"مصر بلد يحكمه المصريون، يسيطر عليه الإنجليز، والجميع يفعل ما يشاء." هذه هي الجملة التي كتبها اثنان من الأمريكيين من أصل أفريقي في رسالة مؤرخة في ديسمبر 1923، نُشِرَت في الصحيفة الأمريكية "The Chicago Defender". الشخصان هما بيلي بروكس وجورج دنكان، عازفا موسيقى الجاز العالميان اشتهرا في حياة الليل في القاهرة في عشرينيات القرن الماضي. كانت المدينة تعيش عصرها الذهبي كجزء من عقد العشرينات المزدهر عالميًا. بعد الحرب العالمية الأولى، هاجر العديد من الناس من أوروبا المدمرة فوجدوا أنفسهم يبحثون عن فرص في القاهرة. وكان العديد منهم يتوجهون إلى منطقة الأزبكية.
كان العديد من اللاتي وجدن عملاً في الكباريهات مجريات؛ لدرجة أنه كان من المعتاد أن يكون فتيات الجوقة المجريات جزءًا من حياة القاهرة في الفترة بين الحروب، حتى لو لم يكن الكثير منهن فعلًا من المجر. الحياة كانت صعبة كثيراً على هؤلاء النساء. فقد كان من الصعب أصلاً أن تكون راقصة حتى وإن كانت مصرية في المدينة، ولكن القادمات الجدد كانوا غرباء عن المدينة ولا يعرفون شيئاً عن طريقة الحياة هناك. كان العديد من النساء يعيشن في غرف صغيرة أو منازل متواضعة، وكانت الحياة صعبة بالنسبة لهن في حياتهن الجديدة.
في عام 1932، تناولت إحدى الراقصات جرعة كبيرة من المخدرات وسقطت - أو ربما، كما اعتقد الكثيرون- قفزت من شرفتها. قليلات فقط نجحن في إيجاد مكان مريح لأنفسهن في القاهرة. وأشهر هؤلاء كانت دينا ليسكا، راقصة ومغنية من أوروبا الشرقية، حققت شهرة كبيرة عندما رقصت وغنت في العروض الفرنسية العربية في أوائل العشرينات. في النهاية، تركت المسرح وافتتحت بار ليسكا في شارع عماد الدين.
في ديسمبر 1922، أعلنت الصحافة العالمية عن اكتشاف قبر توت عنخ آمون، وبدأت موجة من الإهتمام و الحماس العالمي نحو القاهرة. بحلول ربيع 1923، كانت النساء في باريس يرتدين قبعات توت عنخ آمون. أعلنت شركتان سينمائيتان، إحداهما في لوس أنجلوس والأخرى في براغ، أنهما يعملان على فيلم عن توت عنخ آمون. وفي غرب لندن، صمم المصممون فساتينهم الجديدة بناءً على اكتشافات من القبر، وفي أمريكا، تقدمت شركة لصناعة الحقائب بطلب للحصول على علامة تجارية لاسم توت عنخ آمون. كانت مصر على صدر الصحف حول العالم، وكان سكان القاهرة يشعرون أنهم يعيشون في قلب العالم.
بيلي بروكس وجورج دنكان سلكا طريقًا طويلًا انتهى بهما في القاهرة. وُلد الرجلان في الجنوب الأمريكي في أيام العبودية، وغادرا الولايات المتحدة من ميناء نيويورك في أوائل أغسطس 1878. سافرا مع ستين شخصًا آخر من الأمريكيين من أصل أفريقي للعمل في عرض مسرحي لفرقة جاريت وبالمر بعنوان "كوخ العم توم". ولم ينظرا إلى الوراء. افتتحت هذه النسخة المسرحية المتجولة لرواية هاريت بيتشر ستو "كوخ العم توم" في لندن في سبتمبر وسافرت عبر أوروبا. بدلاً من العودة إلى الوطن مع الفرقة، قررا بيلي بروكس وجورج دنكان استغلال تذاكر العودة الخاصة بهما وتجربة حظهما بمفردهما.
على مدى العقود القليلة التي تلت تلك الحقبة، أصبح الثنائي بيلي بروكس وجورج دنكان جزءًا من ساحة الأداء العالمية المزدهرة للأمريكيين من أصول أفريقية في أوروبا، حيث حققا النجاح وواجها الخطر والعنصرية المتوقعة (ففي بلجيكا أُعطيا عشرين دولارًا للعزف على العظام والدفوف في قفص مع خمسة أسود كبار. غادرا بعد الليلة الأولى، مسرورين بالنجاة بأرواحهم). في نهاية المطاف، في عام 1914، انتهى بهما المطاف في مصر وقررا الاستقرار هناك. في أوائل العشرينات، وبعد أن أصبحا من الفنانين البارزين، أسسا فرقة صغيرة تحت اسم "فرقة الجاز الشيطانية". في البداية، جلبا أربعة موسيقيين يونانيين للعزف معهم. لكن منذ البداية، كان تشكيل الفرقة مرنًا، وأظهرت في تنوع أشكالها تنوع الأشخاص العاملين في شارع عماد الدين بعد الحرب العالمية الأولى.
في أوقات مختلفة، كانت المجموعة تضم عازف بيانو روسي يهودي،الذي يعزف على البيانو بلطف وبراعة لدرجة أنك "إذا لم تلتفت إليه بين الحين والآخر، لن تدرك أنه يلمس المفاتيح". وكان هناك أيضًا عازف بانجو بولندي يهودي وُلد في مصر، وكان يعزف بأنامله بلطف. وكان هناك عازف ترومبون يوناني مدرب جيدًا، بالإضافة إلى امرأة روسية تعزف على الطبول وتحاكي "تأثيرات الرعد والبرق" الخاصة بها في الجزء الخلفي من المسرح. وفي رسائلهم، وصف بيلي بروكس وجورج دنكان ببراعة، قالا إنها تجعل الطبل الكبير "يتعرق بالتأكيد". وقد استأجرا مرة عازف طبول مصري محلي من نادي سيرو الشهير اللندني فرع القاهرة، حيث كان الفنان الأمريكي سيث جونز يقود الفرقة. وقد أحب الثنائي بيلي بروكس وجورج دنكان عازف الإيقاع المصري، الذي وصفاه بأنه "يتقن موسيقى الجاز بشكل رائع".
بعد مضي ما يقرب من عقد من الزمن في القاهرة، لم يكن بيلي بروكس وجورج دنكان في القمة حتى في ساحة الموسيقى الجاز المحلية. بالإضافة إلى العديد من الموسيقيين الأوروبيين والقلائل من المصريين الذين كانوا يعزفون في البلاد، كان هناك ما لا يقل عن عشرة موسيقيين من أصول أفريقية أمريكية أو من الهند الغربية يعملون بين القاهرة والإسكندرية. وكان أكثر الموسيقيين نجاحًا في أوائل العشرينات هو بيلي فاريل، وهو آخر أمريكي من أصول أفريقية، بدأت مسيرته المهنية في أواخر القرن التاسع عشر مع عرض مشوق وكان في هذا الوقت يكسب الكثير من المال بأداء الموسيقى الجاز للسياح الأجانب في الفنادق الفخمة. أما بيلي بروكس وجورج دنكان، فلم يكونوا جزءًا من سلسلة الفنادق. عزفوا في قاعات الرقص وما يسمونه "قصور الموسيقى". كان هؤلاء المكان يتردد عليه المصريون المحليون، وليس المسافرون الأثرياء، من مكان يشبه الكورسال في شارع عماد الدين وحتى الأماكن الأقل رفاهية في الأزبكية حيث يمكن أن تستمر الرقصات حتى الفجر.
بحسب قولهم، كانت القاهرة في العشرينيات مكانًا رائعًا لموسيقيين أمريكيين من أصل أفريقي. كانوا مسرورين لأنهم نجوا من التمييز العنصري في أمريكا في بداية القرن، وأيضًا من الأداءات المحفوفة بالمخاطر في أوروبا، وأرادوا الاستمتاع بأوقاتهم في القاهرة. أرسل الثنائي رسائل إلى "The Chicago Defender" ليخبروا القراء عن المتعة والحرية التي وجدوها هناك. ولاسيما، أحبوا تذكير السياح الأمريكيين البيض بلقائهم معهم، وخاصة الذين سألوا لماذا لا يرغبون في العودة إلى أمريكا:
ويبدو أنهم يتعلمون عن ظهر قلب أن يقولوا: "أنا أعرف السبب لعدم عودتكم هو أنكم تستمتعون هنا".
وعادةً ما يجيبون: "لماذا لا نستمتع هنا، في بلد الرجل الأسود؟ أنتم تستمتعون في أمريكا التي تعتبرونها بلد الرجل الأبيض. نحن هنا نأخذ امتيازات على نفس المستوى. إذا حدث أي شيء واضطررنا للقول 'صباح الخير يا قاضي'، فإننا نحصل على حقنا عندما نأتي بالورق المطلوب فقط."
في ظل نمو سمعة القاهرة العالمية، مرت مصر بفترة سياسية غير مستقرة بعد الثورة. كانت هذه الفترة مثيرة حيث قربتها من نيل حريتها، لكنها كانت أيضاً فترة عنيفة. حصلت البلاد الآن على استقلال شكلي، حيث ألغيت السلطنة واستُبدلت بالملكية. توفي السلطان السابق حسين كامل، وتم استبداله بابن آخر للخديوي إسماعيل، الملك فؤاد. و اكتسبت السلطة البرلمانية -التي كانت موجودة من قبل- قوة ومعنى جديدين في البلد الجديد.
في بداية عام 1924، كان الناس في انتظار نتائج الانتخابات الأولى. فاز سعد زغلول، بطل ثورة 1919، بأغلبية ساحقة كما كان متوقعًا، حيث حصل حزب الوفد الذي يتزعمه على ما يقرب من 90% من المقاعد. وفي نهاية كانون الثاني/يناير، تم تعيينه رئيسًا للوزراء وأعلن التزامه المستمر بالاستقلال التام لمصر. خلال فترة قصيرة، مر سعد زغلول بالسجن والمنفى ليصبح الزعيم الشعبي لأمة في تقدم نحو نيل استقلالها.
بالنسبة للنساء المصريات، كانت النصر حلواً و مراً في نفس الوقت، فقد تم استبعادهن من العملية السياسية الجديدة، وحُرمن من حق الترشح في الانتخابات أو حتى التصويت. وعندما أُصدِرَت قائمة بأسماء المدعوين لحضور حفل افتتاح البرلمان الجديد ولم تُدرج أي امرأة مصرية، كانت هذه هي النقطة الحاسمة وأثارت غضباً كبيراً. قبل أسبوعين من الحدث، كتبت منيرة ثابت، وهي شابة كانت تخرجت لتوها من المدرسة الثانوية، رسالة مفتوحة إلى صحيفة الأهرام العربية الرئيسية في مصر. على الرغم من أنها ستحصل لاحقًا على شهادة في القانون من فرنسا وستصبح واحدة من أبرز الناشطات النسوية في مصر، إلا أنها وصفت نفسها ببساطة بأنها "امرأة تطالب بحق التصويت". وقد طالبت قرّاء الصحيفة قائلة: "لم يكن للمرأة دورٌ أقل أهميةً في النضال من دور الرجل، لذلك فإنها تستحق - بحق ومن الناحية الأخلاقية والقانونية - أن تكون جزءًا من حفل افتتاح البرلمان الذي هو ثمرة لهذا النضال المشترك. لقد حُرِمنَا من حقنا في أن نصبح نساء منتخبات في هذا البرلمان، أليس من حقنا أن نشارك على الأقل في حفل الافتتاح كتعويض عن هذه الخيانة؟"
في 15 مارس، يوم حفل الافتتاح، وقفت مجموعة من الطالبات خارج بوابة البرلمان محملات بلافتات احتجاجية. نصف اللافتات تطالب بمطالب سياسية عامة، مثل انسحاب الجيش البريطاني، وحق الانضمام إلى جمعيات حرة، ووحدة مصر والسودان. ونصفها الآخر يدعو إلى قضايا نسوية بالتحديد: حق المرأة في التصويت، والمساواة بين الجنسين في التعليم، وتحديد عدد زيجات الرجل لزوجة واحدة. أكدت التصريحات العامة مدى شعور النساء بالخيانة بعد التضحيات الكبيرة التي قدمنها في النضال من أجل الاستقلال ولم يروا المزايا التي كانوا يتوقعونها. قامت اللجنة المركزية للمرأة بحزب الوفد، برئاسة هدى شعراوي - بطلة مسيرة النساء عام 1919 - بإرسال تلغراف إلى رئيس الوزراء والصحافة المحلية. وكانت تذكيرًا بأن النساء "كنّ نصف الأمة، شاركن في النضال والتضحيات التي أدت إلى استقلال بلدهن"، وأن استبعاد جميع النساء من حفل الافتتاح "كان فعلاً لا يليق". دعمت الصحف النساء، لكن مطالبهن لم تُحقق.
في عالم السياسة المصرية الذي كان يهيمن عليه الرجال حصلت العديد من المؤامرات والصراعات السياسية خلال العقدين من العشرينات والثلاثينات: تأسست أحزاب جديدة، وانقسمت أخرى، ودارت نزاعات على السلطة. استمر سعد زغلول وحزبه الوفد، غير راضين عن الشروط التي فرضها البريطانيون على سيادة مصر، في حملتهم من أجل الاستقلال الحقيقي. تنافست العديد من الأحزاب الأخرى للحصول على السلطة ضد سعد زغلول وحزبه. كان أهم المنافسين هو الحزب الليبرالي الدستوري، الذي ظهر جزئيًا للتنبيه إلى تسلط سعد زغلول على حزب الوفد. رفع الليبراليون الدستوريون شعار التقدم التدريجي نحو الاستقلال الكامل والتركيز على التفاوض السلمي مع البريطانيين. بالإضافة إلى هاتين القوتين السياسيتين الكبيرتين، ظهر حزب الاتحاد، والذي نشأ بشكل كبير لدعم الملك وسياسات القصر. وفي نفس الوقت، جاء رؤساء الوزراء وذهبوا؛ حيث استمر عدد قليل جدا منهم لمدة عام. في أوائل الثلاثينات تم كتابة دستور جديد تمامًا، لكنه تم التخلي عنه بعد بضع سنوات.
على الورق، لم يعد البريطانيون يحكمون مصر. ولكن البريطانيين لم يرحلوا تماماً: كانوا حريصين على الحفاظ على مصالحهم في السودان وقناة السويس، واحتفظوا بوجود عسكري كبير في البلاد وسيطروا على مؤسسات الدولة مثل قوات الشرطة، حيث بقي العديد من المسؤولين الكبار من البريطانيين. كان المصريين يتسائلون عن سبب استمرار المحتل السابق في ممارسة الكثير من السيطرة في البلاد.
كان المشهد السياسي الفترة بين الحربين العالميتين معقدًا للغاية. ويمكن تفسيره عادةً على أنه منافسة بين ثلاثة أطراف: البرلمان والملك والبريطانيين، حيث يعمل كل طرف على تدعيم نفوذه سواء بشكل علني أو خلف الكواليس. اعتمد البرلمان على شرعيته الشعبية، في حين استخدم الملك صلاحياته الدستورية الواسعة (مثل تعيين رئيس الوزراء)، واعتمد البريطانيون مزيجًا من النفوذ والمكر. ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا أيضًا يواجهون تحالفات متغيرة، وصراعات شخصية، وتدخل من جهات خارجية. كانت "العصر الليبرالي" الجديد في مصر مزيجًا معقدًا من الأيديولوجيات والتأثيرات والمصالح.
انتشر العنف فى هذه الفترة أيضاً. نظمت شبكة من الجمعيات السرية بأسماء مخيفة مثل "اليد السوداء" أو "جمعية الانتقام" هجمات واغتيالات عنيفة، غالباً ضد أهداف بريطانية. ووصلت موجة التفجيرات وإطلاق النار إلى أوجها في عام 1924 عندما اغتيل المندوب السامي البريطاني للسودان لي ستاك في القاهرة. كان لهذا الحادث عواقب بعيدة المدى: تم القبض على المجرمين وتنفيذ حكم الإعدام عليهم، لكن البريطانيين، الذين طالبوا بالانتقام، استغلوا الحادث لإعادة تأكيد سيطرتهم. اعتبروا أن سعد زغلول وحزب الوفد، بآرائهما المناهضة للبريطانيين، يتحملون بعض المسؤولية عن الجريمة. انتشرت برقية داخلية بين المسؤولين البريطانيين زعمت أن "روح الانضباط والكراهية التي حثت عليها الحكومة المصرية من خلال خطابات عامة ونشاطات حزب الوفد لا يمكن إلا أن تعتبر مساهمة في الجريمة." في 24 نوفمبر، بعد خمسة أيام فقط من اغتيال ستاك، كانت الأزمة شديدة لدرجة أن سعد زغلول استقال من منصب رئيس الوزراء ولم يعود ليتولى هذا المنصب مرة أخرى. توفي في أغسطس 1927، وعانى من تأثيرات محاولة اغتيال منفصلة تعرض لها في صيف عام 1924.
من الصعب معرفة بالضبط إلى أي مدى كان سيتبع الناس كل خطوة في الاضطرابات السياسية في مصر. ولكن عند النظر إلى مشهد الحياة الترفيهية، فإنه من المهم على الأقل أن نأخذ في اعتبارنا الصورة الكبيرة لديمقراطية حديثة تم إنشاؤها بمصاحبة الصراعات السياسية والوطنية المتزايدة والنضال المستمر ضد الاستعمار.
مقتطف من كتاب الحياة الليلية فى مصر فى العشرينات: مغنيات مصر الصاخبات لرفائيل كومارك
إرسال تعليق