إطار أشمل يشمل العديد من المنافسين الإيديولوجيين.
فيعلى عكس أرندت التي كانت تتصور الصهيونية من خلال منظور ناقد، كان كويستلر لفترة من الوقت مؤمنًا حقيقيًا بالفكرة الصهيونية، وعبره تتفاعل لينفيلد مباشرة مع الأفكار والمفكرين والنصوص الصهيونية الأصلية. تلاحظ لينفيلد كيف انتشرت فكرة شليلات ها جولا، وهي فكرة صهيونية تؤكد أن التحرر اليهودي سيتحقق عن طريق عودة يهود الشتات، عبر قصيدة حاييم ناحمان بياليك "في مدينة الذبح" التي كتبها بعد مذبحة كيشينيف في عام 1903. وتُشير أيضًا إلى الأسباب التي جعلت الصهيونية تثير صعوبة بالغة في الانفصال عنها أو اعتناقها بشكل كامل لدى الكثير من المفكرين الأوروبيين بسبب الازدراء والتنازل الكبير الذي يتم توجيهه إلى اليهود في الكتابات الصهيونية. وعلى الرغم من أن الصهيونية اقترحت أن الاستيطان اليهودي في فلسطين يمكن أن ينهي حرمان اليهود واستعبادهم لأكثر من ألفي عام، فإن ظهور دولة يهودية في فلسطين كان بمثابة إخفاق للصهاينة الأوائل. حيث بدلًا من حل القضية اليهودية بشكل نهائي، فإن تأسيس إسرائيل خبأت المشكلة في عالم الجغرافيا السياسية في ظل الظروف الداخلية والإقليمية المعقدة.
فصل الكاتبة لينفيلد حول الصحفي الأمريكي الشجاع إيزي ستون واحد من أقوى الملامح في كتاب لينفيلد، ، حيث يستكشف التناقضات في الصهيونية والتحديات التي واجهها اليسار في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. مثل كويستلر، ولد ستون في السنوات الأولى من القرن العشرين، وتتشابه تجربته اليهودية الأمريكية مع تجربة كويستلر الأوروبية. ومثل العديد من اليهود في جيله، تحول ستون من ناشط يساري يديشي مؤيد لتحرير الشعوب إلى مؤيد شديد للصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية. في رحلته إلى فلسطين في عام 1947، انضم ستون إلى الناجين من المحرقة في رحلتهم الصعبة عبر البحر من مخيمات النازحين في أوروبا إلى حيفا الذي كان يحتله البريطانيون، ورأى في إنشاء إسرائيل جزءً لا يتجزأ من أمن اليهود. ومع ذلك، في فترة ما بعد الحرب، تباينت رؤية ستون عن رؤية كويستلر. لم يتخلى ستون أبدًا عن معتقداته الاشتراكية، لكنه أصبح أكثر انتقادًا لما بدت عليه الصهيونية في التطبيق. كتب ستون بعد فترة قصيرة من الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1967، وأعرب عن أسفه لتزايد النزعة العسكرية والقومية الليليبوتية في الثقافة الإسرائيلية، والتي يراها تتعارض مع اليسارية اليهودية العالمية.
"جزيرة ليليبوت" هي جزيرة خيالية تم ذكرها في رواية "رحلات جوليفر" للكاتب الإنجليزي جوناثان سويفت. وفي الرواية، يذهب البطل جوليفر إلى جزيرة ليليبوت ويكتشف أن الناس الذين يعيشون هناك يمتلكون حجمًا صغيرًا للغاية، وأنهم يتصفون بالغباء والطمع والفساد. كما يعملون في مجالات غير عادلة ويتمتعون بثقافة سيئة وغير متقدمة.يتم استخدام "الليليبوتية " كمثال على الجهل والمعرفة المحدودة والتراجع الثقافي والأخلاقي في بعض الثقافات، كما يستخدم كمصطلح ساخر في اللغة الإنجليزية لوصف أي مكان يتمتع بثقافة سيئة أو غير متقدمة أو للإشارة إلى أي شيء بأسلوب ساخر أو استهزاء.
في سياق تقييم المثقفين اليساريين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تعرض الكاتبة سوزان لينفيلد لانتقادات حادة لتحول السياسي روبرت ستون في السنوات الأخيرة. فقد أشارت إلى أنه أصبح ضحية "المغالطة النرجسية: الاعتقاد بأن الجميع يشاركون أهدافك ورؤيتك الأساسية"، وانتقدته لعدم قدرته على رؤية "أن العديد من الفلسطينيين وحلفائهم في العالم العربي لا يريدون السلام، على الرغم من اتهامه للقادة الإسرائيليين بالتحديد بذلك". واتهمت لينفيلد ستون بـ"عدم الاهتمام، أو حتى الإدراك، للجانب القومي الفلسطيني والعربي الأكبر". وعلى الرغم من أنها قد تتحدث عن كتابين يساريين آخرين في تلك الفترة، إلا أن تلك الانتقادات لا تتماشى تماماً مع واقع ستون، الذي انتقد بشدة الرفض بين بعض النشطاء العرب للتعامل مع إسرائيل، وفي مراجعته لعدد خاص لمجلة "ليه تامب موديرن" عام 1967 بعنوان إسرائيل-فلسطين، والتي انتقدتها لينفيلد بشدة، أظهر ستون فهمًا واضحًا للمواقف الشعبية تجاه إسرائيل واليهود في العديد من الدول العربية في ذلك الوقت، والتي أعرب عنها، كما وصفها، "البرامج التدميرية الذي تعتدي به الإذاعات العربية".
وقد تعرض المثقفان ماكسيم رودينسون وإسحاق دويتشر لانتقادات مماثلة، اللذين يشتركان في تأليف الكتب النقدية والدراسات العلمية في مجال الشرق الأوسط وخاصة الإسلام، ويتناولان قضايا إسرائيل - فلسطين والسياسة اليهودية. ومن بين إسهامات رودنسون، المولود في باريس لأبوين يهوديين شيوعيين قُتلا في أوشفيتز، مقال مؤثر في قضية لانزمان بعنوان "إسرائيل، حقيقة استعمارية؟"، الذي ساعد على تعميم التحليل المعادي للاستعمار من إسرائيل وفلسطين في أوروبا والولايات المتحدة
كان إسحاق دويتشر، الذي وُلِد في جنوب بولندا، مفكرًا ماركسيًا مستقلًا وتلموديًا سابقًا، من بين الذين دمرهم النازيون بعد أن دمروا عائلته مثلما حدث مع عائلة رودنسون. اشتهر دويتشر بسيرته الذاتية المكونة من ثلاثة مجلدات عن ليون تروتسكي، وكتب العديد من المقالات الهامة، بما في ذلك التحقيقات الصحفية، حول إسرائيل وفلسطين. كان ملتزمًا بالأممية، ولم يكن صهيونيًا قط، كما لم يكن معاديًا للصهيونية. حتى في أقسى انتقاداته للصهيونية، مثلًا في مقابلة يونيو 1967 مع صحيفة اليسار الجديد، قدم رؤى عميقة في التاريخ اليهودي والمعاناة مع شعور عميق من الحميمية.
بالنسبة لـ لينفيلد، فإن رودينسون ودويتشر مذنبان أيضًا في التقليل من المعارضة العربية والتركيز بشكل مفرط على العدوانية الإسرائيلية وفائض القومية الإسرائيلية. وتكتب أن "فيما يتعلق برد فعل العالم العربي حيال تأسيس إسرائيل، فإن استدلال رودينسون كان خاطئاً"؛ حيث أنه عزا "غضب الإقصاء" العربي إلى الإسرائيليين بشكل محدد. وومع ذلك، فإن هذه ليست الانطباع الذي يتم الحصول عليه من عمل رودينسون. ففي "إسرائيل والعرب"، على سبيل المثال، يكتب بوعي كبير عن الأسباب الهيكلية للاتجاهات الرجعية والمعادية للسامية في المجتمعات العربية في ذلك الوقت. ويرى نفسه صديقًا للتحرر العربي، ويسعى جاهدًا لمساعدة الحركة الفلسطينية من خلال التصدي للأساطير العربية والمفاهيم الخاطئة عن اليهود، مثلما كتب في مقاله "الآراء العربية للصراع الإسرائيلي العربي". وعلى عكس وصف لينفيلد، فإن رودينسون لم يكن معاديًا للصهيونية بشكل بلا سبب، بل كان اشتراكياً ملتزماً بالدولية وملحداً يرفض الشوفينية القومية للصهيونية وأعرب عن أمله في أن تزول من المشهد في نهاية المطاف.
يعتبر دويتشر، أكثر من أي شخص آخر في الكتاب، ملمًا بأشكال التعبير السياسي اللاهوتي اليهودي الأكثر محافظة والأكثر قيدًا والأكثر شوفينية، حيث انزعج من "التصوف القومي الصهيوني… "عند زيارته لإسرائيل. رأى في الحاجة إلى وجود دولة يهودية ونجاح إنشائها كارثة فظيعة، وذكر بأن طبقة العمال الأوروبية التي كان يؤمن بها إيمانا عميقاً لم تفشل فقط في هزيمة الفاشية، بل شاركت أيضًا في تدمير أوروبا واليهود الأوروبيين معها. "وسوف تظل إسرائيل مفارقة تاريخية كئيبة" كما كتب في عام 1954.
تتزايد إحباطات لينفيلد من انتقاد اليسار لإسرائيل ومعارضته للصهيونية مع تحول الأمور إلى ما بعد عام 1967. وتعد فصلها عن نعوم تشومسكي، الذي ربما يمثل أكثر من أي مفكر يساري أمريكي آخر إرث اليسار الجديد من معاداة الإمبريالية، الفصل الأكثر شراسة في الكتاب. بالنسبة للينفيلد، فإن "الاستيجماتية" الأخلاقية التي تنسبها إلى أرندت، ستون، رودينسون، ودويتشر كانت أكثر حدة في كتابات تشومسكي عن النزعة العسكرية الإسرائيلية، والحركة الوطنية الفلسطينية، واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة.
الاستيجماتية الأخلاقية هي نظرية أخلاقية تركز على القيم الشخصية والاختيارات الفردية للفرد، وتعتبر الحق والخطأ والصواب والخطأ نسبيين ويتوقفون على وجهة نظر الفرد. وبموجب هذه النظرية، فإن الأفعال التي يقوم بها الفرد يمكن أن تتعارض مع أخلاقيات المجتمع العام، ولكن إذا كانت تتماشى مع قيم الفرد الخاصة، فإنها تكون مقبولة.
تفتتح لينفيلد فصلها بإيجاز تطورات الرأي السياسي لتشومسكي، بدءاً من تربيته الصهيونية الثقافية حيث كان والده حاخاماً، وانتمائه في سن المراهقة إلى حركة الشباب الاشتراكية الصهيونية "هاشومير هاتسائير"، ومعتقداته في الثنائية القومية حتى عام 1975، ورأيه الحالي الذي يرى بأن وجود دولتين أكثر واقعية من وجود دولة واحدة. ومع ذلك، يبدو هذا الفصل أقل كونه مسحاً لآراء تشومسكي وأكثر كونه هجوماً مباشراً عليه.
في بعض الأحيان، تكون لينفيلد لا ترحم في استنتاجاتها لما تعتبره أخطاءً مدمرة من قبل تشومسكي، بدءاً من معارضته لتدخل حلف شمال الأطلسي في حروب البلقان إلى أخطائه المختلفة في الحقائق على مر السنين. تستهزئ بانحيازه الزائد للتفاصيل، و أخطاء مصادر كتبه، والأهم من ذلك كله، ما تصفه بـ "الصلابة الأيديولوجية المعيبة التي تمنعه من فهم ما يحدث في العالم من حوله مرارا وتكرارا". تتهم تشومسكي، بأنه مفصول تمامًا عن الواقع، ومدفونًا تحت أوراق كتاباته، جعلته يعيش مسجوناً في عالمه الخاص، وهو ما تسميه لينفيلد "برج تشومسكي العالي". وبالتالي فإن الصادرات الفكرية الخبيثة لـ "برج تشومسكي العالي" -كما تصفها- قد أصبحت كابوسًا لليسار الأمريكي، متهمة إياه بإضلال "أجيال من الشباب".
تُوجه لينفيلد اتهام (عدم الانخراط في الواقع) بالعديد من المواضيع التي تناولتها، بما في ذلك فى انتقادها لآرنت بسبب معارضتها الشديدة لدولة إسرائيل، ورودينسون بسبب ماركسيته الصارمة، وستون بسبب أمله الإنساني الواهم. وفقًا للينفيلد، فإن لا أحد، سوى المفكران الفرنسي التونسي المولد ألبير ميمي واليساري الإيرلندي فرد هاليداي، من استطاعا قراءة الواقع بشكل صحيح. ولكن في فصلها حول تشومسكي تظهر عيوب مشروع لينفيلد بوضوح.
بالتأكيد، يمكن أن يكون أسلوب ونغمة تشومسكي مزعجة أحيانًا، وقد يميل إلى المبالغة أحياناً والتبسيط في أمور أخرى في شؤون إسرائيل-فلسطين، فهو بعد كل شيء كاتب شعبي. وكما هو متوقع من شخص كتب لأكثر من نصف قرن، فقد ارتكب أخطاء سياسية وحقائقية، بعضها خطير. ومع ذلك، كان واحدًا من أشد المعارضين لإمبريالية الولايات المتحدة، والتدخلات العسكرية، والحروب الظالمة، في بعض الأحيان عندما كانت تكلفة الحرب مرتفعة. تشومسكي هو ربما واحد من أفضل الأمثلة على نفي ادعاء لينفيلد المتكرر بأن اليسار بعد الحرب ضحى بالتزامه بالمساواة ومكافحة الرأسمالية ومكافحة الفاشية لصالح مكافحة الإمبريالية. وعلى الرغم من كل شيء، إلا أنه جسد الصلة الثابتة بين المساواة الاشتراكية والتضامن الدولي المضاد للاستعمار فى حين لم يتجرأ سوى قلة من النخبة اليسارية كما يصفون أنفسهم يجرؤون على رفع علم أيٍ منهما. مثل دويتشر وستون، فقد شدد باستمرار على الصلة بين عدم المساواة في الثروة داخل البلاد وخارجها، وركز بنفس القدر من الطاقة على الكشف عن إجراءات الولايات المتحدة القمعية ضد مواطنيها، بقدر ما ركز على انتهاكات الجيش الأمريكي لحقوق الإنسان والقانون الدولي في الخارج
بناءً على تاريخه، فإن سجل تشومسكي في النضال ضد حرب فيتنام، والاحتلال الإسرائيلي، والنيوليبرالية، والدولة المراقبة يتفوق على سجل العديد من زملائه في اليسار الجديد، والذين في التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، اتجهوا نحو ما يسمى بـ "التدخل الإنساني" ونصروا الحروب التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فبعيداً عن أن يكون كابوسا - كما تصفه لينفيلد-، فإن تشومسكي كان وما زال بين أكثر الأضواء الأخلاقية ثباتًا في اليسار الأمريكي.
ترى لينفيلد أن الحالات التى ذكرتها فى كتابها من آرنت وستون ورودينسون وديوتشر وتشومسكي كلها تهدف إلى إثبات أن الواقعية الغير كافية قادت اليسار إلى تجاهل التاريخ وحتى تبرير الإرهاب والليبرالية الضعيفة. في رأيها ، هذا ما يفصل ميمي وهاليداي - بطليها في الكتاب - عن بقية موضوعاتها: أنهم "سمحوا للتاريخ بأن يكون له أهمية" و "بنوا مواقفهم السياسية على التاريخ بدلاً من العكس". ولكن عندما يصل المرء إلى نهاية الكتاب، تصبح هذه الادعاءات ليست مجرد عبارات مجردة،ولكنها علامة على إطار إيديولوجي غير مستقر في حد ذاته. فى الحقيقة أن جميع موضوعات لينفيلد يستجيبون للتاريخ، حتى لو لم تتفق ردود أفعالهم مع تفضيلاتها السياسية وحتى لو كانوا يخطئون في بعض الأحيان في فهم تلك اللحظات التاريخية. فعلى الرغم من أن الاعتقاد الذي شاركته آرنت ومعها ديوتشر بأن عصر الدول القومية انتهى في أوشفيتز لم يثبت صحته، إلا أنه كان يستند إلى تاريخهما من النفي والتهجير. والشيء نفسه ينطبق على رفض رودينسون لفكرة أن معاناة اليهود في الهولوكوست يبرر استعباد الفلسطينيين؛ إنه لم يكن يريد أن يتم استدعاء ذكرى والديه القتيلين لخدمة مثل هذا القضية. كما أن ستون وتشومسكي مفكران تاريخيان بشكل كامل قاما بتكييف مواقفهم مع واقعية الشرق الأوسط المعقد.
تتجلى الواقعية الصهيونية الهشة بوضوح في صفحات الكتاب الأخيرة للكاتبة لينفيلد، حيث تنتقد اليسار بشكل مباشر. ففي إطارها، لا يعني الواقعية الالتزام بما حدث على أرض الواقع، بل هو مجموعة من الالتزامات الثابتة، أقل حدودًا بكثير من تلك التي عهدناها لليسار التقليدي. فبدلاً من العولمة العادلة التي تقوم على التضامن مع جميع المحاربين ضد القهر، تقترح لينفيلد على اليسار الغربي الواقعي أن يحجبوا تضامنهم مع الذين ينددون بوسائل النضال التي يستخدمونها. وبدلاً من الاعتراف بالفروقات في القوة كجزء من أي حكم حول الاستخدام المشروع للقوة، تقترح أن يتم معارضة عنف المستضعفين والمستعمرين "بنفس القدر". وبالتالي، تؤدي تفضيلات لينفيلد السياسية إلى رؤية التكافؤ حيث لا يوجد، وإلى تسطيح العلاقات المعقدة والمتطورة للسلطة.
تتجلى عدم حساسية هذا النهج بشكل واضح في تناولها للنكبة الفلسطينية، والتي شهدت تهجير نحو 700 ألف فلسطيني من ديارهم على يد القوات اليهودية خلال حرب عام 1948 وما بعدها. وفي أجزاء مختلفة من الكتاب، على سبيل المثال، عندما تصف رفض العالم العربي للتقسيم بأنه "خطأ عالمي تاريخي لا يغتفر"، توضح لينفيلد كما لو كانت النكبة شيء جلبته الدول العربية على الفلسطينيين. فى بعض أجزاء الكتاب تشدد على أهمية توثيق وإدانة الفظائع الصهيونية خلال حرب عام 1948، لكنها تضيف أيضاً أنه "لا فائدة من التهرب من حقيقة أن الحرب قد حرضت عليها خمس دول عربية، غزت إسرائيل". وهذا يمثل الواقعية باعتبارها اللغة القاسية التى يجب تقبلها، إذ يعني أن غزو الجيوش العربية يبرر بطريقة ما تهجير مدن فلسطينية بأكملها، مثل اللد، أو الفظائع مثل مذبحة دير ياسين، التي روعت الكثيرين و دفعتهم الى الهروب.
وعندما تناقش لينفيلد الوضع في إسرائيل-فلسطين اليوم، تدرك أن فرص حل الدولتين ضئيلة، وتخلص إلى أنه بغض النظر عن مدى واقعية الأمر، فإن أولئك الذين يدعون إلى حل دولتين أو حل دولة واحدة ثنائية القوميات يعيشون في "سحابة من الأحلام"، وهي عبارة اقتبستها من كوستلر. وتحذر قراءها في الفصل الذي يتحدث عن هاليدي من أن الواقعية يجب أن تكون "تأكيداً، وليس استسلاماً، للقيم الإنسانية وحتى الثورية. الواقعية هي ما يمكن أن تجعل هذه القيم تتحرك من نظرية إلى واقع معيش، وهذا تجسيد وسن المبدأ وليس خيانة له". ومع ذلك، فإن "مبدأ الواقعية" الخاص بلينفيلد قد دفعها إلى تعليق المبادئ الإنسانية التي تعتنقها.
تعرف لينفيلد جيداً أن الواقعية تثير أسئلة حول المبادئ والضرورة فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. في الوقت الحالي، هناك احتمالان لانتهاء الصراع بحل الدولة الواحدة، والأكثر ترجيحاً من حل الدولتين. الاحتمال الأول هو الفصل العنصري، بشكل يجعلى الوضع الحالي كشكل دائم، و هو عبارة عن نظام يفرض أنظمة قانونية وتسلسل هرمي على أساس الهوية العرقية والدينية، وينكر بشكل منهجي الحقوق الأساسية لنصف سكانه الذين يعيشون تحت سيطرته. و الاحتمال الثاني هو دولة واحدة ديمقراطية وثنائية تضمن حقوقاً متساوية لجميع الأشخاص الذين يعيشون داخل حدودها. يجب على أولئك الذين لا يزالون يأملون في حل الدولتين أن يدركوا على الأقل أنه لم يعد الحل الأكثر احتمالاً، بناءً على الحقائق على الأرض، وإذا كان كل من حل الدولتين و حل الدولة الديمقراطية الثنائية القومية يتطلبان يتطلب اضطرابات كبيرة، وإعادة توازن هائل للقوى السياسية، وتحولات جذرية في الثقافة، فلا يمكن تسمية أي منهما بأنه أكثر واقعية من الآخر.
مع ذلك، يصر الصهاينة الليبراليون على أن النتيجة الوحيدة الممكنة هي حل الدولتين، مستندين إلى فهم إقصائي وغير متساوٍ للمواطنة والجنسية. هذا العناد يجعلهم يتشكلون في انعطافات إيديولوجية: يريدون أن يكونوا ديمقراطيين ليبراليين، ولكنهم يدافعون عن بلدا يزال غير ليبرالي ولا ديمقراطي ولا يلتزم بالمساواة، بل هو بلد قد حصر التمييز ضد حوالي 20% من مواطنيه، ومنذ أكثر من نصف قرن فرض نظامًا عسكرياً وحشياً على ملايين الأشخاص. يريدون أن يكونوا واقعيين، ولكن ما يقترحونه هو خيال مثالي يشبه خيال حل الدولة الثنائية الذي يرفضونه!
تُعرف لينفيلد الصهيونية بأنها إيمان بـ "دولة ديمقراطية للشعب اليهودي"، دون الاعتراف بأن دولة صهيونية لا يمكن أن تكون ديمقراطية ويهودية في نفس الوقت إذا كانت تضمن حقوقًا وامتيازات مختلفة على أساس الهوية الإثنية الدينية، وتحرم الحقوق الأساسية على الملايين من الأشخاص، وتنفذ سياسات وفقًا للمنطق العنصري يتم وصفه بـ "تهديد ديموغرافي".
إنّ كتاب "عرين الأسود" للكاتبة سوزان لينفيلد يعدّ كتاباً قيّماً، وذلك بفضل جودة بحثها وأسلوبها الأدبي الرائع، رغم أنه يتضمن بعض النقائص. وبغض النظر إذا كانت تقصد ذلك أم لا، فقد قدّمت لينفيلد مقدّمة مميزة وجذابة عن أعمال مجموعة متنوعة من المفكّرين الذين صرفوا جهودًا جبارة للتعامل مع التوترات الدائمة بين التزاماتهم اليسارية وتعاطفاتهم الصهيونية خلال القرن العشرين. والعديد من هؤلاء المثقفين يستحقّون المزيد من الاهتمام من قبل الجمهور الناطق بالإنجليزية في الوقت الحاضر، وبينما تم حذف بعض الأصوات المهمة -بشكل لافت- إذ لم يتم تقديم ملفاً واحداً عن مفكّر فلسطيني واحد، فإنّ لينفيلد قد أنشأت نوعًا من الأنطولوجيا لجيل جديد من اليهود الذين يسعون لفهم كيفية انتقاد إسرائيل والاحتلال والصهيونية من قبل أسلافهم. وسيجدون الكثير للجدال في كتاب ""عرين الأسود"، ولكن إذا قرؤوا بعناية، فسوف يتعلّمون الكثير منه.
مترجم من مجلة the nation
إرسال تعليق