كان المستشار بارتولوميو سكالا شخصًا براغماتيا وعاش حياة مليئة بالإنجازات. نشأ في الأرياف وأكمل دراسته في القانون في فلورنسا، حيث تفوق بفارق على منافسيه وحقق أعلى موقع في الإدارة الحكومية لجمهورية فلورنسا. نتج عن نجاحه الكبير اكتسابه لثروة تكفي لامتلاك إحدى أفخر المنازل في المدينة، حيث كانت القصور الفاخرة تظهر في كل زاوية من زوايا الشوارع خلال سبعينيات القرن الخامس عشر. حقق سكالا نجاحاً كبيرا حيث و تحت إشرافه الحكيم كمستشار مالي ازدهرت فلورنسا أكثر من أي وقت مضى.
وبرغم ثراء فلورنسا الكبير، كان سكالا يشعر بالقلق إزاء الوضع السياسي والأخلاقي في المدينة. كانت فلورنسا تفتخر بنظام حكومي فريد، في جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي حيث شارك قطاع واسع من السكان الذكور في المجالس الرئيسية وتولوا مناصب سياسية بارزة، يناقشون قضايا الحرب و السلام. كا اعتقاد الفلورنسيين أن الشعب الحر لا يمكن أن يكون له سوى حاكم واحد ألا وهو القانون، وكانت الملوك البشرية تعتبر لعنة في فلورنسا. وكان القانون الذي وُضع ليُنفذ على الضعفاء والأقوياء والأغنياء والفقراء، والمقودين والقادة، والتي أخضع جميع الناس تحت رحمة المساواة، يُحتَرَم باعتباره ملكيًا وإلهيًا. ولكن الآن كانت تلك الأغلال المقدسة قد حلت.
عائلة ميديشي، عائلة مصرفية ثرية، قامت بابتكار طرق لتجاوز القوانين التي كانت تمنع تحول جمهورية فلورنسا إلى ملكية خاصة. عبر شراء الولاء بواسطة القروض والمزايا، ملأوا الحكومة برجال موالين قاموا بإعادة صياغة القوانين المزعجة أو تجاهلها و عدم تنفيذها. كان المستشار سكالا يلعب دور الرجل الأعلى، وعلى الرغم من أن فلورنسا لا تزال تُطلَق على نفسها اسم الجمهورية، إلا أن المدينة وقوانينها كانت في الواقع خاضعة لسيطرة لورنزو "العظيم" دي ميديشي.
هل حان الوقت ليدرك الفلورنسيون أن القوانين لم تعد تحكم مدينتهم، وهل يجب عليهم التساؤل عما إذا كان هذا شيئًا جيدًا؟ ولكن لم يتجرأ أي مواطن فلورنسي على طرح هذه التساؤلات بشكل مباشر، حيث يعتبرون ذلك كالتلاعب بالمقدسات أو الخيانة. لذلك، اختار بارتولوميو سكالا إثارة هذه القضية بشكل ملتوٍ في حواره حول القوانين والأحكام القانونية الذي صدر عام 1483، والذي قدمه كهدية لزعيم فلورنسا الأميري.
دارت المحادثة بجانب المدفأة في منزل سكالا، حيث جلب أحد الأصدقاء المرافقين للمستشار - كان يعاني من نقرس - بتقديم ملاحظات حول نقاش جارٍ بين رجال القانون المشهورين. وعندما يتذكر هذا الزائر أن هناك مخطوطًا للقوانين الرومانية يُحفظ ككنز في كنيسة الحكومة، يثير سكالا استفهامًا قائلاً: "هل نحن على صواب في التبجيل المفرط للقوانين المكتوبة؟ ولماذا لا نقتدي بالإسبارطيين؟ إذ قد تجنبوا المحاكمات اللانهائية بكل بساطة عبر تنفيذ كل ما يُقرره الأثرياء." ويُشير إلى أن البديل المعروف للقوانين يكمن في حكم الأمير أو وكلائه، حيث يُفوض السلطان التركي الصلاحيات القضائية الكاملة للباشوات، الذين يقضون في القضايا الجنائية من دون الاعتماد على قوانين مكتوبة، ولا يتاح للمتهمين وجود محامين أو حق الاستئناف. وهكذا، يتفادى الناس الدعاوى القضائية المكلفة والمراوغات والانتهازية التي تظهر في الفقهاء الفلورنسيين. وإذا قام الباشا بتلقي رشاوى أو سمح للمصالح الشخصية بالتأثير على قراراته - ويظهر سكالا استمتاعًا بهذا الفكر بطريقة مجازية ماكرة - فإن رجال السلطان يدفعون وتدا في أحشاء الباشا، ويرفعونه في الهواء عاليًا، ثم يرمونه على الأرض. في الختام، يستنتج المستشار أن أفضل القوانين تكون تلك التي تنبع من طبيعة المجتمع، مُؤكدًا على ضرورة الثقة في عدد قليل من الأشخاص النبلاء لفهم القوانين الطبيعية بشكل أكثر صدقًا من فحول المحامين الذين يعيشون على حافة الحياة.
ثم يخصص الفرصة في الحوار للمتحدث الآخر، وهو الرجل الذي يظهر في دور المدافع عن القانون، ويعتبر صديق سكالا المقرب، برناردو مكيافيلي. يُصوَّر برناردو على أنه فقيه غامض، يتمتع بتدريب دقيق، وكان والدًا لنيكولو مكيافيلي، الذي قدم عملاً يثير القلق لعائلة ميديشي بعد ثلاثة عقود، وهو كتاب النصائح السياسية المعروف باسم "الأمير". إذا تمكنا من العثور على أفراد جديرين بالثقة لوضع وتنفيذ قوانيننا، يتفق برناردو مع سكالا بأن ذلك سيوفر لنا الكثير من المتاعب. ومع ذلك، حتى يصل الناس إلى أفضل مرحلة من الحكم، يختلف وجهات نظرهم حول العدالة الحقيقية. لا يكون لدينا خيار سوى وضع القوانين بالاتفاق المشترك وبذل قصارى جهدنا لتحقيق العدالة في المحكمة.
هنا، يلجأ برناردو إلى الفلسفة للحصول على الدعم. في حوار "رجل الدولة" لأفلاطون قبل حوالي ألفي عام، يُطرح سؤالٌ مماثل لتلك التي يطرحها سكالا: إذا كان شخصٌ يمتلك "العلم الملكي" للتشريع، فلماذا لا نسمح له بالحكم ونضع القانون جانبًا؟ ولكن، كما يواصل المتحدث في أفلاطون، سنواجه ضغوطًا كبيرة للعثور على شخص يكون علمه في الشؤون الإنسانية مثاليًا بما يكفي للثقة به في أعمال الحكم. علينا أن نلتزم بأفضل بديل متاح: اتباع قاعدة الحكم الحكيمة "من خلال الاجتماع ووضع قوانين مكتوبة".
ينعكس في حوار سكالا ارتفاع دفاع برناردو عن القانون بوضوح، في حين تختفي محاولات المستشار الشيطاني في الدفاع عن الباشوات والمستبدين المستنيرين، حيث تتلاشى إلى وسط رمادي. لا يعتبر سكالا حجج صديقه سطحية، بل يستعين بمكيافيلي الأكبر ليُلخص الجوانب النفسية للسلطة، موضحًا أهمية توجيه القوانين حتى لأمهر القادة. يبرز برناردو كيف يؤثر الطموح المفرط على الأفراد الذين يتسلمون المناصب الرفيعة، حيث يصبحون ذوي نزعة متنافسة في معركة لا تنتهي من أجل التفوق ورفعة سمعتهم وتراكم ثرواتهم. يعيد مقدم الحوار إلى ذاكرتنا حوار أفلاطون حول القوانين، الذي يعتبر مصدرًا غنيًا للأفكار القانونية الكلاسيكية والمعاصرة حول سيادة القانون. يعتمد أفلاطون فكرة أن أخطر أشكال الجهل تظهر عندما يغتر الفرد حكمته، وهو الأمر الذي يأخذ أشكالًا متطرفة خاصة بين الأقوياء والأثرياء. يؤكد المتحدث الرئيسي في حوار أفلاطون أن أي شخص يعتقد أنه "قادر على أداء دور القائد للآخرين" بدون توجيه من القوانين، "لقد تخلى عنه الله". ورغم أن "كثيرون يعتقدون أنهم يتسمون بشخصيات جيدة"، إلا أنه لا يمضي وقت طويل حتى "يقودوا أنفسهم وبيوتهم ودولهم إلى حالة من التدهور والخراب".
تأتي هذه الرسالة كتوجيه من المستشار سكالا إلى لورنزو دي ميديشي، وتعكس ذلك قدرة سكالا السابقة على التأثير في الشؤون القانونية خلال الفترة السابقة. بيد أن سكالا الآن يطمح إلى تحقيق تغيير في موقف حاكم فلورنسا من خلال حواره الفعّال. يختتم برناردو مكيافيلي كلامه بتأكيد أهمية القوانين الجيدة كأسلحة فعّالة في الدفاع عن النظام والمجتمع. من خلال فرض حدود على حب الذات، يسهم تعزيز الصداقات والدعم في تحقيق الانتصارات للشعوب والدول. وكما قال أفلاطون، يجب أن يُعتبر طاغيةً أي شخص يدّعي تفوق معرفته السياسية على القوانين.
بعد مرور عقد من الزمن، في عام 1494، تم إعلان آل ميديشي كطغاة وتم طردهم من فلورنسا. تمت إعادة تأسيس الحكومة الشعبية على أساس المبدأ الجمهوري القديم الذي ينص على أن "ليس بيننا ملك إلا القوانين". تمت المصادقة على قوانين العفو بهدف كبح الرغبات الشعبية في الانتقام من أنصار آل ميديشي السابقين. ووضعت إجراءات صارمة للمحاكمات الجنائية بهدف ضمان محاكمة الجرائم المرتكبة ضد الدولة بعناية فائقة، حيث يتسبب بعضها في تحمل عقوبات شديدة كالنفي، أو في حالات نادرة، الإعدام. على الرغم من أن المواطنين الذين صاغوا هذه القوانين كانوا يعلمون بأن الشكوك تتصاعد دائمًا بعد الأزمة الدستورية، إلا أن نظامهم القانوني كان يسعى لجعل الناس يفحصون الأدلة بدقة قبل التصرف بناءً على شكوك بسيطة أو حتى مخاوف معقولة.
ومع ذلك، سرعان ما تعرضت القوانين الجديدة لهجوم، ولكن المهاجمين لم يكونوا من قادة متجاوزين، بل كانوا رجالًا من قطاعات متنافسة من الشعب نفسه. اتجه الفلورنسيون، الذين كانوا يتمتعون بمهارة في تكوين الفصائل، نحو الحلق الداخلي للمجتمع. ظهرت هذه الفصائل كتحالفات متنافسة، حيث وقع الصراع بين أتباع آل ميديشي المشتبه فيهم وبين الأنصار الحماسيين للحكومة الشعبية مقابل الأرستقراطيين المؤيدين للأوليغارشية ووُصِفوا بالمرتدين. لكن للأسف، قادت هذه الفصائل بالعديد من التجاوزات في تطبيق العدالة. تم إعدام العديد من الرجال البارزين بتهم ملفقة دون محاكمة عادلة، أو حتى بدون محاكمة على الإطلاق. وكانت القضية الأكثر شهرة تتعلق بالاعتراف القسري من قبل الراهب الدومينيكاني، جيرولامو سافونارولا، الذي حث أتباعه على تطبيق قوانين الجمهورية في سبيل الرب وتشريع أخلاق الزهد. انتهت رحلة سافونارولا بالإعدام بالحرق حياً في الساحة المركزية الجميلة في فلورنسا، مما أدى إلى فقدان ثقة أهل فلورنسا في شفافية ونزاهة القانون الجمهوري.
عاش نيكولو مكيافيلي في هذه الفترة الزمنية المليئة بالعواصف السياسية. كان بصفته المستشار الثاني لمدينة فلورنسا وسكرتير لجنة الحرب، المسؤولة عن الدفاع عن المدينة، شاهدًا انهيار الجمهورية وعودة عائلة ميديشي في انقلاب بعد ثمانية عشر عامًا فقط. وعلى الرغم من ذلك، لم يتراجع أبدًا عن إيمانه بأهمية سيادة القانون، مؤكدًا أن حياة الإنسان بدونها ستكون أسوأ بكثير من حياة الوحوش. في خطبه حول ليفي، قال مكيافيلي إن جميع الدول، سواء كانت ملكية أم جمهوريات، "تحتاج إلى أن ينظمها القانون". وأكد أن الأمير الذي يفعل ما يريد هو مجنون، في حين أن الشعب الذي يمتلك حرية فعل ما يشاء ليس حكيمًا.
تعتبر وجهة نظر مكيافيلي بشأن الديمقراطية أنها لا تتعلق بسخرية القلة - الأوليغارشية - التي تعتبر الديمقراطيين أضعف من أن يحكموا. وقبل قرون من توماس باين وتوماس جيفرسون، كان مكيافيلي يعتبر أن الشعوب التي تحكم ذاتها - سواء كانت "مقيدة بالقوانين" أم لا - أقل عرضة للحكم الجنوني من الأمراء أو النخب. ومع ذلك، يشير مكيافيلي، بخلاف الديمقراطيين المباشرين والشعبويين، إلى أن الجمهوريات تحتاج إلى قوانين للحد من ظهور مرض الديمقراطية، ألا وهي الانقسامات المدنية التي تتحول إلى حزبية متطرفة.
تهدف الديمقراطية إلى منح جميع الأفراد صوتًا متساويًا، مما يحمي حرية المواطنين في التفكير بشكل مختلف عن الأغلبية أو أيديولوجية الحزب الواحد. ومع ذلك، يرى مكيافيلي أن هذه التحديات يجب أن تبقى ضمن حدود معينة، وإلا فإنها ستدمر النظام السياسي. وتشكل القوانين الجيدة الحد الأساسي، حيث توفر حدودًا لما يمكن القيام به في الفضاء العام المشترك. وعندما تظل المنافسات الحزبية ضمن هذه الحدود يقف مكيافيلي بوجه الرأي السائد الذي يروج لفكرة أن جميع الصراعات تكون ضارة للاتحاد المدني. بل تصبح هذه المنافسات ذات طابع إيجابي، حيث تسهم في الحفاظ على الديمقراطيات بقوتها. ومع ذلك، يُصبح الأمر سامًا عندما يستخدم الخوف أو التصعيد الحزبي الشديد لجعل القادة ينسون ضرورة التعايش مع المنافسين. عندما يُغضَّ الطرف عن الفساد في صفوفهم ويتجاهلون أو يهتفون عندما يتجاهل قادتهم القوانين بطريقة تستهدف سحق المعارضين.
كانت وجهة نظر مكيافيلي تشدد على أهمية التعامل مع حيادية القانون كأمر مقدس من قبل المشرعين والسلطات القضائية. حث مكيافيلي المواطنين على السماح للقانون بالتحكم فيهم أكثر من الإنتماءات الحزبية، مدركًا سهولة التحررمن هذا المبدأ عندما يواجه حزبهم صراعات.
كانت مهارة آل ميديشي في استخدام فترات الإضطرابات كذريعة للتحكم بشكل يحيد عن حيادي القانون في فلورنسا، أكد مكيافيلي أن الجمهوريات اللاحقة قد انحرفت عن مسار القانون بنفس الطريقة. وبالرغم من سمعته كبراجماتي مؤمن بأهمية الضرورة السياسية التي قد تبرر انتهاكات القوانين والعدالة، إلا أن مكيافيلي نفسه أكد على عكس ذلك. وافق مكيافيلي ووالده -على الأقل كما صورهم سكالا برناردو- على أن القوانين والعدالة تشكلان أفضل وسيلة لتأمين الدولة. كان لديه اعتقاد متكرر يشير إلى أن القانون لا يكون له جدوى بدون وجود أسلحة جيدة تحميه، وعلى الجانب المقابل، لا يمكن الحصول على أسلحة جيدة بدون وجود قوانين عادلة وإجراءات قانونية شفافة.
انهارت جمهورية فلورنسا المناهضة لسيطرة عائلة ميديشي، وذلك بسبب صغر حجمها وضعف قوانينها المنظمة للصراعات. ويرى المؤرخون أن تلك القوانين لم تكن قوية بما فيه الكفاية للتصدي للإضطرابات والتحديات التي واجهت الجمهورية. ولكن ما هي تلك القوانين التي تمنع الاضطرابات السياسية من أن تتحول إلى شيء سام و مدمر؟ هي تلك التي تكفل تكافؤ الفرص في المشاركة الحكومية وشغل المناصب العامة بغض النظر عن الانتماء الحزبي أو الثروة أو العلاقات. كان مكيافيلي يحمل ازدراءً للنخب المتجذرة التي ادعت أنها أكثر استعدادًا وقدرة لحكم الجمهوريات من المواطنين العاديين. واستكمالاً لفكرته، فإن رؤيته للعدالة الجمهورية تستبعد فكرة اضطهاد الأفراد فقط لأنهم ينتمون إلى طبقة اجتماعية راقية. إذا رفض الحزب الأكثر "شعبية" في الجمهورية فكرة تقاسم السلطة مع أفراد جديرين من النخبة، فسيكون لدى هؤلاء الرجال سبب معقول للشكوى، مما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الجمهورية. يؤكد مكيافيلي بقوة أن العقوبات أو المكافآت يجب أن تتخذ بناءً على الأفعال والصفات الفردية بدلاً من الانتماء الجماعي، إذ يعتبر ذلك تهديدًا لسيادة القانون. وعندما يحدث ذلك، يصبح تدهور الجمهورية مسألة وقت.
من خلال مثال قائد الجيش باولو فيتيللي الذي تم إعدامه بشكل غير عادل بناءً على اتهامات بالرشوة، أظهر مكيافيلي استنكاره لتجاوزات في عدالة القانون. أشار إلى أن فتح الفرص للدفاع وتوفير إجراءات قانونية منصفة كانت تعتبر الوسيلة الوحيدة لمنع الفضائح التي أضرت بالجمهورية. استنكر مكيافيلي بشدة إعدام قائد جيشها بسبب اتهامات غير مؤكدة، وأكد أنه لم يتاح له الفرصة للدفاع عن نفسه بسبب غياب الإجراءات القانونية التي كان يجب أن تتيح له ذلك. وأشار إلى أن الرومان القدماء كانوا أكثر رأفة وترددًا في عقوباتهم مقارنة بالفلورنسيين، حتى عندما كان القائد يتسبب في المشاكل بسبب الحقد، كانوا يعاقبونه بطرق إنسانية من خلال فرض غرامات، مؤكدين على أهمية السماح لقادة الجيوش بالعمل بحرية واستعداد، بدون تهديد بقطع الرأس في حالة الاشتباه في ارتكاب خطأ أو سوء سلوك.
في الحقيقة، تتمثل القوانين في سياق النضال والسلطة بأدوات فعّالة، متنوعة في طرق تأثيرها وتطبيقها. يعتبر الحياد القانوني الصارم بمثابة ركيزة أساسية لبناء الثقة في الحياة المدنية، بينما تأتي القوانين العقابية ضد الإفتراء لتعزز إحساس القادة بالأمان، مما يمكّنهم من تحمل المخاطر في ميدان المعركة. يظل من الضروري للأمان الوطني أن يكفل لكل فرد حق المحاكمة العادلة والاستئناف، بغض النظر عن خطورة التهديد الذي قد يشكله على استقرار الجمهورية.
وبالنظر إلى تفكير مكيافيلي، الذي يُنسب إليه القاعدة الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة"،تعزز كتاباته حاجة الفرد إلى التأمل في تأثير وسائل الفعل غير القانونية وغير العادلة عند استخدامها لأغراض نبيلة. وفي إحدى حواراته حول سياسي روماني قديم اُتهم بارتكاب جرائم سياسية خطيرة، ورفض مطالبته بالاستئناف، أكد مكيافيلي أن "حياته الإجرامية تستحق كل عقوبة". إلا أنه أشار إلى أن انتهاك القوانين دون اتباع الإجراءات القانونية المناسبة يمثل مسألة غير مدنية، وقد أسفر ذلك عن "مثال شرير" ألحق أذىً بالنظام السياسي في روما بشكل قاتل. وأكد أن "إذا اعتاد الفرد على خرق الأوامر" وتجاهل المطالبات القانونية لصالح السلامة الجماعية أو لمصلحة أعظم، فإنه في النهاية "سيُكسر بسبب هذا الشرّ".
هل تكون دقة صياغة القوانين كافية للحفاظ على عناصر قوة الحكم القانوني في تنظيم التصدعات الديمقراطية؟ في المشهد الحالي للديمقراطيات الليبرالية المتشظية، يظهر الرد بوضوح: لا. إن الإفراط الحزبي والطموحات الاستبدادية ليستا العوامل الوحيدة التي تقوض قوة القوانين، بل تلعب التفاوتات الكبيرة في توزيع الثروات وقدرة الوصول إلى المنافع العامة أيضًا دورًا حاسمًا في هذا السياق.
فقد فهم أبطال مفهوم سيادة القانون الكلاسيكيون هذا الواقع بشجاعة أكبر من تلك التي يدركها معظم الناس في الوقت الحالي. رأوا أن القوانين المثالية، حتى لو كانت دقيقة في صياغتها، يجب أن تُزرع في أرضية خصبة، وإلا فإنها ستفسد. وفي رؤية أفلاطون، كان التفاوت في توزيع الثروات يمثل تهديدًا عميقًا لنزاهة القانون. أكد أن المشرعين يجب أن يكونوا كأطباء جيدين يساعدون المواطنين في إلقاء نظرة شاملة على هيكل المجتمع والمحافظة على توازنه الصحي.
وافق مكيافيلي على هذا الرأي وحث قرّاءه على الاعتراف بأهمية "المساواة المتساوية" في ترسيخ نظام حكم يعتمد على القانون. أكد أن الديمقراطيات تحتاج إلى الحفاظ على توازن بين فرص المواطنين وثرواتهم ومكانتهم، حيث يُعتبر التفاوت المفرط سببًا رئيسيًا يسهم في تقويض القوانين. شدد على أن التفاوتات الهائلة في الثروة والمكانة الاجتماعية تُشكِّل تهديدًا للقانون، وتُغذي الحزبية العنيفة، وهي العدو الرئيسي للقانون في الديمقراطيات.
في القرن التاسع عشر، قدم كارل ماركس تحليلات تتجاوز النظرة التقليدية للقانون في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. أكد أنه لم يكن هناك مجتمع -بما في ذلك المجتمعات الليبرالية- يتمتع بقانون عادل ومتساوٍ، كما يزعم بعض المدافعين عنه. وفي رأيه، يُعَدُّ الحياد الرسمي للقانون مجرد واجهة، جزءًا من البنية الفوقية التي تحجب استغلال الأقلية للأغلبية. اتفق مكيافيلي وأفلاطون على أن معظم الأنظمة القانونية لم تجعل الحياة صعبة بما فيه الكفاية بالنسبة للطبقة المستغلة. ورغم معارضتهم الشديدة للرؤية المشككة في القانون التي قدمها ماركس، إلا أنهم توقعوا تحليلاته لطبقات المعتقد، والهوية، والعقلية، والمشاعر، التي تزيد من صعوبة التعامل مع عدم المساواة.
في ساحة المجتمعات التجارية والمصرفية المتنافسة، وهو مشهدٌ شابه في عصر أفلاطون وفلورنسا المكيافيلية، وأوروبا التي شهدت زمن ماركس، تميل عادات الطبقة الثرية إلى استنزاف جوهر المساواة بشكل كبير، الأمر الضروري لدعم سيادة القانون. وصاغ ماركس هذه الأيديولوجية على أنها مجموعة من المعتقدات التي تسهم في تعتيم طبقات المستضعفين لاستغلالهم من قبل الطبقة الأكثر ثراء. وقبل مرور قرن من الزمان، توقع جان جاك روسو أن الدول الأولى تم إنشاؤها عندما "صوَّر الأغنياء بشكل مُفتَعِلٍ أن يكونوا المشروع الذي دخل إلى عقل البشر: إقناع الفقراء، باستخدام "أسباب مُضلِلة"، بقبول "القوانين الحكيمة التي تحمي الجميع" بالمساواة، و"تحافظ على وحدتهم في وئامٍ أزلي".
ولكن، بينما رفض ماركس مثل هذه المعتقدات باعتبارها وعيًا مُضللًا وفرضًا غريبًا يمكن للثورة أن تحطمه، رأى روسو الأثر العميق لتلك الآراء على نظرة الأفراد لعالمهم. أصبح الناس مألوفين بالتنافس في حصص غير متكافئة حتى أصبحوا غير قادرين على رؤية كيف يمكن للقوانين تخفيف عدم المساواة دون تحطيم أسلوب حياتهم. يعتقدون أنهم ملزمون بالمشاركة في لعبة شديدة التنافس، ليس فقط لأنهم لا يرون أي خيار آخر، ولكن لأنهم مبرمجون على الرغبة في الفوز باللعبة التي يقال لهم باستمرار إنها اللعبة الوحيدة في المدينة.
في عصرنا الحالي، جعلت وسائل الإعلام والتسويق هذه الرؤية أكثر صدقًا من أي وقت مضى. يصفق الجميع لأعلى رواد الأعمال ويحلمون بأن يصبحوا مثلهم: تحقيق أرباح هائلة، وكسب رواتب فاحشة، وامتلاك المزيد من المنازل والقلاع والمركبات الفاخرة أكثر من الرتب الأقل من القطط السمان. أن تكون نجمًا لم يعد كافيًا. عليك أن تكون، أو تريد أن تكون، نجمًا. تُظهر هذه النظرة المبالغ فيها للنجاح "المساواة المتساوية" التي طرحها مكيافيلي تبدو وكأنها عقيدة خاسرة - رتيبة ومكتظة وتقتل المشاريع.
وهكذا تتآمر الثقافة مع الاقتصاد لتعزيز العدم المساواة وتقويض حكم القانون في ديمقراطياتنا. وليس من الغريب أن يكون الأفراد من الطبقات المتوسطة والدنيا، الذين يعيشون في الغالب في غمرة عدم الأمان في المجتمع، أكثر حرصًا على تحقيق أي ميزة بأي وسيلة ممكنة. يروي مكيافيلي حلقة من تاريخ فلورنسا حين قام المواطنون من الطبقة الوسطى، الطامحين لتعزيز "سمعتهم"، بطرد العمال الفقراء من نظام النقابات الذي كان يحمي حقوقهم الاقتصادية والسياسية لفترة طويلة. كانت النتيجة حربًا أهلية حطمت الثقة بين الطبقات المختلفة لعدة قرون، وساعدت عائلة ميديشي الثرية على الصعود إلى السلطة بشكل غير لائق. يستخدم مكيافيلي هذا الحدث لاستخلاص درس للأجيال القادمة: عندما تكون المنافسة ضعيفة التنظيم، يفرز ذلك عدم المساواة الهائلة ويضع ضغطًا هائلًا على وعد الديمقراطية بالمساواة بموجب القانون. يعبر عن تعاطف كبير مع متمردي الطبقة الدنيا، مشددًا على أنهم تعرضوا للغش في نظام العدالة التي يجب أن تدين بها الجمهورية للجميع. ومع ذلك، يرى أن الحل الصحيح للظلم ليس في الثورة العنيفة، بل في وضع قوانين أفضل. بالنسبة لميكيافيلي، وكما هو الحال بالنسبة لأفلاطون - رغم أن الأخير عاش فى زمن أكثر مساواة بكثير - يعد التنظيم الاقتصادي وآليات إعادة التوزيع جزءًا لا يتجزأ من سيادة القانون.
بعد مرور عقدين من الزمن، اتفق روسو على أن يجب أن تكون الركيزة الأساسية للقوانين اجتماعية واقتصادية وثقافية. ورغم وجود العديد من الأمثلة على القوانين التي تنحني لصالح الثروة والسلطة، إلا أنه لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن القوانين محكومة بمثل هذا الواقع المذل. يعلن بوضوح قائلاً: "للقانون وحده، هو الذي يدين به الرجال للعدالة والحرية". وهذا القول يظل صحيحًا حتى في عصرنا الحالي، على الرغم من الشكاوى المستمرة حول ضعف وفعالية القوانين. فقد تُستخدم المساواة القانونية في بعض الأحيان كوسيلة لتحقيق المزيد من السيطرة من قبل الأثرياء، ولكنها تظل فكرة رائعة يمكن توظيفها لأغراض أكثر نفعًا - ولا يمكن للبشر التخلي عن هذه الفكرة.
تدور المشكلة الرئيسية - وربما تكون هي مهمتنا الأعظم التي لا تنتهي أبدًا - حول وضع قوانين قادرة على تحقيق هذه النعم، في معظم الأحيان على الأقل، وزرعها فى أرض ملائمة. بعد أفلاطون، يصف برناردو مكيافيلي القانون الجيد كتقليد للحكمة الفائقة. في هذا السياق، تطرح التساؤلات بوضوح: كيف يمكن للفرد العاصف والأناني أن يتفق على الهيئة التي ينبغي للأمور أن تتخذها؟ وفي فلورنسا، كان يعتقد أتباع سافونارولا أنهم اكتشفوا جوهر هذه الحكمة في نبوءات الراهب، التي ادعى أنها نزلت مباشرة من عند الله. في عصور مضطربة، كان يرى بعض المشرعين أن القوانين الحكيمة يجب أن تكون صارمة وتتطلب مستويات عالية من الانقياد، وبالتالي تثير الرهبة بين الناس وتشجعهم على الطاعة. بحث بعض رجال حكم القانون الجمهوريين، مثل شيشرون، عن صورة للعقل الإلهي في الطبيعة. ومع ذلك، كما أشار برناردو، فإن المفكرين الطبيعيين يختلفون فيما بينهم بشأن متطلبات الطبيعة للحياة المدنية.
كالمعتاد، انغمس أفلاطون في تفكيره بعمق يفوق فهم الكثيرون. أشار إلى أن أفضل المشرعين هم أولئك الذين يدركون جيدًا عدم وجود حكمة بشرية قادرة على تحقيق الكمال التام في وضع القوانين. يتخذون منحى يتجنب مطاردة الكمال ويكرّسون جهودًا مستميتة بوعي حي لإقامة قوانين تتفق مع الطبيعة البشرية المعيبة. يتجنب هؤلاء المشرعون العقوبات القاسية التي قد ترعب الناس أو تعاملهم بوحشية، وكذلك العقوبات الناعمة التي قد لا تثني عن فعل الجريمة أبدًا. هدفهم الرئيسي يتمثل في استعادة الصحة في النفوس وتعزيز الصداقة في المجتمعات، دون التركيز على تحقيق التوحيد في العقائد والأفعال أو مساعدة الدولة في فرض سيطرتها على المواطنين. يعاملون الناس باعتبارهم أفرادًا أحرارًا، بغض النظر عن ميولهم لخرق القانون، حيث يمتلكون دائمًا هامشًا صغيرًا من الحرية. وعبر استغلال هذا الهامش الضئيل من الحرية، يجب على القانون أن يتجاوب مع إرادة الناس بدلاً من الاكتفاء بالنصوص القانونية وتهديدات العقوبات.
إذا كان استغلال القوانين من قبل الفصائل والأثرياء والمستبدين يظهر بسهولة، فلماذا نعتبر القوانين مرجعًا ملائمًا للحكم المطلق؟ وكيف يمكن الاعتماد على شيء ضعيف كالقانون المدني لحماية حياتنا وحدودنا، وللحفاظ على سلامة المواطنين من اعتداءات البعض على البعض؟ الإجابة تكمن في أن القوانين يمكن أن تكون فعّالة إذا تم تصميمها لهذا الغرض، وليس من تلقاء نفسها. حتى القوانين ذات التدخل الكبير تحتاج إلى دعم متواصل من قبل المواطنين الذين يدركون مبادئها الإنسانية ويعيبون عيوبها. صوّر أفلاطون هذه الفكرة بتمثيل الإله كرونوس للبشر بشياطين حكيمة، كحكام، وعندما اندثرت تلك العصور، جاءت البشرية بقوانين كتجسيد مباشر لحكمة تلك الشياطين، الحكمة الثانية بعد حكمة الآلهة. ورغم عيوب تلك الجهود التشريعية والتي كانت غالبًا قاتلة، إلا أنها كانت في النهاية تقليدًا مباشرًا للعقل والعدالة. ومع ذلك، فإنها لا تزال تمثل الاختيار الأمثل الذي يمكن للإنسان أن يتّخذه.
مترجم من Lithub
إرسال تعليق