المحتويات [إظهار]
لم تنحسرالبراجماتية بعد ديوي مباشرة: لقد ظلت قوة دائمة ومهيمنة في الفلسفة لما يقرب من مائة عام
في فجر القرن العشرين، ظهرت في الولايات المتحدة حركة فلسفية مميزة عُرفت بالواقعية (البراجماتية). ورغم أن المصطلح كثيراً ما يستخدم اليوم للإشارة إلى الرغبة الفجة في تحقيق النتائج، فإن مؤسسي البراجماتية ــ تشارلز ساندرز بيرس (1839-1914)، ووليام جيمس (1842-1910)، وجون ديوي (1859-1952)، وتشونسي رايت (1830-75)، وأوليفر ويندل هولمز (1841-1935) ــ كانوا مفكرين بارعين. وقدم كل منهم مساهمات كبيرة في مجالات تتراوح بين المنطق، والمعرفية، وفلسفة اللغة، والفلسفة القانونية، وفلسفة العلم، والأخلاق، وعلم الجمال، وفلسفة الدين، والفلسفة السياسية. وعلى الرغم من اختلافاتهم، فقد دفعهم تفسير مشترك للفلسفة البراجماتية يؤكد على دور العمل في تفكيرنا، من المعتاد والدنيوي إلى التجريبي والإبداعي. إن جوهر البراجماتية هو "المبدأ العملي" الذي تبناه بيرس، والذي يقترح تحليل معنى مفاهيمنا من خلال النظر في كيفية توجيهها للعمل علي أرض الواقع.
ومن المناسب أن يحمل أحد أقدم الكتب عن تطور البراجماتية عنوان المعنى والعمل (1968). في هذا الكتاب، قدم الفيلسوف الأميركي إتش إس ثاير وجهة نظر عن تأسيس البراجماتية و التي أصبحت معياراً فيما بعد:
البراجماتية هي طريقة للفلسفة غالباً ما يتم تحديدها كنظرية للمعنى ذكرها أولاً تشارلز بيرس في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ و تم إحياؤها في المقام الأول كنظرية الحقيقة في عام 1898 بواسطة ويليام جيمس؛ ثم قام جون ديوي بتطويرها وتوسيعها ونشرها.
و هنا فكرتان مترابطتان بشدة. فأولاً، هناك رأي مفاده أن بيرس وجيمس صاغا تعريفات للبراجماتية التي تشكل تمهيداً جزئياً للبراجماتية المنهجية لديوي. وثانياً، هناك فكرة مفادها أن قصة تأسيس البراجماتية هي قصة الإختلافات الفلسفية التي تذبل وتتوحد في فلسفة ديوي. وهذه النظرة الإنمائية لتاريخ البراجماتية خاطئة.
ولا يحتاج المرء إلى تمحيص الوثائق الأولية للبراجماتية من أجل تحديد نقاط الإختلاف الجوهرية بين بيرس وجيمس وديوي. تأسست البراجماتية وسط نزاع معروف بين بيرس وجيمس حول فكرتها المحورية وهي "المبدأ العملي". واقترح بيرس المبدأ العملي كأداة للاستغناء عن الهراء الميتافيزيقي؛ وهو يرى أن البراجماتية "طريقة للتحقق من معاني الكلمات الجامدة والمفاهيم المجردة". وجوهر هذه الطريقة هو الفكرة القائلة بأننا يجب أن ننظر إلى النتيجة النهائية لمفاهيمنا عند تنفيذها على أرض الواقع لكي نفهمها.
ولكي نتعرف على الكيفية التي يعمل بها هذا المبدأ العملي، فلنتأمل هنا أحد تطبيقات بيرس الخاصة: مبدأ الإستحالة الجوهرية الكاثوليكي. هذه الفكرة التي تقول أن الخبز والخمر يتحوَّلان في ذبحية القداس ميتافيزيقيًا إلى جسد ودم المسيح، رغم عدم وجود أي تغيير على الاطلاق في خصائصهما المنطقية. ويتساءل بيرس: هل يمكن أن نألف هذا التحول؟ فإجابته هي أن مجرد فكرة أن يكون شيء ما دماً، ولكن -من ناحية أخري- لا يمكن تمييزها فعلياً عن النبيذ هي هراء و "مصطلح لا معنى له". وبإصراره على تحليل الكلمات والبيانات وفقاً لـ "ما هو ملموس وما يمكن تصوره عملياً"، طمح بيرس إلى "استبعاد المفاهيم الخاطئة" عن الفلسفة، ومن ثم وضعها على مسار البحث الصحيح.
لم يكن جيمس راضياً عن صياغة بيرس لهذا المثال. بل لقد اقترح بدلاً من ذلك عملية إعادة أوسع لا تهدف إلى تبديد الهراء الميتافيزيقي، كما زعم بيرس، بل إلى تسوية النزاعات الميتافيزيقية. واقترح جايمس أنه يجب علينا إدراج ضمن الآثار العملية لـ "قول ما" الآثار النفسية له. ففي حين زعم بيرس أن المبدأ العملي يكشف عن عدم جدوى مبدأ الاستحالة الجوهرية، فقد تصور جيمس أن البراجماتية توفر حجة حاسمة لصالح هذا المبدأ. والفكرة القائلة بأن المرء يمكن أن "يتغذى على جوهر الألوهية" لها "تأثير هائل" وبالتالي فهي "التطبيق العملي الوحيد" لفكرة المادة. ويرى جيمس أن المبدأ العملي يفيد في حل المناقشات الفلسفية القديمة بدلاً من استبعادها.
إن هذا الاختلاف فيما يتصل بالمبدأ العملي يشكل الأساس لنزاع هائل بين بيرس وجيمس حول الحقيقة. جادل بيرس بأن الاعتقاد يعتبر صحيحاً إذا كان "غير قابل للنقض" ؛ أو مرضياً تماماً ؛ أو لم يتم تحسينه ؛ أو أنه لن يؤدي أبداً إلى خيبة أمل؛ أو إنها ستواجه تحديات الأسباب والحجج والأدلة إلى الأبد. في غضون ذلك ، عبّر جايمس عن رأيه في الحقيقة والموضوعية قائلا:
أي فكرة يمكن أن نبني عليها … أي فكرة ستنقلنا بنجاح من أي جزء من تجربتنا إلى أي جزء آخر، تربط الأشياء بشكل مرضٍ، تعمل بشكل آمن، توفر التبسيط، و عملية، هي … أداة حقيقية.
و تعبير ‹ بشكل مُرضٍ ›، بالنسبة إلى جايمس، " تعني بشكل مُرضٍ أكثر لأنفسنا، وسيركز الافراد على نقاط رضاهم بشكل مختلف. ولذلك فإن كل شيء هنا بلاستيكي إلى حد ما." لكن، لم يعتقد (بيرس) أن الحقيقة كانت بلاستيكية و قد أخبر جايمس: " اعتقد أن رغبتك في الإيمان هي رغبة مبالغ فيها للغاية، مثل إصابة رجل خطير جدا." لقد استهزأ بما اعتبره نظرة جايمس: ‹ أوه ، لم أستطع أن أصدق كذا وكذا ، لأني سأكون بائساً اذا فعلت ›.
وحين يظهر ديوي في الصورة، يتبين لنا أن قصة البراجماتية لا تشكل أي شيء غير التنمية المباشرة، حيث يؤدي فِكر أحد الفلاسفة بشكل طبيعي إلى فِكر الآخر. ووفقاً لديوي فإن البراجماتية لم تكن هي مجال رفض الهراء ولا في تسوية النزاعات الميتافيزيقية. فقد سعى إلى اتباع فلسفة لا تعوقها الألغاز والمشاكل التقليدية والمشاكل. وقد قاوم الاستراتيجية البيرسية المتمثلة في اقتراح اختبار للمعنى، وعوضاً عن ذلك، دعم فكرة الفلسفة الاجتماعية، زاعماً أن المشاكل الفلسفية التقليدية تنشأ بطبيعة الحال عن الظروف الاجتماعية والفكرية لعصر ما قبل داروين.
و جادل ديوي بأنه، بما أن هذه الظروف لم تعد قائمة، ينبغي التخلي عن المشاكل الفلسفية التقليدية باعتبارها "عفة"، واستبدالها بصعوبات جديدة ناشئة عن العلوم الداروينية. يرى ديوي أن الداروينية تُظهِر أن العالم لا يحتوي على جوهر ثابت أو طبيعة ثابتة. ويولد هذا الإدراك مشكلة تنقيح أفكارنا الفلسفية والأخلاقية بحيث تكون أكثر ملاءمة لتعمل كأدوات لمواجهة التغيير. ويرى ديوي أن المشكلة الفلسفية الرئيسية في عصر ما بعد داروين تتلخص في الحفاظ على قيمنا في مواكبة قوتنا التكنولوجية، حتى يتسنى لها أن توجه المجتمع نحو قدر أعظم من الحرية.
وفي هذا الصدد، يختلف ديوي بشكل كبيرعن جيمس: إن أسلوبه العملي لا يهدف إلى حل النزاعات، بل يهدف إلى إظهار أن البرامج الفلسفية غير البراجماتية غير قابلة للتطبيق. وهنا قد يبدو ديوي في مستهل الأمر متحالفاً مع بيرس، ولكن موقف ديوي في التعامل مع الفلسفات التقليدية أكثر تطرفاً. ومن المؤكد أن قول بيرس بأن العديد من العبارات الميتافيزيقية التقليدية لا معنى لها ؛ ومع ذلك، فإنه يترك أيضاً عدداً كبيراً من المناقشات الفلسفية قائمة. على سبيل المثال، تصور بيرس أن الخلاف بين الاسمية والواقعية (هل يتألف الواقع فقط من تفاصيل محددة أم أن العمومية حقيقة أيضا؟) كان نزاعاً فلسفياً حقيقياً وهاماً. واقترح مقولته كطريقة لضمان المضي في هذه المناقشات الفلسفية المشروعة بشكل مربح. الميتافيزيقيا، في حالتها الحالية، هي "علم ضعيف، متداعي، متهالك ، لكن لا يجب أن يبقى كذلك." و أن المبدأ العملي سوف يكتسح "كل تفاهة ميتافيزيقية من البيت. وكل تجريد ينطق بكلام غير مفهوم هو هراء واضح حتي يزود بتعريف واضح وعملي."
وعلى النقيض من ذلك، لم يوجه ديوي انتقاداته إلى عبارات محددة، بل إلى برامج فلسفية بالكامل. ورفض الديكارتية، والكانطانية، والهومينية، والأفلاطونية، والأرسطية، وكل مدرسة فلسفية أخرى تقريباً، باعتبارها نسخًا من العيب الشائع يتمثل في توظيف ازدواجية قديمة أخرى. ومرة أخرى تلخص ديوي في أن كل هذه التوجهات أصبحت عتيقة: فهي ليست بلا معنى، بل غير صالحة وعديمة الفائدة. وفي حين رأى بيرس البراجماتية كقاعدة لإجراء بحث فلسفي لهذه البرامج الفلسفية، رأى ديوي البراجماتية كبرنامج فلسفي لإعادة هيكلة الفلسفة والمجتمع.
وقد اعترف البراجماتيون الكلاسيكيون أنفسهم بهذه الاختلافات الفلسفية. وقد أدى عمل جيمس وأولئك الذين أثر فيهم إلى قيام بيرس في عام 1905 بالتخلي رسمياً عن مصطلح البراجماتية (pragmatism) ؛ وأعاد تعميد فلسفته البراجماتية (pragmaticism) ، وهو الاسم الذي كان يأمل أن يكون "قبيحاً بما يكفي ليكون في مأمن من الخاطفين"، وهو بالتأكيد كان كذلك. كما أن ديوي كان حريصاً على إبعاد نفسه عن نظرية جيمس للحقيقة. وفي مراسلة شخصية مع ديوي، اشتكى بيرس من أن فلسفة ديوي "فضفاضة جداً" واستخدمت الكثير من 'الحجج المراوغة'.
و لتوضيح الأمر، فإن الرواية التي عرضناها للتو تنحي جانباً تفاصيل هامة كثيرة. ومع ذلك ، فإن ما تم تسجيله يكفي
لإظهار أنه من الخطأ تقديم البراجماتية كمبدأ اقترحه في البداية بيرس ،
وصقله جيمس ، وبلغت ذروته في كتابات ديوي. بل إن ما يجده المرء في البراجماتية الكلاسيكية هو سلسلة من الخلافات الجوهرية حول مواضيع فلسفية دائمة، بما في ذلك المعنى والحقيقة والمعرفة والقيمة والخبرة وطبيعة الفلسفة ذاتها.
وهناك سوء فهم آخر شائع بشأن تاريخ البراجماتية أعرب عنه بشكل أفضل البراجماتي الأحدث ريتشارد رورتي:
فنحو عام 1945، كان الفلاسفة الأميركيون يشعرون بالملل من ديوي، وبالتالي من البراجماتية. فقد سئموا من أن يقال لهم إن البراجماتية هي فلسفة الديمقراطية الأميركية، وأن ديوي كان الشخصية الفكرية الأميركية العظيمة في عصرهم، وما إلى ذلك. أرادوا شيئاً جديداً شيئاً يمكنهم أن يضعوا أسنانهم الفلسفية فيه وما ظهر، بفضل هتلر ومختلف الطوارئ التاريخية الأخرى، هو التجريب المنطقي، وهو نسخة مبكرة مما نسميه الآن "الفلسفة التحليلية".
بعبارة أخرى، يؤكد السرد الشعبي "لكسوف البراجماتية" (كما سنسميه) أن البراجماتية سيطرت على الفلسفة المهنية في أميركا طيلة سنوات ذروة ديوي، من أوائل القرن العشرين إلى أوائل الأربعينيات. ثم، وبسبب الحرب في أوروبا وما نتج عنها من تدفق الأكاديميين إلى الولايات المتحدة، اتخذت الفلسفة المهنية في الولايات المتحدة "منعطفاً لغوياً" وبدأت تركز على القضايا التقنية والمنهجية التي ترتبط اليوم بـ "الفلسفة التحليلية"، وهي تقليد نشأ عن عمل جوتلوب فريجه في ألمانيا ؛ بيرتراند راسل، وجي إي مور، ولودفيغ فيتغنشتاين في إنكلترا ؛ و رودولف كارناب و موريتز شليك في النمسا
لقد اعتبر رورتي الفلسفة التحليلية الجديدة باعتبارها غزو خبيث في أقسام الفلسفة الأميركية، وهو الغزو الذي أزاح البراجماتيّة. والأمر البالغ الأهمية هو أن الإزاحة لم تتحقق من خلال التعامل بمواجهة نقدية مع الحجج والالتزامات التي تقدم بها البراجماتيون، بل ببساطة من خلال إعلان البراجماتية لينة وغير صارمة بما فيه الكفاية. وعلى هذا فإن البراجماتيّة تم تخطيها عندما بدأ الفلاسفة في الولايات المتحدة في الاستدلال على إيحاءاتهم الفكرية من الفلاسفة التحليلين. وبعد اكتساب معاقل في كل الجامعات التي منحت درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة تقريباً، سارع خبراء الفلسفة التحليلية إلى تدريب أجيال عديدة من الفلاسفة المحترفين. وعلى هذا فإن البراجماتية، فلسفة أمريكا المحلية، كانت مدفوعة لتحت الأرض، حيث عمل بقية الموالين على بناء شبكات بحثية مكرسة للحفاظ على بقاء المصطلح الكلاسيكي على قيد الحياة.
ولكن هنالك أيضا قيامة في رواية الكسوف. وتمضي قائلة إن الفلسفة التحليلية أثبتت في نهاية المطاف أنها ذاتية الانغلاق وغير ذات أهمية اجتماعية إلى الحد الذي جعلها غير قابلة للاستمرار. بعد أن تعافى الفلاسفة في الولايات المتحدة، وأبرزهم رورتي، وهيلاري بوتنام، وكورنيل ويست، من البدعة التحليلية، اكتشفوا البراجماتية من جديد في أعمالهم التاريخية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. ومن هنا برزت "البراجماتية الجديدة" بوصفها تطوراً رئيسياً في الفلسفة المهنية في مرحلة ما بعد التحليل. يبدو أن الكسوف تم إلغاؤه.
حسناً، ليس تماماً. قصة القيامة هذه مليئة بالاستياء. حيث يُزعم أن البراجماتية الجديدة تحليلية أكثر مما ينبغي ولا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنصوص التقليدية. فقد انحرفت عن مسارها الطبيعي، و ليس براجماتية أصيلة. وأدت قيامة البراجماتية إلى كسوف ثان: فعلى الرغم من أن التيار الفلسفي السائد بات الآن متوافقاً مرة أخرى مع بعض المفردات والأفكار البراجماتية، إلا أنه استقبل تلك الأفكار في الشكل الفاسد الذي روج له البراجماتيون الجدد. ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإن البراجماتية الكلاسيكية تظل مهجورة بدون مبرر.
ونتيجة لهذا، هناك كتابات متزايدة مكرسة لإعادة تغليف البراجماتية التي تبناها ديوي. ويشمل العمل في هذا النوع الافتراض الضمني بأن غير البراجماتيين ببساطة يجهلون البراجماتية الحقيقية ؛ وعلى هذا فإن هناك موضوعاً متكرراً يتلخص في ضرورة إعادة اكتشاف فلسفة ديوي حتى تتمكن من "إحياء" الفلسفة السائدة. والواقع أن الإنتاج المطرد للمجلدات المكرسة لتأكيد "الأهمية المستمرة" لديوي، و "اكتشاف" أفكاره واستعادة "دروسه" أمر ملفت للنظر.
والنتيجة، المأساوية بالنسبة لاحتمالات البراجماتية، هي أن الموقف الناتج عن ذلك يرقى إلى العزلة المبدئية. فبدافع من سردهم لماضيهم الذي يركز على اضطهاد مزعوم، واقتناعهم بأنه لم يحدث أي تقدم منذ ديوي، شرعوا في مشروع استرجاع ينبههم إلى التحدث في أغلب الأحوال فيما بينهم عن الأوقات العصيبة التي انهارت فيها البراجماتية. ولا يمكن تصور وجود استراتيجية أكثر موثوقية لتهميش البراجماتيين الكلاسيكيين. ولكن قدراً كبيراً من رواية الكسوف في حد ذاتها مضللة.
ويستند هذا التفسير لتاريخ البراجماتية إلى الزعم بأن الفلسفة التحليلية التي وصلت إلى أميركا الشمالية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين (والتي تحمل اسمي "التجريبية المنطقية" و "الوضعية المنطقية") كانت متناقضة مع البراجماتية. هذا ليس دقيقاً. كانت هناك أوجه تشابه ملحوظة بين البراجماتية والتجريبية المنطقية، وقد تطور كل تقليد في ضوء الآخر.
وعندما وصل التجريبيون المنطقيون إلى الولايات المتحدة، وجدوا تربة قد يزدهر فيها موقعهم. فهم لم يصلوا الى أرض غير مضيافة لوجهة نظرهم، ولم يضطروا إلى استئصال وجهة النظر التي وجدوها مغروسة هناك. وكما قالت الباحثة المنطقية روث باركان ماركوس عن الفترة التي قضتها كطالبة دراسات جامعية في قسم الفلسفة بجامعة نيويورك، الذي ترأسه لمدة عدة عقود الطالب البارز لديوي، سيدني هوك: "لقد ازدهرت البراجماتية في انسجام مع الوضعية المنطقية ومتغيراتها، منطقية التجريبية والتجريبية العلمية". تخرجت في عام 1941، ولكن هوك ترأس قسم جامعة نيويورك حتى عام 1969، حيث احتفظت الجامعة بطابعها البراجماتي".
ويجادل الوضعيون المنطقيون بأن الفلسفة يجب أن تضع نفسها في لغة علمية وأن تجعل نفسها واضحة. وسوف يتبين آنذاك أن أغلب الإجابات المزعومة على الأسئلة القديمة العهد غير مثمرة ولا معنى لها، لأنها غير قابلة للاختصار في بيانات الملاحظة. وهي ليست قابلة للتحقق منها تجريبياً، ولذلك فهي "افتراضات زائفة". ونلاحظ أوجه التشابه الواضحة مع مبدأ بيرس البراغماتي، فضلاً عن الالتزام الذي وجد أيضاً في أفكار ديوي، بإعادة صياغة الفلسفة في ضوء العلم الحالي.
والأمر الأكثر لفتاً للنظر هو أن نظرية المعرفة ونظرة الحقيقة التي برزت بقوة في الفلسفة التحليلية من ثلاثينيات القرن العشرين إلى ذروتها في خمسينيات وستينيات القرن العشرين كانت في واقع الأمر براجماتية. في عام 1932، وضع أوتو نويرات رؤيته في صميم نظرته إلى الحق والمعرفة على سبيل الاستعارة الكلاسيكية. كانت لتصبح صورة مشهورة ومعتمدة على نطاق واسع:
لا سبيل إلى وضع بيانات [ملاحظات] بروتوكول مؤمَّنة ومحكمة كنقاط انطلاق للعلوم. ليس هناك صفحة بيضاء فنحن أشبه بالبحارة الذين يضطرون إلى إعادة بناء سفنهم في عرض البحر، من دون أن يتمكنوا قط من تفكيكها في حوض جاف وإعادة بنائها من أفضل مكوناتها.
وقدم بيرس استعارة تحمل نفس الرسالة على وجه التحديد: فقد شبه المستفسرين بأشخاص يسيرون في مستنقع، قائلاً "يبدو أن هذه الأرض ثابتة في الوقت الحاضر. سأبقى هنا حتى ينتهي الأمر و تبدأ فى التزعزع" المعرفة غير معصومة ونحن نقوم بالتنقيحات عندما تسبب قوة التجربة الشك بمعتقد معين أو نظرية معينة. وعلى حد تعبير أحد دعاة التجريب المنطقي، هانز هان: " أما في مواجهة النظرة الميتافيزيقية القائلة بأن الحقيقة تكمن في الاتفاق مع الواقع -رغم أن هذا الاتفاق لا يمكن إثباته -فإننا نؤيد وجهة النظر البراجماتية القائلة بأن حقيقة الأقوال تكمن في تأكيدها. " باختصار، كان كل من الوضعيين المنطقيين و البراجماتيين يرتابون من الميتافيزيقية لنظرية تناظر الحقيقة، بما تنطوي عليه من أشياء يتعذر الوصول إليها في حد ذاتها. فكلاهما سعى إلى نظرية الحقيقة التي على أساسها تكون البيانات الصحيحة هي تلك التي يمكن التحقق منها وتكون ناجحة.
والواقع أن فلسفة التحليل في مرحلة ما بعد الحرب في الولايات المتحدة كانت خاضعة لهيمنة طلاب البراجماتي الأعظم كلارينس إرفينج لويس (الذي كان أشبه ببيرس). أثناء فترة دراسته بجامعة هارفارد، علم لويس ثلاثة من عمالقة فلسفة أواخر القرن العشرين ــ ويلارد كواين، وويلفريد سيلارز، ونيلسون جودمان، وجميعهم كانوا يخجلون من تبني تسميتهم بالبراجماتيين، خشية الارتباط بجيمس وديوي. وقام ديوي من جانبه بتدريب العديد من المشاهير في تلك الفترة ؛ ومن أبرز هؤلاء هوك وأرنست ناغيل اللذان دافعوا عن البراجماتية مع الحفاظ على مراكز نفوذ بارزة داخل المهنة. ومن الجدير بالذكر أن كلاً منهما تولى الدور المرموق الذي لعبه رئيس الشعبة الشرقية للجمعية الفلسفية الأميركية أثناء سنوات الكسوف المفترضة للبراغماتية ــ ناجيل في عام 1954، هوك في عام 1959.
لا شك أنه عند فحص الفلسفة المهنية طيلة النصف الأخير من القرن العشرين يجد المرء تلاشيًا تدريجيًا لتأثير فلسفة ديوي. غير أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال تراجع البراجماتية في حد ذاتها، لأن البراجماتية لا تبلغ ذروتها في ديوي.
وبما أن رواية الكسوف تسلط الضوء على البراجماتيين باعتبارهم ضحايا للغزو الأجنبي، فإنها ملتزمة بفكرة مفادها أن البراجماتيين لم يتمكنوا إلا قليلاً من التأثير على الفلاسفة التحليليين في الخارج. إن الجزء الخارجي الذي كان (وما زال) من المفترض أن يكون معادياً للغاية للبراجماتية هو إنجلترا. ومن المؤكد أن أحد من الفلاسفة البارزين هناك لم ينبهر بأي نوع من أنواع البراجماتية. قال راسل إن كتاب جيمس البراجماتية (1907) "يشبه الاستحمام مع مياه ساخنة تجري ببطء شديد لدرجة أنك لا تعرف متى تصرخ" ؛ وادعى أيضا أن ديوي كان 'رجلاً جيداً ولكنه ليس ذكيا جدا'.
قد يكون (راسل) شريراً ولكنه في واقع الأمر لم يكن رافضاً للبراجماتية بشكل كامل. وقد احترم پيرس، التي كانت مثل راسل نفسه منطقيا بارزا. تعلّم راسل الكثير عن پيرس سنة ١٩١٤، فيما كان يزور هارڤارد ليلقي محاضرات لويل. كان حديث القسم عن پيرس فيما كان راسل موجوداً، والسبب في ذلك جزئياً هو أنه مات في منتصف زيارة راسل. فقد طُلِب من راسل العودة إلى هارفارد لتعليم حلقة دراسية عن بيرس وتحرير المجلد الأول من أوراقه التي تم جمعها بعد وفاته ، ووافق على ذلك، ولكن الحرب العالمية الأولى قد بدأت، حيث انتهى الأمر براسل إلى السجن بسبب أنشطته المناهضة للحرب. لكنه بقي مهتماً. استكشف كتابه "تحليل العقل" (1921)، بطريقة إيجابية، الفكرة البراجماتية القائلة بأن الإيمان هو استعداد للتصرف.
وعلاوة على ذلك، كان فرانك رامزي الشاب اللامع، الذي ظهر على مشهد كامبردج الفلسفي في أوائل عشرينيات القرن العشرين، رجلاً براغماتيًا حاملاً للقوى. وقال، بتشجيع من راسل، إنه كان يملك ميولاً براجماتية منذ بداية أيامه الجامعية. ففي عام 1923، قرأ أول مجلد من أبحاث بيرس التي جمعت بعد وفاته وزادت براغماتيته في القوة والنطاق. الأهم من ذلك ، رمزي هو فيلسوف تحليلي، قدم إسهامات مذهلة في فلسفة اللغة والمنطق ونظرية الحقيقة.
لقد استغل رامزي الفكرة البراجماتية التي مفادها أننا لا ينبغي لنا أن نحاول عبثاً تقديم دليل ، على سبيل المثال ، للتحريض على فعل ، ولكن بدلاً من ذلك ، يجب علينا إثباته من خلال إظهار مدى أهمية ممارسته. وقدم أيضاً معالجات براجماتية موجهة نحو عملاء للإحتمالية و السببية و القوانين العلمية. فقد زعم، مع بيرس، أن المعتقد عادة من عادات الفعل، ووظف هذه الفكرة في معرفة كيفية قياس المعتقد الجزئي وإضفاء الطابع الرسمي على الاختيار. وقد انجذب الى رواية بيرس عن الحقيقة ومات (بعمر ٢٦ سنة) في منتصف كتابة كتاب كان يحاول إيجاد حل له.
في عام 1929، العام الذي سبق وفاته ــ والعام الذي عاد فيه فيتغنشتاين إلى كامبريدج بعد منفاه الذي فرضه علي نفسه كأستاذ مدرسة في النمسا ــ دفع رامسي حججه البراجماتية ضد نظرية فيتغنشتاين التراكتارية (حركة أكسفورد) التي تفيد بأن اللغة تصور العالم، وأن ما لا يمكن أن يُقال بلغة فيتغنشتاين المنطقية هو نوع من الهراء، وفي بعض الأحيان ينطوي على أهمية صوفية. أما فلسفة فيتغنشتاين اللاحقة، والتي صيغت في تحقيقاته الفلسفية (1953) ومؤلفاته الأخرى، فبوسعنا أن نزعم أنها تشكل أيضاً نوعاً من البراجماتية التي تؤكد على أسبقية الممارسة والمغزى باعتباره استخداماً. و كما اعترف فيتجنشتاين، فقد كان متأثراً بشدة بأفكار رامزي.
وفي العقود اللاحقة، كانت حياة هذين النهجين البراغماتيين ــ نهج رامزي وأسلوب فيتغنشتاين اللاحق ــ مختلفة تمام الاختلاف في الفلسفة البريطانية. (فيتغنشتاين) كان مشهور بنفوذه خصوصاً في (أكسفورد). بينما كان (رامزي) مؤثراً بشكل هادئ، خصوصاً في (كامبريدج). وأعادت أجيال من فلاسفة كامبريدج اكتشاف رؤيته، مجزأة في كثير من الأحيان، وعادة بدون تقدير من أين حصل عليها رامزي ذاته. ومع ذلك، فإن الأطروحات والحجج والشواغل البراجماتية تعم الفلسفة التحليلية التي سادت في أكسفورد وكامبردج طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى هذا فإن سرد الكسوف يفشل ليس فقط بوصفه سرداً لمصائر البراجماتية في الولايات المتحدة، بل وأيضاً لمصائر البراجماتية في إنجلترا.
وفي مقابل رورتي وأولئك الذين يؤيدون رواية الكسوف، كان مذهب البراجماتية في واقع الأمر مؤثراً ومستمراً. وبطبيعة الحال، تختلف الأمور فيما يتعلق بمصطلح "البراجماتية". حيث في الولايات المتحدة قد خرجت عن نطاق المحاباة، ولم تلتقطها بريطانيا قط. ولكن يتعين علينا أن نتذكر أن معناها كان محل جدال منذ تصادم بيرس وجيمس حول المبدأ البراغماتي. والواقع أن ديوي نفسه كان قد أسقطها بحلول عام 1925. وأحد أسباب عدم استحسان هذا المصطلح يعبر عنه بوضوح السيد كواين، الذي أعلن في عام 1981 أنه يمكن التخلص منه على أسس مناسبة تماماً وهو أنه "يرسم فراغًا براغماتيًا، يبتعد عن الواقع العملي".
ولكن البراجماتية لم تكن قط مسألة تصنيفات. إن المبدأ العملي يشكل في حد ذاته نوعاً من الإتهام للسلطة التي قد يفرضه التصنيف على فكرنا. وبالأحرى، كانت البراجماتية دائماً سلسلة من الخلافات بين مجموعة معينة من الفلاسفة التجريبيين حول الحقيقة و المعني والتحقيق والقيمة. وبمعنى أوضح لكل من تاريخ البراجماتية وتاريخ الفلسفة التحليلية، يجد المرء أن البراجماتية لم تهمش أو تنمحي في فترة ما بعد ديوي. بل إن البراجماتية كانت تشكل قوة ثابتة وهيمنة في الفلسفة المهنية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم لما يقرب من مائة عام. وبقدر ما تذهب التعابير الفلسفية، فإن البراجماتية من بين الأكثر نجاحاً في تاريخ هذا الفرع.
مقال مشترك بين شيريل ميساك ( أستاذة الفلسفة في جامعة تورنتو) و روبرت ب تاليسي (أستاذ الفلسفة في دبليو ألتون جونز ورئيس قسم الفلسفة في جامعة فاندربيلت في تينيسي)
مقال مشترك بين شيريل ميساك ( أستاذة الفلسفة في جامعة تورنتو) و روبرت ب تاليسي (أستاذ الفلسفة في دبليو ألتون جونز ورئيس قسم الفلسفة في جامعة فاندربيلت في تينيسي)
إرسال تعليق