انتهت حروب طروادة بانتصار الإغريق وهزيمة طروادة، حيث عاد العديد من الإغريق إلى ديارهم بعد نهاية الصراع. ومع أنه عاد الكثيرون إلى منازلهم، بقي البطل العظيم أوديسيوس محاصرًا في جزيرة بعيدة تُدعى أوجيجيا. هناك، واجه تحديات جديدة، إذ تمتع - أو ربما أُرهق- بالحورية الجميلة كاليبسو. تدور الأوديسة لهوميروس حول رحلة أوديسيوس الطويلة بعيدًا عن كاليبسو وسعيه للعودة إلى إيثاكا حيث تنتظره زوجته بينيلوبي. تصبح الأوديسة بمعنى آخر قصة التحديات والمغامرات التي يخوضها أوديسيوس في رحلته للعودة إلى وطنه، بينما يتربص به عشاق بينيلوبي، حيث يحاول 117 من الأمراء الفوز بقلبها، صغار السن لدرجة تجعلهم أبناؤها وليسوا عشاقها.
تظهر هناك نوعان من الألغاز المثيرة في قلب الأوديسة: لماذا يترك أوديسيوس كاليبسو، ولماذا يتوق الأمراء بشدة إلى بينيلوبي؟ سوف تزداد تعقيدًا هذه الألغاز لاحقًا، ولكن دعونا نبدأ بإضافة لغزين آخرين قد يكونان معقدين بنفس القدر، على الرغم من أنها قد لا يتسما بالشهوة القوية. الأول يتعلق بالعقوبة القاسية - أو الموت - التي ألقاها أوديسيوس على الأمراء. ماذا فعلوا ليستحقوا هذا؟ في القصيدة، يتم في كثير من الأحيان مقارنة سلوكهم بسلوك أيجيسثوس، الذي أخذ زوجة أجاممنون بالقوة، ثم قتلها عندما عاد من طروادة. ومع ذلك، من الواضح أن سلوك الأمراء لم يصل لهذه الدرجة. وبعد ذلك هناك لغز يطرحه شكل الأوديسة نفسها، حيث يتداخل فيها بين الواقعية (مثل حياة الأمراء وبينيلوبي في إيثاكا) والعناصر السحرية (مثل عوالم المغامرات التي يزورها أوديسيوس في طريقه من طروادة إلى إيثاكا). يبدو أن العوالم السحرية هذه لا تتناسب تمامًا مع واقعية إيثاكا، وتشكل هذه الألغاز المتنوعة حلاً مشتركًا في النهاية.
وبذلك، لماذا يقرر أوديسيوس مغادرة كاليبسو؟ أو لماذا لا يبقى معها؟ قد يظن البعض أنهم يعرفون الجواب، ولكن القصيدة تهدف إلى إبقائنا في حالة من التساؤل. أولًا وقبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى أن كاليبسو تعد حورية - ستبقى دائمًا شابة. ثديها لن يفقدان صلابتهما. وأعلى جسمها وأسفله سيظل دائمًا مشدودًا. سيظل شعرها فائق الجمال والنعومة. وبالتأكيد، ستبقى جاهزة للمتعة في الفراش دائمًا - ببساطة لأنها حورية جميلة ورائعة. بالإضافة إلى ذلك، يمكنها أن تمنحه الحياة الخالدة والشباب الأبدي. لن يكون لديه حاجة إلى أي عقاقير لتحسين الأداء الجنسي، سيظل شابًا ونشيطًا وقويًا ونضرًا إلى الأبد. ولكن في النهاية، لماذا سيترك كل هذا من أجل امرأة في منتصف العمر وسنوات الشيخوخة المقبلة وحتمية الموت التى لا مفر منها؟
إن السؤال يظل مثيراً بالطبع، ولكن القصيدة تهدف إلى تركنا مشدوهين إلى النهاية. لاحظ مينيلاوس، زعيم الإسبرطيين، أنه في نهاية حياته، لن يكون مُجْبرًا على أن يصبح ظلامًا في عالم الهاوية - أو هادس- بل سيمضي إلى حقول الإليزيوم. تبدو هذه مفاجأة سارة، على الأقل بالنسبة له. المشكلة هنا هي أن حقول الإليزيوم توصف بتفاصيل تشبه جزيرة كاليبسو، فيتم وصفها بشكل مشابه للأراضي المهددة في عالم آكلى اللوتس:
فأنت، يا مينيلاوس، سليل زيوس،
ليس لك القدرة على الموت في أرجوس، حيث الرعاع ترعى الأغنام،
بل ستذهب بدلاً من ذلك إلى حقول الإليزيوم،
حيث يقيم رادامانثوس بشعره الذهبي،
والحياة هناك أسهل للبشر،
بعيدًا عن البرودة والعواصف والمطر،
ولكن البحر يُرسل دومًا رذاذًا عاليًا من رياح غربية قوية،
حيث يحمل البرد إلى البشر؛
لأنك ستصبح زوجًا لهيلينا هناك،
وستكون في أعين الجميع زوج ابنة زيوس.
إذا كانت حقول الإليزيوم تتمتع بجمال لا يوصف، لماذا يبدو أن أوديسيوس مكتئبًا لهذا الحد عند وصوله إليها بسرعة؟ هذا اللغز، على الرغم من تعقيده، لا يتساوى مع اللغز الذي يأتي بعد ذلك. بينيلوبي، زوجة أوديسيوس، هي امرأة في منتصف العمر حوالي 40 عامًا - ليست كبيرة السن، لكنها ليست شابة أيضًا . بعد أن أنجبت مرة وربما ستنجب مرة أخرى، من الواضح أنها سوف تكون تقدمت في العمر. على الرغم من ذلك، أكثر من 100 أمير (117 حسب العدد)، الذين تقترب أعمارهم من كونهم أبنائها، قد تقدموا لها للزواج لمدة ثلاث سنوات. وبينما هي تتقدم في العمر، هم يستمرون في الاعتصام في قصرها، يأكلون ويشربون، دون أن يبرز منهم أحد كزوج محتمل. فكروا في ذلك، أنكم شبان صغار الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عامًا فكروا في والدة أحد أصدقائك. تخيلوا أن هذه الأم هي التي تتمنونها كزوجة - ليس مجرد لجلسة تعليمية على غرار السيدة روبنسون، وإنما لتكون زوجة حقيقية. الآن، فكروا في هذا السيناريو في عالم حيث يكون إنجاب الأبناء أكثر أهمية مما هم عليه في ثقافتنا اليوم.
عندما يسمع أخيليس -أحد الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية- بين أروقة الموتى أن ابنه نيوبتوليموس أصبح محاربًا عظيمًا، يسارع إلى التصالح مؤقتًا مع أوديسيوس - رغم أنه يراه أسوأ من أن يكون عبدًا - بينما يترك أوديسيوس، الذي قدم له الخبر، يندب نفسه:
بعيدًا هو ذاك المتسلق الذي يخوض العالم بحركاته الأملسة، حفيد أياكوس،
يركض بخطواته طويلة عبر حقول الزنبق،
تنطوي على الجميع أمامه تلك المغامرة التي أصبحت حقيقةً بسرعةٍ لا تصدق،
إنه ابنه الشجاع والمجيد.
لذلك مع زواج أى منهم من بينيلوبي، فأنه يُفترض منه أن يتخلى عن الفرصة للإنجاب وتربية أبناء شجعان مجيدين. لكن ماذا يمكن أن يُقابَل ذلك؟ ولماذا لم يبرز أي منافس للزواج خلال 17 عامًا؟ وعندما يحدث ذلك فجأة، لماذا يظهر الأمراء الصغار جميعًا؟ لماذا لا يوجد من يتقدم من هم فى نفس سن بينيلوبي؟
في سنّ تيليماخوس -ابن أوديسيوس و بينلوبي الوحيد و الذي هو أكبر من هؤلاء الأمراء بكثير في السن - لم يكن أوديسيوس يتجوّل حول النساء اللواتي قد يكونن أمهاته. كان يستعد للمشاركة في حروب طروادة لكسب سمعة كمحارب وبطل، سمعة تكون جزءًا منها الأغاني والقصص التي سترويها عنه حين يعود. الفياكيين -أحد الشعوب القديمة التى قابلها أوديسيوس فى رحلة عودته- بدأوا بالفعل بالغناء عن طروادة عندما يصل أوديسيوس إلى شواطئهم.
في مقارنة جديدة، دعونا نستعرض شخصية أوديسيوس مع المتنافسين على قلب بينيلوبي ومع ابنها تيليماخوس. دعونا نقول أنه لو لم يقضِ أوديسيوس على هؤلاء الأمراء أو لم يكن لينجب تيليماخوس، لما تحدثنا عنهم أبدًا. إنهم لا يلقون بظلهم في شعر البطولة، وهذا أمرٌ مؤكد. دعونا نفكر في منافسة أوديسيوس في إطلاق السهم من القوس، حيث تقوم بينيلوبي بتحدي الأمراء لمحاولة سحب القوس؛ ولكن حتى وإن حاولوا، لا يستطيعون التنفيذ. أما أوديسيوس، فهو لا يقتصر فقط على سحب القوس، بل ينجح في إطلاق سهم بدقة عبر سلسلة من الفؤوس. هو المتميز، وهم مجرد متساوون في الاحتمالات.
فمن هو أوديسيوس بالضبط؟ إنه محارب عظيم يتمتع بالذكاء والحيلة. بشكل مشابه للإلهة آثينا، يتمتع أوديسيوس بالدهاء والمكر والحذر. آثينا -إلهة الحكمة- قدوة له وليس ذلك فقط، بل أيضًا بينيلوبي تعتبر قدوة له في ذكائها وحنكتها. يشعر أوديسيوس بلذة القتال والمنافسة في الألعاب التي تعكس جوهر القتال، كما يستمتع بتناول الطعام برفقة أصدقائه والاستماع لشعراء يروون قصص المعارك الشرسة ومآثر المحاربين. يحب أن يشارك في سرد أنواع القصص التي تشمل نفس الروح التي تميز أوديسيوس نفسه. هذا هو أوديسيوس. وبعد كل ما ذكرت، هل ليس هذا يُعنى بنوع من الموت الاجتماعي الذي يُشبه الموت الحقيقي أن يترك كل هذا و يبقى على الجزيرة ولا يعود؟
التهديد الأكثر وضوحًا الذي يواجهه أوديسيوس هو فقدان هويته، ونجد تلك الحالة بشكل بارز عند لقائه بالكوكلوب - العملاق. في هذا اللقاء، ومن أجل إنقاذ نفسه وطاقمه، اتخذ أوديسيوس هوية مجهولة، فكان يتظاهر بأنه لا أحد يستحق الذكر. ولكن حينما تمكن من التغلب على العملاق، أصبح عليه مواجهة صعوبة التعرف على نفسه بصورة صريحة. حتى هذا النجاح الكبير يجب أن يُحسب له بسبب التحدي الكبير الذي يتضمنه تعريف نفسه في هذا السياق:
يا كوكلوب،
إذا سألك أي شخص على وجه هذه الأرض،
وتوجَّه إليك رجلٌ من بني البشر يستفسر عن من ضرب عينيك العاريتين و أعماك،
فأجبه بجرأة: إنه أوديسيوس،
الذي خلَّف أثره المدمر في المدن،
هو ابن لايرتيس، وموطنه الشهير إيثاكا!
المخاطر التي يتحملها أوديسيوس عندما يكشف عن هويته ضخمة للغاية، إذ يجعل بوسيدون -والد الكوكلوب- يصبح عدوًا لأوديسيوس، وبالتالي يهدده بمنع عودته إلى وطنه لمدة عشر سنوات. وعلى الرغم من ذلك، فإن التهديد الأكبر يكمن في فقدان هويته، ولهذا السبب لا يمكن لأوديسيوس أن يتحمل أن يصبح لا أحد حتى لتلك اللحظات القليلة الإضافية التي يمكنه فيها الهرب بسلام.
ومع ذلك، لا يمكن تجاوز دور الكوكلوب كمثال واضح على ما يتعرض له أوديسيوس منذ مغادرته طروادة حتى مغادرته لجزيرة كاليبسو. فالمخاطر تكمن في تلك الأحداث الكامنة بينهما، بما في ذلك التحولات التي خضع لها. سيرسي، التي قلبت رجاله إلى خنازير؛ أو آكلة اللوتس، التي شغلت رؤوسهم بحدائق النسيان؛ والجحيم، حيث يتاح للموتى حياة مقتربة من الوجود: كل هذه المحن تهدد بفقدان هويته - وتجسيداتها جميعًا لنوع من الموت في الحياة.
فيما يخص كاليبسو نفسها، لنلق نظرة على مكان إقامتها أولاً. تقع أوجيجيا بعيدًا عن المسار المعروف، مما يجعلها مكانًا نادرًا ما يتم زيارته. ويبدو أن أوديسيوس هو أول إنسان يصل إلى شواطئها. وهذا يشير إلى تأثير العزلة التي تحيط بها وتفصلها عن العالم الخارجي. هذا العزل يجعلها تفتقر إلى العوامل التي تُجعل الحياة ذات قيمة ومعنى. ليس هناك احتفالات كبيرة، ولا شعراء يروون الأمجاد، ولا حروب أو ألعاب رياضية تضفي إثارة. ومع ذلك، هذه هي أفضل الأمور التي يمكن أن تقدمها الحياة هناك. "لا يوجد شيء أفضل من هذا"، هذا ما صرّح به أوديسيوس للفياكيين عندما غادر كاليبسو:
أن أعظم مسَرة لي هي ما تنتظم سائر الشعب،
والمدعوون يجلسون في الساحات يستمعون إلى المنشد،
وقد انتظموا في ترتيبٍ مناسب،
وإلى جوارهم موائدُ زاخرة بالخبز واللحم،
والساقي يملأ كئوس الخمر من الطاس ويدور بها هنا وهناك.
هذا أجمل شيءٍ في الوجود يروق لناظري.
ومن هذا المنطلق، يكون التهديد الذي تشكله كاليبسو لأوديسيوس يتمثل في فقدان هويته - تلك القوة التي يحقق من خلالها وجوده معنى. الحياة الخالدة والشباب الأبدي اللذين يقدمهما الجزيرة يأتيان بثمن باهظ، حيث أن عدم وجوده في العالم يجعله يعيش في موت حي. الجنس الجامح -حتى مع حورية مثل كاليبسو- لا يكفي لتعويض هذا الفقدان. حتى وإن كان أوديسيوس وكاليبسو قد جمعا بينهما لحظات لا تحصى خلال سبع سنوات مارسا فيه الجنس (حوالى 2500 مرة)، إلا أن غياب النسل يدل على غياب المستقبل، وهذا ينطوي على فقدان التاريخ والهويَّة. وهذا هو السبب الذي يجعل أوديسيوس يبكي في أوجيجيا، ويتشوق للرحيل. فهو يصبو إلى استعادة حياته مرة أخرى.
ظاهرة الغرابة التي يتجلى من خلالها وجه أوديسيوس في عالم أوجيجيا، حيث لا يشعر بالسرور المألوف الذي يجلبه له الواقع الهوميري، تُبَيِّن لنا القصيدة ذلك من خلال تجسيد غرابة أوجيجيا نفسها. فهي تُظهِر كجزيرة غامضة غير ملموسة، تجمع بين السحر والوهم. وما يُنطَبِق على هذا الوجه من القصيدة، يأخذ حقيقته في الأماكن الأخرى التي ينزل فيها أوديسيوس أثناء مسيره العائد. إن رحلاته ليست مجرد تجوّل عابر في الفضاء، إذ تختفي هويته الحقيقية أثناء تواجده هناك. يتسم الشكل الغريب للقصيدة بدمج الحقيقة والخيال بشكل لا تقل غرابة عن طابع الموضوع نفسه. هذا الأمر متوقع ومطلوب من زاوية الموضوع في القصيدة. وبذلك، يجد القارئ مفتاحًا لحلّ أحد الألغاز التي تم تسليط الضوء عليها سابقًا.
عندما يبتعد أوديسيوس عن عشيقته كاليبسو وينطلق نحو وجهته الحقيقية إيثاكا، يتوجب عليه أولًا وأخيرًا التوقف في ميناءٍ أولي على هذا الطريق، وهو فياكيا. تتميز هذه البقعة بأنها تمتزج بين الواقعية والرمزية. على سبيل المثال، يكون هناك سفن فياكيا ذاتية القيادة، وهي رمز للتوجه نحو الواقع. وعند وصول أوديسيوس إلى هناك، يواجه ذاته الحقيقية في قصائد الشاعر ديمودوكوس. في تلك اللحظة يبدأ أوديسيوس بالانفصال عن الزيف ويعتنق هويته الحقيقية، يعترف:
إنني أوديسيوس بن لايرتيس،
المشهور بين البشر بجميع طرق الحيل
وتبلغ شهرتي السماء، وموطني إيثاكا، الواضحة للعين؛ حيث يُوجد جبل نيريتون
مثلما نشأ الجيل السابق على حكايات الحرب العالمية الثانية وأبطالها، هؤلاء الشبان وغيرهم نشأوا على أساطير طروادة وجبابرتها - مثل أخيل وأياكس وأجاممنون وبالطبع أوديسيوس. هؤلاء الشبان تمنوا، في عدة مناسبات، أن يصبحوا مثل هؤلاء الأبطال، يرون أنفسهم يمشون على خطاهم. ومن هذه النقطة ينبثق السبب وراء تشوُّق الشبان الصغار نحو بينيلوبي. إنهم شبان لأنهم الجيل التالي - أولئك الذين لم يشاركوا في حروب طروادة. إنهم يريدون بينيلوبي لأنها زوجة أوديسيوس، يريدونها لأن وجودها يشبههم بكونهم أوديسيوس. حتى بمجرد تواجدهم في جوار قصر أوديسيوس، حتى بمجرد أن يمروا بالقرب منه، يقربهم ذلك من ما يرغبون في أن يكونوا عليه. يبقون لأن هوياتهم كراغبين في أن يصبحوا أوديسيوس مضمونة و مستدامة هناك.
هناك لحظة غريبة تلفت النظر بشكل خاص، تركز القصة على أحداثها. حينما تتنكر أثينا كرجل عجوز وتظهر في إيثاكا، تهدف إلى تحفيز تيليماخوس للتعرف على تفاصيل أكثر عن والده. تُطلب منه الحدي فيقول:
إذن، بالحق سأصارحك القول بكل شيء، أيها الغريب.
تقول أمي إنني ابنه، ولكني لستُ أعرف هذا.
إثارة شكوكه بخصوص نسبه واضح، حيث يجيب بأن أمه قد أخبرته أنه ابن أوديسيوس، لكنه لم يكن واثقًا. يثير الشك بين الحاضرين ما إذا كان تيليماخوس جديراً ليكون ابن أوديسيوس. هذا السؤال ينبثق في عقول الجميع: "هل يستحق تيليماخوس الاعتراف بأنه ابن أوديسيوس؟" يحمل هذا الاستفهام وزنًا كبيرًا في نفس كل من يتأمل الوضع. يشير هذا التساؤل إلى مدى جدارة تيليماخوس وملاءمته لتولي هذه الهوية. هل يكفي ليكون ابن أوديسيوس؟ إنه تساؤل يستدعي مقارنة عميقة في ذهن كل من يشترك في هذه المحادثة. إنهم يبدأون في العبث بالفكرة: "إذا كان بإمكاني أن أفوز بقلب بينيلوبي، فهذا يعني أنني مُعادلٌ لأوديسيوس. إذًا، يمكنني أن أعتبر نفسي ابنه، وبالتالي رجلاً ينحدر من نفس جيل والدي، وبالتالي أصبح ابن والدي. ولذا، أصبح رجلاً."
وهذا التصوير يُؤَكِد على هذه الفكرة بوجه آخر. يُشير أنتينوس، أحد أهم الخاطبين، إلى جاذبية بينيلوبي بالتفصيل:
وتعلم بهذا في قلبها، حيث إن أثينا قد حبَتْها وحدها دون سائر النسوة الأخريات
بمعرفة الأشغال اليدوية البديعة، وبالذكاء المفرط، وبالحيل
مما لم يسبق أن عرفنا أن أية امرأة في الزمان الخالي قد علِمَته
من أولئك الآخيلات الجميلات الغدائر، منذ وقت بعيد، أمثال — تورو، وألكميني، وموكيني، ذات التاج البديع —
أولئك اللواتي لم تبلغ إحداهن ما بلغَتْه بينيلوبي من الخديعة والدهاء.
تبدو هذه الصفات مُبهرةً بالنسبة لهؤلاء الشباب. تمثل هذه المميزات تشابهًا بين بينيلوبي وأوديسيوس. إنها بارعة في أعمال االنساء كما هو بارع بأعمال الرجال. يلمح الخاطبون لمدى تقارب بينيلوبي مع أوديسيوس من خلال هذه اللغة، حيث يتم التركيز على أنها تشبهه في براعته ومهارته. يبحث الخاطبون عن تلك الشبهية معه، وما يتمنونه من بينيلوبي هو هذا التقارب مع أوديسيوس. هذا هو الهدف الفعلي الكامن وراء شعورهم بالشهوة تجاهها. إنها وسيلتهم الوحيدة للتقرب من أوديسيوس.
الخاطبون يتلاعبون ليحلوا محل أوديسيوس، ولكنهم يقومون بهذا في العالم الحقيقي، حيث يوجد رجال مماثلين لأوديسيوس. وهنا يكمن الخطر والخطأ في خيالهم. حينما يعود أوديسيوس إلى وطنه ويكشف عن هويته بالكامل، ينقض الواقع المرير ويكشف عنهم كما هم بالواقع. إنهم ظلال فقط، وأمامهم الواقع الحقيقي. هو نفسه، وهذه هي العقوبة القاسية التي يفرضها الواقع على الخيال والتصور.
تبرز الهوية الحقيقية لأوديسيوس كنقطة محورية في رحلته داخل أحداث الأوديسة. فهي تشكل الشمس التي تنير مسار كل الأحداث ويمثل كل المعاني في هذه القصيدة العميقة. إلا أنه يجدر بنا أن نفهم أن هذه الهوية ليست ثابتة ومقبولة دون تساؤل. تمامًا كما فعل هوميروس في الإلياذة، يسلط هوميروس ضوءًا فلسفيًا عميقًا على معنى البطولة. يقوم أوديسيوس بزيارة طروادة لينفذ عقابًا على باريس لخطفه هيلين، وليدافع عن وطنه وعائلته. ومع ذلك، يجب أن يترك منزله وأسرته غير محميين ليقوم بمهمته. تتجلى هنا تعقيدات هويته ومهمته.
عندما يعود أوديسيوس إلى إيثاكا، يصبح هدفه الأساسي هو إعادة بناء منزله وحمايته. يمثل مكانه ودوره الذي يجب أن يؤديه كبطل ومحارب. هذا يعكس تضحياته وصراعاته من أجل البقاء والعودة إلى وطنه. وبعد تحقيق هذا الهدف، يجد نفسه مجددًا مضطرًا للمغادرة. يُجبر على ترك المنزل الذي بناه والبدء من جديد، مشيرًا إلى مدى تعقيد الروح البطولية وتبدلها.
بشكل ضمني، يتسلل إلى ذهننا فكرة تعذر الاندماج المثالي للبطل مع وطنه. تعبّر عودة أوديسيوس عن هذا الجانب. إنه يعود ليصبح محررًا للمنزل وفخره، وفي الوقت نفسه يصبح محاربًا يجب أن يحمي ممتلكاته بكل ما أوتي من قوة. وهذا يُظهِر تواصل الصراع الدائم بين الرغبة في العيش في السلام والبحث عن المغامرات والتحديات.
يجد نفسه مضطرًا للمغادرة من جديد، بعيدًا عن البحر وليُعتَبَرَ مجدافه مروحة طاحونة بما يكفي حتى لا يسمع عن البحر أو الأسطول اليوناني الذي ابحر به نحو طروادة. ومن ثم فقط، يكون أوديسيوس مجهولًا في هذا البلد. هكذا تتجسد عودته وتبرز تلك الفكرة. يعود ليُعيد حرية منزله ويعود ليصبح محارِبًا من جديد يحمي قصره تمامًا كما فعل مع قصر بريام، وللأسباب نفسها. ومن ثم فقط، يكون أوديسيوس مجهولًا في هذا البقعة. فقط بعد ذلك يمكنه العودة إلى المنزل ليموت.
إن المصير يتجلى بشكل واضح من خلال هذه القصيدة، إذ تُظهِر لنا الحقيقة البسيطة أن الحياة لا تُوَفِّر مقصدًا ثابتًا. الأماكن التي نصبو إليها كالإليسيوم وهاديس والجنة والوطن لا تُقدِّم بالضرورة ما نشتهيه لحل مشكلاتنا أو إنهاء نضالاتنا وصراعاتنا. فبصورة أكيدة، ما نتوقُّ إليه بفارغ الصبر هو نهاية المعاناة والصراع من خلال أيّة صورة للموت. وهذا ما سنواجهه في النهاية. وعلى غرار ما وعدت الآلهة أوديسيوس، سنكون جاهزين له في الوقت المناسب عندما نكبر في السن وسط أسرتنا ونراكم المجد.
إرسال تعليق