المحتويات [إظهار]
كان هناك أورويل الإنسان، وأورويل الروائي، وأورويل المثقف والناقد والصحفي وكاتب المقالات الراديكالي. في الآونة الأخيرة، أصبح جورج أورويل، الذي ولد باسم إيريك آرثر بلير ولم يتخل عن اسمه الأصلي تمامًا، يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه كاهن حديث وعراف موهوب، تنبأ بدقة مرعبة بمدى هشاشة أنظمتنا السياسية وضعفها وقابليتها للخطأ. لقد أضحت أعماله بوصلةً تهدينا في أوقات ركود وتراجع الديمقراطية، كما هو الحال في جميع أنحاء العالم. ومن بين كتبه جميعًا، يظل "1984" هو الكتاب الذي ترك الأثر الأعمق في نفوس أجيال من القراء عبر أنحاء العالم.
كنت طالبة جامعية في تركيا عندما اكتشفت لأول مرة هذه الرواية التحذيرية، من خلال نسخة ممزقة وجدتها بالصدفة في مكتبة لبيع الكتب المستعملة. بطل الرواية ونستون سميث -المتمرد الذي لا يشبه الأبطال في التقاليد والأساطير- كان فردًا وحيدًا متأملًا وملتزمًا في نظام قمعي. الأخ الأكبر، يراقب دائمًا، ويهيمن على كل شبر من الحياة اليومية، مثل نظرة سماوية لا ترمش. إعادة كتابة ماضي الأمة لتناسب أوامر الحاضر واحتياجات الحكومة والدولة والحزب، ورمال من الذاكرة الشخصية تحاول النجاة من موجات فقدان الذاكرة الجماعية المتلاطمة.
كل ذلك هزني حتى أعماقي. وجدت نفسي أفكر في القصة بعد وقت طويل من انتهائي من الصفحة الأخيرة. وفي تلك الأيام، كنت قد بدأت بهدوء في كتابة الروايات واحتفظت بها لنفسي، وأحلم بأن أصبح روائية - أمنية لم أجرؤ على النطق بها بصوت عالٍ-. وصادف أن كان هذا هو الوقت الذي كنت أقرأ فيه باستفاضة عن الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي حدثت وما زالت تحدث في وطني.
حقائق منسية. قصص مكتشفة. مواضيع محرمة. تم مسح السجلات التاريخية ببراعة من خلال الدعاية الرسمية. و وصم أي شخص يجرؤ على التشكيك في الرواية السائدة بأنه "خائن". معاناة وصمت مختبئ تحت غطاء "الحياة الطبيعية". لم يبدو لي العالم الذي وصفه أورويل بعيد المنال أو سرياليًا، بل كان مألوفًا بشكل مخيف وقريبًا بشكل خطير.
وعندما أعود بذاكرتي إلى الماضي، لا أعتقد أنني كنت وحدي في هذا الشعور. لا بد أنه كان هناك الكثير منا في جميع أنحاء العالم ممن شعروا بإحساس غريب مشابه بالديجا فو عند قراءة "1984" للمرة الأولى. بالنسبة لأولئك منا الذين يأتون من "ديمقراطيات جريحة" أو أنظمة استبدادية في طور التكوين أو دكتاتوريات صريحة، فإن أوقيانوسيا لم تكن أبدًا أرضًا بعيدة الاحتمال تقع في مستقبل غير متوقع، بل كانت شيئًا أقرب وأعمق، ومخيفًا أيضًا. لم تكن "1984" حتى تحذيرًا مستنيرًا بشأن ما قد تقود إليه الأمور إذا سارت السياسة على نحو خاطئ وغير متوقع. بالنسبة لنا، كان "1984" هنا بالفعل. لقد كان يحدث ذلك بالفعل.
***
خلال التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة، كانت النظرة الاستقطابية للعالم شائعة للغاية. ووفقاً لهذه النظرة، انقسمت الأرض إلى "أراضٍ صلبة" و"أراضٍ سائلة". كانت الأولى، والتي تمثلت غالباً في الديمقراطيات الغربية المتقدمة، تُعتبر قوية وآمنة وثابتة. لم يعد مواطنوها يقلقون بشأن حقوق الإنسان والحريات الأساسية - مثل حرية التعبير وحقوق المرأة - لأن هذه الحقوق والحريات قد تحققت بالفعل، وتم تجاوز عتبة التنمية الاجتماعية والسياسية منذ زمن طويل.
وفي "أماكن أخرى"، في تلك البلدان السائلة التي تعصف بها العواصف، وغير المستقرة، كانت مثل هذه المخاوف مبررة بشكل أكبر. ففي النهاية، لم تكن تلك الدول "تم بلورتها بعد" - لم تتوطد بعد، وكانت لا تزال في حالة تغير مستمر. ولكن بما أن التاريخ يعني قصة التقدم، فحتى تلك البلدان التي كانت "متخلفة عن الركب" سوف تلحق بالغرب، عاجلاً أم آجلاً. لقد سقط جدار برلين، ولم يعد الاتحاد السوفييتي موجوداً. وكان النموذج السياسي الوحيد الذي كان قابلاً للحياة ومستدامًا لأطول فترة ممكنة هو الديمقراطية الليبرالية. في تلك الأيام، كانت هناك ثقة هائلة -وهي ثقة كان يتقاسمها الكثيرون في كل من وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية- بأن الديمقراطية هي المستقبل المشترك للبشرية.
وعلى هذه الخلفية، ظهرت شبكة الويب العالمية، والتي رافق ظهورها الإثارة المحيطة بالتقنيات الرقمية الجديدة. وما تلا ذلك كان عصراً من التفاؤل المفرط. تفائلنا بشأن التجارة الحرة والتكنولوجيا التي يمكن لها أن تجعلنا جميعًا مترابطين. وبفضل انتشار منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والتفاعل المتزايد بين الدول من خلال تبادل الخدمات والسلع ورؤوس الأموال، سنصبح جميعًا قرية عالمية. قرية ديمقراطية! ومن الآن فمن هنا و صاعدًا، لن يكون من الممكن إيقاف توسع الديمقراطية، حيث لا يمكن لأي شيء أن يقف في طريق تدفق المعلومات.
ولا حتى الطغاة، ولا حتى أسوأ المستبدين. ستنشر شبكات التواصل الاجتماعي المعلومات على نطاق واسع. وسوف يصبح الناس "مواطنين مطلعين"، وسيسعى المواطنون المستنيرون إلى إيجاد حلول مثمرة وبناءة. فإذا كانت المعلومات تنتقل بحرية وصراحة، فكيف يمكن للحكام المستبدين أن يستمروا في إخفاء الحقيقة عن شعوبهم؟ لقد انتهى عصر الاستبداد.
لقد كانت هناك ثقة ساذجة في قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على التعجيل بالتغيير الديمقراطي الخيّر، حتى أن زوجين شابين في مصر أطلقا على مولودهما الجديد اسم "فيسبوك"، وأطلقت عائلة في إسرائيل، بعد بضعة أشهر، اسم "لايك" على طفلهما الثالث. وبحلول الوقت الذي كان فيه هؤلاء الأطفال يصلون إلى مرحلة المراهقة، كان العالم قد تغير بشكل كامل وجذري، وتحول التفاؤل المفرط في العقود السابقة إلى تشاؤم صارخ.
بحلول عام 2016، بات واضحًا للجميع أن الديمقراطية لم تكن في صعود كما كان متوقعًا، بل على العكس تمامًا، بدأت تتراجع وتضعف. تردد صدى الخطاب التحريضي للانعزالية والقومية المتطرفة والاستبدادية في أنحاء العالم، والمثير للدهشة أن هذا لم يحدث فقط في "الأراضي السائلة"، بل في "الأراضي الصلبة" أيضًا. فجأة، انهارت الافتراضات الثنائية البسيطة التي كانت سائدة في العقود السابقة، والتي كانت تثير المشاكل دائمًا. ربما كانت الديمقراطية أكثر هشاشة مما كنا نظن. وربما كان علينا جميعًا أن نقلق بشأن حقوق الإنسان وحرية التعبير ومستقبل المؤسسات والأعراف الديمقراطية. ربما لم يكن هناك شيء مثل الأراضي الصلبة والأراضي السائلة، وكنا في الحقيقة نعيش جميعًا في "الأزمنة السائلة".
حتى الدول الغربية المستقرة والآمنة لم تكن محصنة ضد مخاطر الاستبداد. ومع ترسخ هذا الإدراك، ارتفعت مبيعات رواية "1984" لجورج أورويل. كان هذا الارتفاع واضحًا بشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قالت إدارة ترامب بوقاحة للصحفيين إن هناك حقائق ثم هناك "حقائق بديلة". بدا ذلك وكأنه شيء من رواية "1984". لا عجب إذن أن التعديلات على الرواية انتشرت في دور السينما والمسارح وبرودواي. بدأ العديد من الأمريكيين يشعرون بما شعرنا به نحن في أجزاء أخرى من العالم عندما قرأنا رواية "1984" لأول مرة - أنها لم تكن ديستوبيا بعيدة المنال تدور أحداثها في مكان وزمان بعيدين. لقد كانت هنا بالفعل. لقد كانت تحدث بالفعل.
***
كتب أورويل "1984" وهو في مزاج كئيب بينما كان يعاني من المرض، وكان قلقًا للغاية على نفسه وعلى حالة العالم. وعلى وجه الخصوص، كان يشعر بالقلق من أن الحقيقة الموضوعية آخذة في التلاشي. تدور أحداث الرواية حول الخسارة؛ فقدان الحقيقة، وفقدان الذاكرة، وفقدان الحب والتعاطف. هذا ليس من قبيل الصدفة، فلا يمكن ممارسة القوة والقسوة بشكل غير منضبط إلا عندما يتم إخضاع الحقيقة والذاكرة والحب والتعاطف تمامًا. عندها فقط يمكن اختزال الكائن البشري إلى "لا أحد"، ويمكن اختزال المجتمع بأكمله إلى مجرد أرقام.
عندما تتلاشى الحقيقة على هذا النطاق الهائل، ندخل إلى قاعة من المرايا المشوهة حيث يكون كل شيء مقلوبًا رأسًا على عقب. وزارة السلام تشارك في افتعال الحرب، ووزارة الوفرة تولد تفاوتات هائلة تسبب العوز والمجاعة، ووزارة الحقيقة تصنع الأكاذيب، والمهمة الأساسية لوزارة الحب هي ممارسة التعذيب والانتهاكات المنهجية. في هذا النظام الجديد، الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، ومعسكرات العمل القسري تُصنف كـ"معسكرات الفرح". يمكن أن يستمر تشويه الحقيقة طالما أن المواطنين لا يلاحظون، ولا يتساءلون، ولا يتفاعلون – ومن هنا جاء الشعار: الجهل قوة.
تركت رواية "1984" تأثيرًا عميقًا على عدد لا يحصى من الفنانين والكتاب من جميع الخلفيات. جريمة الفكر، ثقب الذاكرة، التفكير المزدوج، اللغة الجديدة... أصبحت المصطلحات التي صاغها أورويل ببراعة أجزاء أساسية من تراثنا الثقافي والأدبي. في عام 1974، أراد ديفيد باوي إصدار أغنية منفردة بعنوان "1984"، ولكنه لم يتمكن من الحصول على إذن من زوجة أورويل. أنتجت فرقة Radiohead أغنية بعنوان "2 + 2 = 5"، وأصدرت Manic Street Preachers أغنية أخرى باسم "Orwellian".
في الواقع، "الأورويلية" هي الصفة الأكثر استخدامًا اليوم المشتقة من اسم كاتب أو شاعر أو مفكر، متفوقة على مصطلحات مثل الديكنزية أو البيرونية أو الفرويدية أو الكافكاوية أو المكيافيلية. أتساءل أحيانًا عما إذا كان جورج أورويل سيشعر بعدم الارتياح أو حتى بالحزن عندما يرى أن اسمه أصبح مرادفًا لكل الأشياء التي كان يعارضها بشدة، أم أنه سيتفهم ويقبل المفارقة في هذا؟
عصرنا هو عصر المراقبة الجماعية، والحركات الاستبدادية الشعبوية، والديمقراطيات الهشة. لقد ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في تسريع تآكل الحقيقة ونشر المعلومات المغلوطة والافتراء وخطاب الكراهية. كان من الخطأ أن ننظر إلى المعلومات ونضفي عليها طابعاً رومانسياً باعتبارها علاجاً سحرياً لمشاكل العالم، فالمعلومات والمعرفة والحكمة هي أشياء مختلفة تمامًا. نتعرض كل يوم لوابل من آلاف المقتطفات من المعلومات، ولكن المعرفة قليلة جدًا، ولا يوجد وقت للإبطاء في اكتسابها، ناهيك عن الحكمة.
أصبحت رواية "1984" أكثر أهمية من أي وقت مضى، فهي تبرز ليس فقط بسبب الحكاية التحذيرية التي ترويها، ولكن أيضًا لأنها تدرك بشكل حاد قوة اللغة. الكلمات يمكن أن تشفي، والكلمات يمكن أن تؤذي، ويمكنها البناء أو التدمير. وبما أن البشر يفكرون ويتذكرون ويعالجون عواطفهم من خلال الكلمات، فمن أجل التحكم في التفكير النقدي والذكاء العاطفي، يجب مراقبة اللغة من الأعلى. اللهجة الرسمية لأوقيانوسيا هي "اللغة الجديدة"، والكلمات التي تُحذف يجب أن تُنسى فوراً.
تكره الدولة الشمولية الغموض، ولذلك فهي لن تسمح بالفروق الدقيقة في الأفكار. قال الفيلسوف والناجي من المحرقة تيودور أدورنو ذات يوم: "إن عدم التسامح مع الغموض هو علامة الشخصية الاستبدادية". في هذه العقلية المنغلقة لا يوجد تقدير للتنوع أو التعددية. لا مجال لعدم اليقين. يجب تضييق كل شيء إلى معارضة ثنائية صارمة: نحن في مواجهة هم. قد يتغير تعريف "هم" حسب أهواء النظام، ولكن يجب دائمًا أن يكون هناك "عدو"، ويجب تحرير التاريخ وإعادة كتابته ليناسب الدعاية الجديدة. يعلم الحزب أن "من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي".
بينما أكتب هذه المقدمة، زاد حظر الكتب في المدارس العامة الأمريكية بنسبة 35% تقريبًا بين يوليو 2022 ويونيو 2023. بدءًا من عدم المساواة العرقية إلى الحياة الجنسية إلى حقوق مجتمع المثليين، فإن أي موضوع يعتبر "غير مرغوب فيه" أو "غير مناسب" يمكن أن يكون خطيرًا، ويمكن استخدامه كذريعة للرقابة. قد يأتي يوم نشهد فيه إزالة "1984" من رفوف المكتبات. لضمان ألا يأتي هذا اليوم أبدًا، يجب قراءة هذه الرواية القوية والهامة وإعادة قراءتها ومشاركتها في جميع أنحاء العالم. وهذا واجبنا تجاه جورج أورويل.
مترجم من lithub
إرسال تعليق