المحتويات [إظهار]
إن خطر العدمية يتلخص في أنها تنفرنا عن أي شيء طيب أو حقيقي. ومع ذلك، فإن الإيمان بلا شيء ينطوي على إمكانات إيجابية.
إن العدمية تهديد مستمر، كما أدركت الفيلسوفة حنا أرندت في القرن العشرين، فمن الأفضل فهمها ليس فقط كمجموعة من "الأفكار الخطيرة"، ولكن كمخاطرة متأصلة في فعل التفكير ذاته. فإذا تأملنا في أي فكرة محددة لفترة كافية، مهما بدت قوية في البداية، أو مهما كانت مقبولة على نطاق واسع، فسوف نبدأ في التشكيك في صحتها. وقد نبدأ أيضاً في الشك فيما إذا كان هؤلاء الذين يقبلون هذه الفكرة يعرفون حقاً (أو يهتمون) ما إذا كانت الفكرة حقيقية أم لا. وهذا خطوة واحدة بعيدة عن التفكير في سبب قلة توافق الآراء بشأن العديد من القضايا، ولماذا يبدو أن الجميع متيقنون إلى هذا الحد مما يبدو لكم الآن غير مؤكد. و عند هذه النقطة - على حافة العدمية- هناك خياران: إما أن تواصل التفكير وتجازف بعزل نفسك عن المجتمع ؛ أو تتوقف عن التفكير و تخاطر بعزل نفسك عن الواقع.
فقبل قرن من أرندت، وصف فريدريش نيتشه في مذكراته (التي نشرتها أخته بعد وفاته في كتاب "إرادة القوة") اختياراً بين العدمية "الفعالة" و العدمية "السلبية". ومن بين إحدى أقواله الكثيرة عن العدمية أنها نتيجة لأرفع القيم التي تقلل من قيمة نفسها. فقيم مثل الحق والعدل يمكن أن تشعر إنها ليست مجرد أفكار، بل أن لها قوة خارقة للطبيعة، وخصوصا عندما نقول: ‹ الحق يحرركم › او ‹ العدل يُقام › و عندما يتبين أن هذه القيم لا تملك القوة المنسوبة إليها، وعندما يتبين أن الحقيقة لا تحرر، وعندما لا تتحقق العدالة، نصاب بخيبة أمل. ولكن بدلا من أن نلوم انفسنا على الإفراط في الإيمان بهذه القيم، نلوم هذه القيم على أنها لم ترتق إلى توقعاتنا.
و وفقاً لنيتشه، يمكننا عندئذ أن نصبح عدميين فعالين وأن نرفض القيم التي أعطاها لنا الآخرون من أجل إقامة قيم خاصة بنا. أو قد نصبح عدميين سلبيين ونستمر في الإيمان بالقيم التقليدية، على الرغم من الشكوك التي تساورنا حول القيمة الحقيقية لتلك القيم. العدمية الفعالة تدمر من أجل إيجاد أو خلق شيء يستحق التصديق. فقط ما يمكنه النجاة من الدمار هو الذي يجعلنا أقوى كان نيتشه ومجموعة الروس في القرن التاسع عشر الذين عرفوا انفسهم بأنهم عدميون يشتركون في هذه النظرة. بيد أن أنصار العدمية السلبيين لا يريدون أن يجازفوا بتدمير أنفسهم، وبالتالي يتشبثون بسلامة المعتقدات التقليدية. ويزعم نيتشه أن مثل هذه الحماية الذاتية تشكل في واقع الأمر شكلاً أكثر خطورة من أشكال التدمير الذاتي. إن الإيمان لمجرد الإيمان بشيء ما من شأنه أن يؤدي إلى وجود سطحي، وإلى الرضا عن الذات فيما يتصل بالاعتقاد بأي شيء يؤمن به الآخرون، لأن الإيمان بشيء ما (حتى ولو تبين أنه لا شيء يستحق التصديق عليه) سوف ينظر إليه العدمي السلبي باعتباره أفضل من المجازفة بعدم الإيمان بأي شيء، إلى المجازفة بالتحديق في الهاوية ــ وهو تعبير مجازي عن العدمية الذي كثيراً ما تظهر في عمل نيتشه.
واليوم، أصبحت العدمية وسيلة شائعة لوصف الموقف المنتشر على نطاق واسع إزاء حالة العالم الراهنة. ولكن عندما يستخدم هذا المصطلح في المحادثة، أو في افتتاحيات الصحف، أو في صيحات وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه نادراً ما يتم تعريفه، وكأن الجميع يعرفون جيداً ما تعنيه العدمية ويشاركون في نفس التعريف للمفهوم. ولكن كما رأينا فإن العدمية قد تكون فعالة وسلبية. وإذا أردنا فهماً أفضل للعدمية المعاصرة، ينبغي أن نحدد كيف تطورت في المعرفة والأخلاق والميتافيزيقيا، وكيف وجدت تعبيراً لها في مختلف طرق الحياة، مثل إنكار الذات وإنكار الموت وإنكار العالم.
ففي الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)، كثيراً ما يُنظَر إلى العدمية باعتبارها إنكاراً لحقيقة مفادها أن المعرفة ممكنة، و هو الموقف الذي ليس له أساس راسخ في معتقداتنا. تستند حجة العدمية المعرفية إلى فكرة مفادها أن المعرفة تتطلب ما هو أكثر من مجرد عارف أو معروف. وعادة ما يُنظر إلى شيء آخر على أنه ما يجعل المعرفة موضوعية، حيث أن القدرة على الإشارة إلى شيء خارج نطاق تجربة المرء الشخصية هي التي تفصل المعرفة عن مجرد الرأي.
ولكن بالنسبة للعدمية المعرفية، لا يوجد معيار، ولا أساس يمكن للمرء أن يستند إليه في تقديم ادعاءاته المتعلقة بالمعرفة، ولا يوجد ما يبرر اعتقادنا بأن أي ادعاء بعينه صحيح. وجميع النداءات إلى الموضوعية من منظور العدمية المعرفية هي أوهام. نحن نخلق انطباع المعرفة لإخفاء حقيقة أنه لا توجد حقائق. وعلى سبيل المثال، وكما قال توماس كون في بنية الثورات العلمية (1962) "يمكننا بالتأكيد أن نطور نماذج معقدة جداً وناجحة جداً لوصف الواقع، يمكننا أن نستخدمها لاكتشاف ثروة من "الحقائق" الجديدة، ولكننا لا نستطيع أبدا أن نثبت أن هذه الحقائق مطابقة للواقع نفسه -فهي يمكن ببساطة أن تكون مستمدة من نظرتنا الخاصة للواقع."
وإذا كان هناك ما يزعم أنه صحيح استناداً إلى تجربة سابقة، فإن مشكلة الاستقراء تنشأ: فمجرد حدوث شيء ما لا يعني أنه لابد أن يحدث مرة أخرى. وإذا ما زعم البعض أن شيئاً ما صحيح استناداً إلى أدلة علمية، فهنا تنشأ مشكلة اللجوء إلى سلطة أكبر -أدلة علمية-. ومن الناحية المنطقية، ينظر إلى مثل هذه النداءات على أنها مغالطة، لأن ادعاءات الآخرين- وحتى ادعاءات الخبراء- لا ينظر إليها على أنها أساس للحقيقة. بكلمات اخرى، حتى الخبراء يمكن أن يكونوا متحيزين ويقترفوا الأخطاء. بالإضافة إلى ذلك، عندما يبنون العلماء نظرياتهم بناءً على عمل العلماء السابقين، عندئذٍ يمكن اعتبار إنهم ايضا يرفعون دعواهم إلى سلطة أكبر. وهذا يؤدي إلى مشكلة أخرى، مشكلة التراجع اللامتناهي. وأي ادعاء بالمعرفة يستند إلى أساس ما يؤدي حتما إلى تساؤلات بشأن أساس ذلك الأساس، ثم أساس ذلك الأساس، وهكذا دواليك وهلم جرا.
وعند هذه النقطة، قد يبدو أن ما أسميه هنا "العدمية المعرفية" لا يختلف حقاً عن الشك. وعلى نحو مماثل، يشكك المتشككون في الأسس التي تستند إليها المزاعم الخاصة بالمعرفة، ويشككون في إمكانية التوصل إلى أي أساس أكيد للمعرفة. وهنا قد يكون من المفيد أن نعود إلى تمييز نيتشه بين العدمية الفعالة والسلبية. ففي حين قد يكون العدمي الفعال مماثلاً للشكاك الراديكالي، فإن العدمي السلبي لن يكون كذلك. ويدرك أنصار العدمية السلبية أن التساؤلات المتشككة من الممكن أن تثار حول المعرفة. ولكن بدلاً من التشكيك في المعرفة، يستمر العدمي السلبي في الإيمان بالمعرفة. وبالتالي، فإن المعرفة موجودة، في حالة العدمية السلبية، ولكنها موجودة على أساس الإيمان.
وبالتالي فإن العدمية لا تكمن فقط في الشخص الذي يرفض ادعاءات المعرفة لافتقارها إلى أساس لا يقبل الشك. بل إن الشخص الذي يدرك الشكوك المحيطة بمزاعم المعرفة والذي يستمر رغم ذلك في التصرف وكأن هذه الشكوك لا تشكل أهمية حقيقية يُعَد أيضاً عدمياً.
و من هنا يمكن للنظريات العلمية أن تستند إلى أساس استئنافات لنظريات أخرى، تقوم على أساس استئنافات لنظريات أخرى، قد تقوم أي نظرية منها على أساس خطأ. ولكن ما دامت النظريات العلمية مستمرة في تحقيق النتائج ــ وخاصة النتائج في هيئة تقدم تكنولوجي ــ فإن الشكوك حول الحقيقة المطلقة لهذه النظريات من الممكن اعتبارها تافهة. وفي التقليل من أهمية الشكوك حول المعرفة، يسخر العدمي السلبي من أهمية السعي إلى المعرفة.
أو بعبارة أخرى، بالنسبة للعدمية السلبية، فإن المعرفة لا تشكل أهمية. فكِّر فقط في عدد المرات التي يتم فيها استعمال كلمات مثل ‹ المعرفة › أو ‹ اليقين › بطريقة عشوائية في الحياة اليومية. يقول أحدهم إنهم يعرفون أن القطار قادم، فإما أننا لا نسأل عن الكيفية التي يعرفون بها أو،إذا طلبنا ذلك، فإننا غالبًا ما نقابل بالأساس المطلق للمعرفة في الحياة المعاصرة: أكيد لأن هاتفهم يقول ذلك. وقد يتبين أن الهاتف كان مصيباً، وفي هذه الحالة يظل ادعاء الهاتف بالسلطة محفوظاً. أو قد يتبين ان الهاتف خاطئ، وفي هذه الحالة لا نلوم الهاتف بل القطار. وبما أن الهاتف أصبح الضامن الرئيسي للمعرفة، فإن الاعتراف بأن الهاتف قد يكون خطأ يعني المخاطرة بأن نعترف بأنه ليس من الممكن فقط أن تكون ادعاءاتنا الخاصة بالمعرفة القائمة على الهاتف لا أساس لها من الصحة، بل إن كل ادعاءاتنا الخاصة بالمعرفة يمكن أن تكون كذلك. ففي نهاية المطاف، وكما هي الحال مع الهاتف، فإننا لا نميل إلى التساؤل عن السبب الذي يجعلنا نعتقد أننا نعرف ما نظن أننا نعرفه. وبهذه الطريقة تصبح العدمية السلبية، ليس موقفاً جذرياً من مواقف ما بعد الحداثة، بل جزءاً عادياً من الحياة اليومية.
ففي الفلسفة الأخلاقية، يُنظَر إلى العدمية باعتبارها إنكاراً لوجود الأخلاق. وكما يزعم دونالد أ كروسبي في شبح العبث (1988)، فإن العدمية الأخلاقية يمكن أن ينظر إليها باعتبارها نتيجة للعدمية المعرفية. وإذا لم تكن هناك أسباب لتقديم ادعاءات موضوعية بشأن المعرفة والحقيقة، فليس هناك إذن أسباب لتقديم ادعاءات موضوعية بشأن الصواب والخطأ. وبعبارة أخرى، فإن ما نعتبره أخلاقيا هو مسألة تتعلق بما يعتقد أنه صحيح -سواء كان ذلك المعتقد مرتبطاً بكل حقبة تاريخية أو بكل ثقافة أو بكل فرد -وليس مسألة تتعلق بما هو صحيح .
إن الادعاء بأن شيئا ما هو صواب قد تم القيام به تاريخيا من خلال إرساء هذه الادعاءات إلي اساس مثل الله، او السعادة، او العقل. ولأن هذه الأسس يُنظَر إليها على أنها تطبق عالمياً -كما تنطبق على الجميع، وفي كل مكان، وفي كل زمان -فإنها تعتبر ضرورية لتطبيق المبادئ الأخلاقية عالمياً.
لقد ادرك الفيلسوف الأخلاقي عمانويل كانط الذي عاش في القرن الـ ١٨ خطر تأويل الله او السعادة على المبادئ الاخلاقية باعتبارها تؤدي الى الشك في المبادئ الأخلاقية. فالايمان بالله يمكن ان يدفع الناس الى التصرف أخلاقياً، ولكن فقط لينتهي بهم المطاف الى السماء لا إلى الهاوية. و أن السعي وراء السعادة يمكن أن يحفز الناس على التصرف أخلاقياً، لكننا لا نستطيع ان نتيقن مسبقا ما هي الاجراءات التي ستجلب السعادة للناس. وعلى هذا فقد زعم كانط في رده أن الأخلاق تستند إلى أسباب منطقية بدلاً من ذلك. وهو يرى أنه إذا كان الأساس العالمي هو ما تحتاج إليه الأخلاق، فيتعين علينا ببساطة أن نتخذ القرارات وفقاً لمنطق القابلية العالمية. من خلال تحديد ما نحاول تحقيقه في أي عمل، وبتحويل تلك النية إلى قانون يجب على جميع الكائنات العقلانية أن تطيعه، يمكننا استخدام المنطق لتحديد ما إذا كان من الممكن منطقياً إضفاء الطابع العالمي على الإجراء المزمع. لذا فإن المنطق ــ وليس الله أو الرغبة ــ يستطيع أن يخبرنا ما إذا كان أي عمل مقصود هو الصواب (القابل للعالمية) أو الخطأ (غير القابل للعالمية).
ولكن هنالك عدة مشاكل تتعلق بمحاولة وضع المبادئ الاخلاقية على أساس العقل. وإحدى هذه المشاكل، كما أشار إلى ذلك جاك لاكان في كتابه "كانط مع ساد" (1989)، هي أن استخدام الطابع العالمي كمعيار للصواب والخطأ يمكن أن يسمح لأناس أذكياء (مثل الماركيز دي ساد) بتبرير بعض الأعمال التي تبدو مروعة إذا تمكنوا من إثبات أن تلك الأعمال يمكن أن تجتاز الإختبار المنطقي لكانط. وثمة مشكلة أخرى، كما أشار إلى ذلك جون ستيوارت مِل في مذهب النفعية (1861)، وهي أن البشر عقلانيون، ولكن العقلانية ليست كل ما لدينا، ولذلك فإن إتباع مبادئ كانط الأخلاقية يجبرنا على العيش كإنسان آلي غير مكترث وليس كإنسان بشري.
وهناك مشكلة أخرى، كما أشار نيتشه، وهي أن العقل قد لا يكون كما ادعى كانط، إذ من المحتمل تماماً أن العقل ليس أساسا أكثر صلابة من الله أو السعادة. في سلسلة أصل الأخلاق و فصلها (1887)، قال نيتشه إن العقل ليس شيئا مطلقاً وعالمياً، بل هو بالأحرى شيء تطور على مر الزمن ليصبح جزءاً من حياة الإنسان. وبنفس الطريقة التي يمكن بها تعليم الفئران في التجارب المختبرية أن تكون عقلانية، كذلك تعلمنا أن نصبح عقلانيين بفضل قرون من "التجارب" الأخلاقية والدينية والسياسية في تدريب الناس على أن يكونوا عقلانيين. ولذلك لا ينبغي النظر إلى العقل على أنه أساس راسخ للأخلاق لأن أسسه يمكن التشكيك فيها.
وهنا نستطيع أن نجد تمييزاً مهماً بين الكيفية التي يستجيب بها العدمي الفعال والعدمي السلبي لمثل هذا الشك الأخلاقي. إن القدرة على التشكيك في شرعية أي أساس محتمل للأخلاق من الممكن أن تدفع العدمي الفعال إما إلى إعادة تعريف الأخلاق أو رفض الأخلاق. ففي المقام الأول، يمكن الحكم على الأفعال باستخدام المبادئ الأخلاقية، ولكن العدمية الفعالة هي التي تحدد هذه المبادئ. ولكن ما يبدو مبدعاً يمكن في الواقع أن يكون مشتقاً و مقتبساً، لأنه من الصعب التمييز عندما نفكر بأنفسنا بدلاً من عندما نفكر وفقاً لكيفية تربيتنا.
لذا فمن المرجح بدلاً من مثل هذه الأنانية الأخلاقية أن ترفض العدمية الفعالة المبادئ الأخلاقية بالكامل. وبدلاً من ذلك، لا يحكم على الإجراءات إلا من الناحية العملية فقط، مثل ما هو أكثر أو أقل كفاءة نحو تحقيق الغاية المرجوة. لذلك يُنظر إلى أفعال الإنسان على أنها لا تختلف عن أفعال حيوان أو آلة. وإذا بدا لنا من الخطأ أن نقول إن حيواناً ما شرير حين يأكل حيواناً آخر وهو جائع، فمن الخطأ أيضاً أن نقول إن البشر أشرار حين يسرقون من إنسان آخر وهم جياع.
فبدون الأخلاق، يُنظر إلى مفاهيم من قبيل السرقة أو الملكية أو الحقوق على أنها ليس لها سوى مكانة قانونية. ويمكن النظر إلى الأفعال على أنها إجرامية ولكن ليس على أنها منافية للأخلاق. ويمكن رؤية مثال لهذه العدمية الفعالة في السفسطائي اليوناني القديم ثراسيماخوس. في جمهورية أفلاطون، يزعم ثراسيماخوس أن "العدالة" ليست أكثر من دعاية يستخدمها القوي لمضايقة الضعيف، بخداعه ودفعه إلى قبول مثل هذا الاضطهاد باعتباره عدلاً.
ومن ناحية أخرى فإن النزعة العدمية السلبية لا ترفض الأخلاق التقليدية لمجرد أن شرعيتها يمكن التشكيك فيها. وبدلاً من ذلك فإن النزعة العدمية السلبية ترفض الفكرة القائلة بأن شرعية الأخلاق تشكل أهمية حقيقية. إن العدمية السلبية تطيع الأخلاق، ليس من أجل الأخلاق، بل من أجل الطاعة. إن العيش وفقاً لما يعتقد الآخرون أنه صواب وخطأ، وأن يكون خيراً وشراً، ينظر إليه الناس من منظور العدمي السلبي باعتباره أفضل من أن يضطروا إلى الحياة بدون مثل هذه المعايير الأخلاقية لتوجيه عملية صنع القرار. فالمقاييس الأخلاقية توفر بوصلة، ويفضّل العدميون السلبيون أن يبحروا في الحياة باستخدام بوصلة معيبة بدلاً من المخاطرة بخوض الحياة وهم يشعرون بالضياع التام.
كما أن المعايير الأخلاقية تمنح الناس شعوراً بالانتماء الى المجتمع. إن مشاركة المعايير والقيم لا يقل أهمية عن مشاركة اللغة في أسلوب الحياة. وفي رفضها للأخلاق فإن العدمية الفعالة ترفض أيضاً المجتمع. ولكن العدمي السلبي غير راغب في المجازفة بالشعور بالوحدة التامة في العالم. وعلى هذا فإن رفض "العدمية" السلبية للشرعية الأخلاقية يعني احتضان المجتمع. إن ما يهم العدمية السلبية إذن ليس ما إذا كان الادعاء الأخلاقي صحيحاً، بل ما إذا كان الادعاء الأخلاقي شعبياً و شائعاً.
وهذا يعني أن الأخلاق لا تشكل أهمية بالنسبة للعدميين السلبيين. إن العدمية السلبية تقدر الأخلاق باعتبارها وسيلة لتحقيق غاية ما، وليس باعتبارها غاية في حد ذاتها. ولأن الرغبة في الانتماء والانقياد تتفوق على الرغبة في الحصول على اليقين الأخلاقي، فإن العدميين السلبيين لا يهتمون إلا بحس الاتجاه وروح الجماعة التي قد تأتي من قبول النظام الأخلاقي. إن النزعة العدمية السلبية أشبه بمشاهد في حدث رياضي ينتمي إلى الفريق المحلي لمجرد أن هذا هو ما يفعله الجميع. إن العدمية السلبية تدعم المعايير الأخلاقية لمجرد أنها مقبولة في المجتمع الذي يريد العدمية السلبية أن تنتمي إليه.
وكما قد تؤدي العدمية المعرفية إلى العدمية الأخلاقية، فإن العدمية الأخلاقية قد تؤدي إلى العدمية السياسية. إن العدمية السياسية تُفهم عادة باعتبارها رفضاً للسلطة. وكانت هذه هي الحال مع هؤلاء العدميين الذين عرفوا أنفسهم في روسيا في القرن التاسع عشر، والذين نجحوا في نهاية المطاف في اغتيال القيصر. بيد أن هذا الشكل الثوري من العدمية السياسية، الذي يمكننا أن نربطه بالعدمية الفعالة، لا يمثل الشكل السلبي للعدمية السياسية.
إن خطر العدمية الفعالة يأتي من رغبتها الفوضوية في تدمير المجتمع من أجل الحرية. و إن خطر العدمية السلبية يأتي من استعدادها المتقدة لتدمير الحرية من أجل المجتمع. وكما رأينا بالفعل، فإن أدوات العدمية السلبية تعمل على تعزيز المعرفة والأخلاق من خلال التعامل مع كل منهما باعتبارها ذات أهمية فقط بقدر ما تخدم كوسيلة لتحقيق غايات الراحة والأمن. والحاجة إلى الشعور بالحماية من عدم الارتياح نتيجة الشك وانعدام الأمن نتيجة عدم الاستقرار هي التي تؤدي بالعدمية السلبية إلى أن تصبح في نهاية المطاف أكثر تدميراً من العدمية الفعالة.
ومكمن الخطر هنا هو أن الأنظمة الأخلاقية والسياسية التي تروج للحرية والاستقلال سوف يُنظَر إليها باعتبارها أقل جاذبية في نظر العدميين السلبيين من الأنظمة الأخلاقية والسياسية التي تشجع القبول العقائدي للتقاليد والطاعة العمياء للسلطة. ورغم أننا قد نقول إننا نريد أن نكون أحراراً ومستقلين، فإن مثل هذا التحرر قد يشعر وكأنه عبء رهيب. وقد عبّر عن ذلك مثلاً سورين كيركيغارد في مفهوم القلق (1844) عندما وصف القلق بأنه "دوخة الحرية" الذي ينشأ عندما ننظر إلى ما يبدو لنا على أنه "حافة" الإحتمالات اللامتناهية. فكِّر في عدد المرات التي تُقدَّم فيها قائمة مليئة بالخيارات، مما يدفع مرتادي المطاعم الى طلب توصية من النادل. أو كيف تحولت Netflix من الترويج لمكتبتها الضخمة من الأفلام التي يمكنك اختيارها من بينها إلى الترويج لخوارزميتها التي من شأنها أن تجعلك "ترتاح" بينما تقوم باختيارك.
وأعرب نيتشه عن قلقه إزاء ما رآه قبولاً متزايداً للنكران والتضحية بالذات وإنكار الذات بوصفها مُثُلاً أخلاقية. فقد رأى أن قبول مثل هذه المُثُل النافية للذات دليل على أن العدمية السلبية كانت تنتشر كمرض في كل انحاء اوروبا في القرن التاسع عشر. في القرن العشرين، كان إريك فروم في الخوف من الحرية (١٩٤١) قلقاً أيضاً بشأن ما وصفه بـ ‹ الخوف من الحرية › المنتشر في كل انحاء اوروپا. وكان هذا القلق هو الذي حفز عمل كل من المنظرين النقديين في ألمانيا والوجوديين في فرنسا.
وحذرتنا أرندت من ضرورة توخي الحذر الشديد حتى لا ننظر إلى العدمية باعتبارها مجرد أزمة شخصية من عدم اليقين. بل علينا أن نعترف بأن العدمية أزمة سياسية. إن العدمية من الممكن أن يعززها أولئك الذين يتمتعون بالسلطة ويستفيدون من مثل هذه الأزمات. وبالتالي فإن العدمية الميتافيزيقية يمكن أن تحمل ثقلاً سياسياً. فالاعتراف بأن الكون لا معنى له يمكن أن يؤدي إلى النظر إلى المخاوف المتعلقة بالاضطهاد والحرب حول البيئة على أنها لا معنى لها أيضاً. ولهذا السبب فإن الاستفادة من العدمية ليست حكراً على الساسة.
و وفقاً لـ سيمون دي بوفوار في كتاب أخلاقيات الغموض (1948)، فإن أحد الأشكال التي يمكن أن تتخذها العدمية هو الحنين إلى الماضي -أي الرغبة في العودة إلى ما شعرنا به كأطفال من حرية قبل أن نكتشف كبالغين أن الحرية تستتبع المسؤولية. وعلى هذا فإن الشركات تستطيع أيضاً أن تستفيد من تعزيز العدمية في هيئة إقناعنا بالحنين إلى الماضي وغير ذلك من السبل لصرف أنظارنا عن الواقع. ولهذا السبب، يتعين علينا ألا نعترف بالعدمية في أنفسنا فحسب، بل وأن نعترف أيضاً بوجودها في العالم من حولنا، وأن نحدد مصادر تلك العدمية. وبدلاً من أن نسمح لأنفسنا بأن نشعر بالعجز في عالم يبدو وكأنه توقف عن الاهتمام، فيتعين علينا أن نتساءل من أين تأتي وجهات النظر العدمية للعالم، ومن يستفيد من رؤيتنا للعالم بهذه الطريقة.
مقال لـ نولين جيرتز و هو هو أستاذ مساعد للفلسفة التطبيقية في جامعة تفينتي وباحث كبير في مركز 4TU للأخلاقيات والتكنولوجيا في أيندهوفن ، وكلاهما في هولندا. وهو مؤلف كتاب فلسفة الحرب والنفي (2014) ، العدمية والتكنولوجيا (2018) والعدمية (2019).
مقال لـ نولين جيرتز و هو هو أستاذ مساعد للفلسفة التطبيقية في جامعة تفينتي وباحث كبير في مركز 4TU للأخلاقيات والتكنولوجيا في أيندهوفن ، وكلاهما في هولندا. وهو مؤلف كتاب فلسفة الحرب والنفي (2014) ، العدمية والتكنولوجيا (2018) والعدمية (2019).
إرسال تعليق